خراب متنزهات جنين... من المسؤول؟
خاص بآفاق البيئة والتنمية

حديقة السويطات خاوية على عروشها!
تعاني المتنزهات والحدائق العامة المنتشرة في مدينة جنين وعددها ثمانية، من إهمالٍ شديد في أعمال الصيانة والنظافة والأمن، أي أبسط الأساسيات التي يجب أن تتوفر فيها، ما يفقدها الغرض الترويحي الذي أقيمت من أجله، وهو توفير متنفس لمواطني المدينة والقرى المحيطة.
كيف تحولت هذه المساحات الخضراء إلى بُقعٍ خاوية؟ أين دور المؤسسات الحكومية والمجتمعية للعناية بالبيئة؟ متى تتوقف الاعتداءات على الحدائق؟ ماذا تفعل البلدية لكي تحافظ على الحدائق العامة؟ ما هو مصير الأطفال إذا لم يجدوا متنفساً لهم في الحدائق والمتنزهات؟ أسئلة تحاول مجلة آفاق الإجابة عنها في هذا التقرير الموسّع.
خيوط التحقيق
تجولت المجلة في شوارع المدينة لمعرفة آراء المواطنين بخصوص هذا الواقعِ المزعج، تقول المواطنة آلاء قطنانة من حي الدبوس: "إهمال الحدائق يدفع بأطفالنا إلى الشوارع، وكلنا يعلم تأثير ذلك عليهم من اكتساب سلوكيات خاطئة تعرّضهم لانحرافات اجتماعية ونفسية". أما نهاد نمر من حي الخروبة، فقالت أن لهو الأطفال في الشوارع يزعج الجيران والمارة بسبب حجم الصراخ، والتلفظ بالكلمات النابية التي يكتسبونها هناك".
وفي ذات السياق يرفض المحاضر الجامعي د. حازم صوالحة التوجه مع عائلته للحدائق العامة بسبب تراكم الأوساخ وإنعدام العناية بمحتوياتها سواء المساحة الخضراء والمقاعد والألعاب، حتى المسارات بين مساحات الحديقة بمثابة "مزبلة".
أما الصحفي عبد الباسط خلف المتخصص في الشؤون البيئية فوصف واقع المتنزهات والحدائق، فليس ثمة متنفس فعلي يوفر الراحة للمواطن، والمتنزهات مفقودة تماماً، وما يوجد لا يتعدى كونه مجرد مساحات تتستر وراء عبارة (حديقة عامة)، ولكنها في حقيقة الامر مجرد مصادر مُدرة للدخل، وحتى أن الموقع الذي أقيم كمتنزه عام لبلدية جنين على مساحة 8,5 دونماً في بستان المسكوبية، جرى تحويله إلى مقر للبلدية عام 1986 بقرار من رئيس لجنتها المُعيّن آنذاك.
وأضاف خلف: "حتى المتنزهات الخاصة غير مطابقة للشروط البيئية في معظمها، حيث أن بعضها أُقيم فوق أراضٍ زراعية خصبة، وليس ثمة إحتياجات كافية للسلامة العامة، والمفارقة في فلسطين وجود بلديات أنشأت متنزهات عامة للمواطنين، وتحولت لاحقاً لملكيات خاصة".
وفي السياق ذاته، أشار المختص بتنسيق الحدائق المهندس مأمون ضراغمة إلى تقاعس واضح من ناحية الأمان والسلامة في حدائق جنين، وتساءل: كيف يمكن لأي شخص إرسال أولاده للعب في الحديقة في ظل عدم توفير الأمان لهم؟
ووصف ضراغمة هذه المتنزهات بـ"أوكار يرتادها "الزعران" بحسب تعبيره والمنحرفون"، مضيفاً أنه وبسبب عدم متابعة هذه القضية ازدادت التجاوزات المجتمعية والأخلاقية في تلك الأماكن.
مسؤولية ضائعة
د.يوسف القاروط رئيس الجمعية الفلسطينية البيئية التي حُلت وانتهى عملها، ركز على نهج "المسؤولية الضائعة"، ضارباً المثل بمتنزه السويطات جنوب المدينة، الذي زودته البلدية ( فترة رئاسة قدورة موسى) بشبكة كهرباء وماء، ولكن للأسف لم يتم متابعة الأمر من حيث السياج وتوفير الحراس فكان مصيره الإهمال.
أما فيما يخص حديقة البيادر التي تقع في الحي الشرقي من المدينة، فوفق د. القاروط، تم إعادة تأهيل المشروع (للعائلات والأطفال) مرتين، بالإضافة لجمع أموال هائلة له، ليكتشف فيما بعد أن أرض البيادر هي ملكٌ خاص.
وتابع د. القاروط إن التخطيط غير المدروس، وغياب التنسيق بين البلدية وأصحاب الأرض، دفع أصحابها لطرد البلدية، وترك الأرض تتحول إلى مكبٍ للنفايات.
والجدير ذكرهُ، وفق د.القاروط أن المادة رقم (45) من قانون البيئة الفلسطيني رقم 7 لعام 1999، ينص على وضع نظم وإجراءات تقييم الأثر البيئي لمتابعة وضع الحدائق ومدى ملاءمتها للمتنزهين. لافتاً إلى أن دور مديرية سلطة البيئة في جنين غائب، ويقتصر فقط على إعطاء التراخيص للمنشآت.
مراقبة غائبة
وفي ذات الصدد، قال عبد المنعم شهاب المدير العام لمديرية سلطة جودة البيئة في جنين: "نحن كأحد مؤسسات السلطة لا نمتلك الإمكانيات والطاقة الكافية لتنفيذ الواجبات المنوطة بنا، مع العلم قيامنا بتنظيم حملات تنظيف للحدائق العامة والمتنزهات، لكن هذا لا يكفي في ظل غياب وجود مراقبين للحدائق".
وواصل شهاب حديثه مشيراً إلى أن الجهة المسؤولة عن غياب المراقب هي البلدية، وحتى لو وُجد شخص أو اثنان، فهذا العدد لا يكفي للقيام بأعمال المتابعة والاهتمام على مستوى المدينة، والفشل بحد ذاته ناجمٌ عن سوء الإدارة أكثر مما هو ضائقة مالية، وأضاف أن هنالك الكثير من مؤسسات ووزارات السلطة مُشبعة فوق حاجتها بالموظفين.
ولفت شهاب إلى ايلاء البلدية الاهتمام بشكاوي المواطنين فيما يتعلق بحرق الإطارات، المياه العادمة، النفايات الصلبة، مكب زهرة الفنجان..الخ أكثر من اهتمامهم بالحدائق العامة.

حديقة السويطات الخضراء تتحول إلى بُقعٍ صفراء مليئة بالنفايات
أما مصطفى عمارنة مدير الدائرة الفنية في مديرية الزراعة بالمحافظة، فأشار إلى أن المتنزهات العامة لا تقع ضمن صلاحياتهم، بل هي مسؤولية البلدية، ويقتصر عملهم على الأحراش والمناطق الحرجية والزراعية فقط.
شماعة السياسة!!
"لا يتوفر لدينا إمكانيات تسيّر عملنا، ونحاول الآن فقط المحافظة على الموجود". هذا ما قاله بسام عايش مدير قسم الزراعة والتجميل في بلدية جنين لأكثر من 18 عام.
وأضاف: "بالنسبة للحدائق، صحيح أن لدينا قسم تجميل مختص بهذا العمل، لكن لا نملك إلا ثمانية عمال.
واعتبر عايش أن البلدية والحكم المحلي مشتركان في التقصير، حيث يستطيع المجلس البلدي طرح المشكلة على الحكم المحلي، وحل المشكلة من جذورها، ولكن يغيب الاهتمام الحقيقي.
ويسرد عايش بداية التراجع البيئي وتضاؤل الاهتمام الرسمي، مع الأزمة المالية التي رافقت حكومة حماس، وما ترتب عليها من ترحيل عشرات الموظفين، ما سبب أزمة موارد بشرية وإمكانيات، ومنذ ذلك الوقت بدأت صورة المدينة الخضراء تتراجع.
وأضاف بأن التنسيق مع المؤسسات الأخرى المعنية بالحدائق في أدنى مستوياته، ما سبب البطء الشديد في عملية التنمية البيئية، لكن من ناحيته، فهو يقوم بواجبه عبر طرح المشاكل على مجلس البلدية، وقرار التنفيذ ليس من مهامه.
سوء إدارة
للاطلاع على أسباب تراجع عدد الحدائق، تحدثت المجلة مع د.عصام علاونة وسناء بدوي عضوا المجلس البلدي السابق (2012 - 2016) حيث أوضح علاونة أن حديقة البيادر وسابقاً كان اسمها (البيارة)، كانت تابعة للبلدية رغم أنها ملك خاص، وهدفت البلدية آنذاك إلى استغلال الأرض بشكل مؤقت لحين شرائها، وقاموا بتحسينها عبر وضع الألعاب والكراسي والمقاعد والمعدّات، والموارد المختلفة.
وحين قرروا شراء أرض الحديقة، يضيف علاونة، تفاجأوا أن صاحب الارض طلب سعراً مرتفعاً( أكثر من 250 ألف دينار)، ما يفوق إمكانيات البلدية بكثير، ما حدا بصاحبها إلى بيعها لآخرين بعد رفض البلدية شراءها.
وأضاف: "تم الاتفاق على نقل كافة المعدات، والألعاب....الخ، إلى حرش السويطات التابع للبلدية، والمقام على مساحة 3-4 دونمات، لكنه تحول إلى مركز خدمات الجمهور مع حديقة صغيرة تستقبل الزوار، رغم كونه يفتقر للمتابعة والوحدات الصحية.
ومن زاوية أخرى، أصرت العضو سناء البدوي أن البلدية حققت إنجازات لا يمكن إنكارها، حيث أسست مركز إسعاد الطفولة الشامل لحديقة وملاعب وممرات مناسبة للأطفال عام 2014، على مساحة 3.5 دونمات وسط المدينة، عدا عن حديقة الجربيات التي مُولت من قبل وزارة الشباب سابقاً.
شُح العمال
وفسر علاونة تضاؤل القوى العاملة في قسم الزراعة والتنظيف وحراسة الحدائق من جهة، وتخضير المدينة من جهة أخرى، إلى أن جنين مدينة مترامية الأطراف، ولا يمكن توفير العدد العمالي الهائل بما يتناسب مع شوارعها وحدائقها وأحراشها، لمحدودية إمكانيات البلدية؛ التي تدفعها لاستئجار العمال وفق نظام "المياومة".
بدوره أكد د. محمد أبو غالي رئيس بلدية جنين المُنتخب في العام الحالي، أنه ومنذ استلام منصبه، ارتفع عدد العمال في قسم الزراعة من 10 إلى 20 عاملاً، للقيام بالحد الأدنى من الواجبات البيئية المنوطة بهم.
وأكمل حديثه: "بالرغم من التقصير بحديقة السويطات الذي وجدناه عندما وقفنا على رأس مسئوليتنا، لكنّا قمنا مباشرةً بالتعاون مع متطوعين ومؤسسات شبابية لتحسين الحديقة، وكان لدينا فكرة رائدة تشمل التخلص من القاذورات، بناء سور للحديقة، إعادة تأهيل وزيادة المقاعد".
وأضاف أبو غالي أنهم بصدد استملاك منطقة قريبة (أحراش) من جنين تبلغ مساحتها 68 دونما وهم ينتظرون الموافقة من وزير الزراعة سفيان سلطان.
وأضاف أن الأزمة المالية الصعبة التي تمر بها البلدية، والتي خلفت مشكلة نقص القوى البشرية، سببها عدم دفع المواطنين للمستحقات المفروضة عليهم منذ سنين ما سبّب تراكمات ديون فواتير مياه بلغت 100 مليون شيقل.
عقوبة بلا ردع!
وبالنسبة لعمليات التخريب والسرقة والاعتداء على الحدائق العامة، قال عايش أنهم يرفعون شكوى لإدارة البلدية، والرئيس يبلغ الشرطة الفلسطينية، ويتم تقديم المتهم للقضاء حسب قانون العقوبات الجزائي غير الرادع، مثل: مخالفة شخص اعتدى على الممتلكات العامة بدفع 5 دنانير فقط! والتي لا تعد عقوبة بالمعنى الحقيقي.
وفي سياقٍ متصل، قال د. حكمت عمارنة محاضر قانوني بالجامعة الأميركية، أن قانون العقوبات رقم 16 في القانون الأساسي الفلسطيني، هو بالأصل من الدستور الاردني الذي سُنَ عام 1960، فهو قديم ولا يراعي الظروف الحالية، وبالتالي لا يوجد عقوبات رادعة بالمعنى الحقيقي.
وأردف عمارنة " الهدف من العقوبة ليس الانتقام بل الحفاظ على الطبيعة والتراث والممتلكات العامة، وبالتالي فان كانت العقوبات ليست بمقدار الاعتداء والتخريب، ستشجع على مزيد من تلك السلوكيات المدمرة.
وأمام كل ما سبق، تشوهت صورة جنين الخضراء وأخذت تفقد صورتها الحضارية، وسيبقى الشارع والأزقة والبيت المتنفس الوحيد للصغار، فيما الكبار يغرقون في همومهم اللامتناهية.