خاص بآفاق البيئة والتنمية
تسمع كثيرًا عن المنهاج الزراعي، ويتردد مرارًا في شهادات صحافية تجمعها من طلبة ومعلمين سابقين، في موضوعات تربوية.
أول مرة تعرف فيها عن هذا المنهاج، يوم كنت في الثالث الإعدادي ( التاسع بلغة اليوم)، حينها قال مُدرّسنا أسعد عبيدي: كان معلمنا الشيخ عبد الله أستاذنا في التعليم الزراعي، وكان يخصص حديقة المدرسة لتطبيق ما يردده لنا من فصول الكتاب. حينها كان يخلع الحذاء، ويرفع بنطاله إلى الركبة، ويتجول في عز الشتاء بين المزروعات لفحص أعمالنا، وليقرّر لنا العلامة التي نستحق، وبعدها نجمع المحصول، ونقدمه للمدرسة ويعطينا جزءا منه..
المربي عاصم دراغمة يتحدث حول التعليم الزراعي
عام الاختفاء
ومما قاله لك قبل أيام المربي عاصم توفيق دراغمة، الذي عمل مدرسًا 44 عامًا: "كنت طالبًا في المدرسة الخضراء بحي العجمي في يافا، التي عمل فيها والده قبل النكبة، وانتقلت إلى مدارس طوباس ونابلس، وأبرز ما كانت تُضمه المدرسة الحدائق وفقاسات الدواجن، فقد كنا في مادة التعليم الزراعي نحصل على قطعة من الأرض، نتنافس على زرعها بمختلف المحاصيل كالبصل والفول والحمص والعدس، ويحصل الطلبة الأكثر تنظيمًا وإنتاجًا على أعلى العلامات ويحظون بعائد الحديقة، مثلما ينعمون بالدواجن التي تنتج في الفقاسة، أما أشجار التفاح واللوزيات وخاصة الدراق، فكانت تحيط بحديقة مدرستنا في طوباس، وتتميز بإنتاجها الوفير، وأشرف عليها المعلم عبد الله الزواتي، وكان آذنها سعد الله أبو الناجي، تبعه سليمان أبو السميح ثم أبو هاني. وكانت تمتد على مساحة كبيرة، صارت الإدارة تؤجرها لمزارعين بنحو 300 دينار سنــويًا، قبـــــل أن يتوقف التعليم الزراعي، وينتهي عصر الحديقة المدرسية عام 1979.
ومما لا ينساه الراوي دراغمة، التغيرات العديدة التي عصفت بالمدارس، التي كانت تجبر الطلبة على حلق شعرهم حتى الصف السابع، وتشجعهم على المنافسة بالحديقة والفقاسة، وتشعل فيهم روح المنافسة، وتجعلهم يبدون احترامًا كبيرًا للمربين.
وقال: أتلفت الهواتف النقالة روح المعرفة، وتراجعت هيبة المعلمين، وصارت المناهج أقل زخمًا، وتضخمت العلامات كثيرًا، كما يحدث في الثانوية العامة.
تعليم زراعي 1
حدائق وفقاسات
أما صلاح يونس خضيري، الذي أبصر النور في طوباس أوائل شباط 1947، فسرد لـ (آفاق): أستهل نهاري بالاستيقاظ المبكر بعد صلاة الفجر، لأدخل إلى مزرعتي، وأتفقدها، وأروي شجرها، وأقطف ثمارها، وأعتني بفسائل التين والعنب والتفاح التي زرعتها بنفسي، وأوزع بعض الغراس الصغيرة على المعارف والأصدقاء، وهذا ما تأثرت به خلال دراستي.
وأضاف: أزرع الكثير من الأشجار والمحاصيل، وأجلس في حديقتي المحاطة بالأزهار، وأراقب عصفور الشمس الفلسطيني والهدهد، وأسعد بالزيتون الذي يتدلى مثل العناقيد، وأتابع أشجار التفاح والإجاص والتين القزمي..
وتابع: تراجع التعليم كثيرًا، ولا أنسى كيف كنا نتناوب في درس التعليم الزراعي على السهر في مزرعة دواجن تابعة للمدرسة، وكنا نأخذ معنا فراشنا، ونعمل طوال الليل لمراقبة درجة الحرارة المناسبة لتفقيس البيض، فيما كنا نزرع حديقتها الواسعة ( نحو 88 دونماً) بالخضروات والفواكه والقمح، وتعيش معنا طريقة المعلم علي حسن ووصفي الكرمي. واليوم تغير كل شيء من حولي، واختفى منهاج التعليم الزراعي من المدارس، ولم يعد الطلبة يشاهدون حدائق أو أشجار أو فقاسات.
وقال المربي المتقاعد أحمد إبراهيم: المناهج القديمة كانت أقرب إلى الأرض من مناهج اليوم، وكنا نعرف الكثير من المفاهيم الزراعية، ونجري التجارب، ونزرع، ونجمع الثمار، وكانت هناك كتب وخرائط وأدلة، ومنافسة تجعلنا نهتم بالمعرفة في شؤون الزراعة.
من منهاج التعليم الزراعي في الخمسينيات
"ثروة" ضائعة
تبحث عن نسخة من سلسلة "التعليم الزراعي" فتجد الكتاب الخاص بالصف الثالث الإعدادي، والذي ألّفه: عبد الرحمن النجّاب، وعبد اللطيف عربيات، وأحمد الصاحب سنة 1969، ومما قالوه في مقدمتهم:" وضع هذا الكتاب حسب المناهج المقررة للتعليم الزراعي في المرحلة الإلزامية، ليكون متممًا لكتابي التعليم الزراعي للصفين الأول والثاني الإعداديين، وهو يحتوي على أربع وحدات هي: الوحدة الحيوانية، وتشمل تربية صغار كل من الأبقار، والأغنام، والدواجن. والوحدة النباتية، وتبحث في زراعة كل من أشجار الفاكهة والخضروات. ووحدة التصنيع الزراعي، التي توضح أهمية تصنيع المنتجات الزراعية، وتصف بعض الطرق المستعملة في هذا التصنيع. ووحدة المشاريع الزراعية، التي يمكن للطلاب القيام بها، وتصف طريقة إدارتها والتخطيط لها."
وأضافوا: احتوت الوحدات الثلاث الأولى على الخبرات والمهارات، التي تُمكن الطالب من القيام بالمشاريع الزراعية، التي يرغب فيها، والتي حوتها الوحدة الرابعة.
وتابعت المقدمة:" حتى يكون تدريس هذا الكتاب أكثر فائدة وعمقًا، يرجى من المعلمين أن يبنوا تدريسهم على أساس إشراك الطلاب في المناقشة والاستنتاج، وتشجيعهم على إجراء التجارب والتطبيق العملي، وحثهم على إحضار خبراتهم الخاصة للمشاركة فيها مع غيرهم أثناء البحث والتطبيق."
مما جاء في الكتاب ( ص 119): الأصناف الهامة للبطيخ، المحسيني، وهو صنف بلدي يتحمل التخزين، وثماره مستديرة الشكل خضراء اللون نوعًا ما، ولكن اللب يكون أحمر اللون عند النضج، نجح هذا الصنف في معظم مناطق زراعة البطيخ في الأردن. والعدني: وهو صنف بلدي زرع في محطة الفارعة مع الصنف الأمريكي، وقد حصدا أعلى إنتاج من بين 17 صنفًا زرعت في وقت واحد.
ولم يروّج الكتاب للمبيدات الكيماوية على نحو مفرط، فسرد الأمراض التي تصيب البطيخ ( ص 120)، فقدم إرشادات لتعقيم البذور بكلوريد الزئبق لمكافحة الأمراض الفطرية، ونصح بتعقيم التربة والبذور لمقاومة الذبول (الفو زاريوم)، ودعا لاستخدام الكبريت لمكافحة البياض الزغبي.
واشتملت منهجية الكتاب في تعليم طرق الزراعة على التعريف بموعد وطريقة الزراعة، وأهمية الصنف، والعائلة التي ينتمي إليها ( الباذنجانية، والقرعية، والصليبية، والبقولية، والنرجسية، والخيمية)، والتعهد والنضج وجني المحصول، والأصناف الهامة، والأمراض والحشرات ومكافحتها.
منهاج التعليم الزراعي في الخمسينيات
تجربة وأجيال
تختار مجموعة طلبة من الصف التاسع في إحدى المدارس لتجربة قصيرة، وتسألهم عن معرفتهم أو سماعهم بمجموعة من المفاهيم الواردة في الكتاب، الذي كان لأبناء جيلهم القدامى. لا تطلب منهم غير كتابة أو رسم أو إشارة لمعرفة ما ولو عامة، ولو مجرد المرور على الكلمة في يوم ما.
والمفاهيم والمصطلحات العشرة المختارة من الكتاب: التقليم الإثماري، البرتقال الشمّوطي (اليافاوي)، مرض التصمّغ (الذي يصيب الأشجار)، الفسائل، الأسمدة العضوية، العزق، التقاوي، البتيري والعجمي ( صنفان من الباذنجان)، محاصيل الخضر، الكشك ( الجَميد).
لسوء الطالع يعجز الطلبة ( وعددهم 20) في معرفة 8 من الكلمات، بالرغم من أنهم يعيشون في منطقة زراعية وغنية بالثروة الحيوانية.
يُذكرك الأمر بتجربة مماثلة ( نشرت في النسخة السابقة من آفاق) حين رد فتيان وزهرات من جنين على سؤال حول السمسم والبطيخ: لم نشاهد البطيخ في أراضي جنين، وما نراه فقط دوار البطيخة ( ثمرة بطيخ مصنوعة من المعدن، وموضوعة في إحدى الطرقات).
وحين تسألهم عن نبتة السمسم، فيجمع 48 من 50 أنهم لم يروها من قبل، ولم يشاهدوا صورتها، ولا يعرفون كيف تزرع، ومتى تزرع، وكيف يتم الحصول على حباتها.
لكن أحمد فقط قال إنه شاهد جده وهو يعمل في أرضه ويبذر السمسم في الربيع، ويجمع حباته الصغيرة بعد قلع النبتة وتجفيفها، ثم طرق أجراسها في شهر آب.
عمومًا، يبدو "التعليم الزراعي" كعينة من المنهاج القديم أقل فنًا في الشكل، مقارنة بكتب اليوم التي استفادت من الطفرة التكنولوجية في التصميم والطباعة والإخراج. أما المضمون ففيه ما يقرّب الطلبة من أرضهم وبيئتهم، لكننا بحاجة لدراسة شاملة أعمق لمضمون وتأثير المنهاج الجديد، وخاصة التركيز على صلته بالأرض والحفاظ عليها، وتتبع الفوارق بينه وبين المناهج التي أُخرجت من الخدمة.
aabdkh@yahoo.com