الأرض المحروقة في غزة.. كيف حوّل العدوان قطاع الزراعة إلى رماد
خاص بآفاق البيئة والتنمية
على الرغم من الدمار الواسع، فإن القطاع الزراعي في قطاع غزة يتمتع بقدرة فائقة على التعافي السريع. فبعد انتهاء العدوان، يمكن لآلاف المزارعين أن يعيدوا إحياء دورة الإنتاج الزراعي في فترة زمنية قصيرة، شريطة توفر الإمكانات الأساسية. لكن هذا التعافي يتطلب أكثر من مجرد إعادة زراعة الأراضي، بل يتطلب إرادة سياسية قوية ودعماً دولياً لرفع الحصار وتمكين الفلسطينيين من بناء نظام غذائي مستقل ومستدام.
|
في خضم العدوان الدموي الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، لم يكن القطاع الزراعي بمنأى عن الدمار الذي طال كل شيء في طريقه. وفقاً لتقارير ميدانية صادرة عن اتحاد لجان العمل الزراعي، دُمرت أكثر من 75% من الأراضي الزراعية في القطاع، مخلفة وراءها مشهداً من الخراب لم تشهده البشرية منذ أكثر من قرن. لم تكن هذه الحرب مجرد هجوم عسكري، بل كانت أيضاً حرباً على الأرض والغذاء، وعلى الحياة نفسها.
الزراعة في غزة: عمود الاقتصاد وصمام الأمان
يشكل القطاع الزراعي في غزة ركناً أساسياً في الاقتصاد الفلسطيني، حيث يساهم بنحو 11% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. ليس هذا فحسب، بل إنه يلعب دوراً محورياً في توفير فرص العمل وتخفيف حدة البطالة، خاصة في ظل الحصار الذي يعانيه القطاع منذ سنوات طويلة. ففي عام 2022، شكلت الصادرات الزراعية 55% من إجمالي صادرات غزة، بقيمة وصلت إلى 32.8 مليون دولار، إذ كانت الخضروات ومنتجات البستنة على رأس هذه الصادرات.
لكن الحرب الأخيرة حولت هذا القطاع الحيوي إلى رماد. شمال غزة، الذي كان يعتبر سلة الغذاء الرئيسية للقطاع، دمر الاحتلال أكثر من ثلث أراضيه الزراعية. هذه المنطقة كانت توفر أكثر من 30% من احتياجات قطاع غزة من الخضروات والمحاصيل الحقلية مثل القمح والحبوب. أما في محافظة خان يونس، فقد تم تدمير أكثر من 90% من الأراضي الزراعية، ما ألقى بظلاله الكثيفة على مستقبل الأمن الغذائي في القطاع.

الزراعة في زمن العدوان على قطاع غزة
أشجار الزيتون: رمز الصمود الذي تحول إلى رماد
لم تكن الأراضي الزراعية وحدها هي التي تعرضت للدمار، بل أيضاً أشجار الزيتون، التي تشكل حوالي 60% من أشجار البستنة في قطاع غزة. هذه الأشجار، التي كانت تُعتبر رمزاً للصمود والاستمرارية، تم استهدافها بشكل ممنهج من قبل القوات الإسرائيلية. ففي محافظة خان يونس، حيث تبلغ نسبة الأراضي المزروعة بأشجار البستنة 31.3%، تم تدمير معظمها، ما أثر بشكل كبير على الاقتصاد الزراعي الذي يعتمد بشكل كبير على هذه الأشجار المثمرة.
الخسائر الفادحة: 2 مليون دولار يومياً
وفقاً لتقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن الخسائر اليومية في الإنتاج الزراعي تقدر بحوالي 2 مليون دولار. الخسائر جاءت نتيجة تعطل دورة الإنتاج بسبب القصف المتواصل، وتجريف الأراضي، وإغلاق العديد من المناطق الزراعية على طول حدود القطاع. وإذا ما أضفنا إلى ذلك الدمار الذي لحق بالأصول والممتلكات الزراعية، فإن التكلفة الإجمالية للخسائر قد تتجاوز ربع مليار دولار.
الصيد: مهنة الأجداد تحولت إلى كابوس
لم ينجُ قطاع الصيد من وطأة الحرب. ففي مدينة غزة وحدها، تم تدمير 98% من قطاع الصيد، بما في ذلك ميناء غزة وأكثر من 900 قارب. وفي رفح ودير البلح، تم تدمير أكثر من 70% من هذا القطاع، حيث حطم جيش الاحتلال أكثر من 600 قارب. هذه الخسائر ليست مجرد أرقام، بل هي قصص حياة لأكثر من 4000 صياد، نصفهم من شمال القطاع، كانوا يعتمدون على البحر لتأمين قوت يومهم.
الثروة الحيوانية: من الاكتفاء الذاتي إلى الدمار الشامل
لم يكن قطاع الثروة الحيوانية بمنأى عن الدمار. فبعد سنوات من الاكتفاء الذاتي من اللحوم البيضاء وبيض المائدة، دُمر قطاع الدواجن بالكامل، سواء بسبب القصف المباشر أو نقص الأعلاف. محافظة خان يونس، التي كانت تساهم بنحو 26% من إجمالي أعداد الدواجن في قطاع غزة، شهدت دماراً شاملاً لهذا القطاع. كما أن أكثر من 60% من أعداد الأبقار والضأن والماعز، التي كانت تُستخدم لإنتاج اللحوم الحمراء، تعرضت لخسائر فادحة.
 |
 |
الزراعة الغزية في ظل القصف والمجازر |
أباد الاحتلال الإسرائيلي مزارع الدواجن والخضراوات بالكامل في شمال قطاع غزة |
الأرض والزراعة: سلاح الفلسطينيين في مواجهة الجوع
في مواجهة الحصار الخانق، تحولت الزراعة في قطاع غزة إلى سلاح فعّال ضد الجوع. فبالرغم من الحرب والاستهداف المستمر للأراضي الزراعية، استطاع المزارعون الفلسطينيون توفير كميات كافية من الإنتاج الزراعي، بما في ذلك الخضروات الأساسية مثل البندورة والخيار والكوسا. هذه الجهود لم تكن فقط لتأمين الغذاء، بل كانت أيضاً رسالة قوية للعالم بأن الشعب الفلسطيني لن يستسلم للجوع أو للقصف.
إعادة الإعمار: طريق طويل نحو التعافي
على الرغم من الدمار الواسع، فإن القطاع الزراعي في قطاع غزة يتمتع بقدرة فائقة على التعافي السريع. فبعد انتهاء العدوان، يمكن لآلاف المزارعين أن يعيدوا إحياء دورة الإنتاج الزراعي في فترة زمنية قصيرة، شريطة توفر الإمكانات الأساسية. لكن هذا التعافي يتطلب أكثر من مجرد إعادة زراعة الأراضي، بل يتطلب إرادة سياسية قوية ودعماً دولياً لرفع الحصار وتمكين الفلسطينيين من بناء نظام غذائي مستقل ومستدام.
السيادة على الغذاء: المفهوم الأكثر إلحاحاً
في ظل هذه الظروف، يبرز مفهوم "السيادة على الغذاء" كأولوية قصوى. فالأمن الغذائي وحده لا يكفي، بل يجب أن يتمتع الفلسطينيون بالسيادة الكاملة على مواردهم الغذائية. وهذا يتطلب إعادة تأهيل البنية التحتية الزراعية، ودعم المزارعين، وتشجيع الزراعة المستدامة التي تتكيف مع التحديات السياسية والبيئية.
الزراعة كرمز للصمود
القطاع الزراعي في قطاع غزة، بمساحته التي تقدر بحوالي 117 ألف دونم، كان دائماً رمزاً للصمود. فبالرغم من الحصار والحرب، استمر هذا القطاع في توفير الغذاء لمئات الآلاف من السكان، ليصبح المنقذ الرئيسي للعديد من العائلات. اليوم، وبعد الدمار الذي لحق به، يحتاج هذا القطاع إلى دعم عالمي لإعادة بنائه، ليس فقط كمصدر للغذاء، بل كركيزة للتنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي.
أخيرا، فإن قصة القطاع الزراعي في غزة هي قصة صمود وإرادة، قصة شعب يرفض أن يستسلم للجوع أو للدمار. وهي تذكير بأن الأرض، عندما تُزرع بالإرادة، يمكن أن تكون طاقة صمود جبارة.