خاص بآفاق البيئة والتنمية
ما شهدناه من فيضانات ضخمة غير مألوفة في باكستان (العام الماضي)، دمرّت عشرات آلاف المنازل والمنشآت وشردت عشرات الملايين، وإعصار قاتل في ليبيا أباد الآلاف ودمر بلدات ومدنا بأكملها، لن يبقى في باكستان وليبيا وحدهما، بل قد يمتد إلى سواحلنا. التقديرات العلمية الجديدة تأخذ في الاعتبار الذوبان السريع للأنهار الجليدية في القارة القطبية الجنوبية وجرينلاند، واستنتاجها مثير: في غضون ثلاثة عقود تقريبًا، قد تختفي مقاطع كبيرة من سواحل فلسطين بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر. بعض المصادر توضح بأنه حتى زيادة نصف متر ستؤدي إلى اختفاء الكثير من شواطئ فلسطين. كما يتزايد خطر حدوث عواصف متطرفة وعنيفة وأمواج بحرية بارتفاعات غير مسبوقة، ستلحق الضرر الشديد بالمناطق الساحلية والبنية التحتية. المطلوب إنشاء وحدة متخصصة للتعامل مع أزمة المناخ، بحيث تزود الخبراء والباحثين والجهات الرسمية بالبيانات وأدوات القياس، وبالتالي إعداد وصياغة خطة وطنية حول هذه المسألة.
|
|
ارتفاع سطح البحر بسبب التغير المناخي يتسبب في تآكل تدريجي للشواطئ |
يرتفع مستوى سطح البحر في فلسطين بوتيرة متزايدة، بسبب أزمة المناخ الناجمة عن حرق البشر للوقود الأحفوري. التغيير الذي يتعين علينا الاستعداد له يتوقع أن يكون أشد مما كان معروفا حتى الآن. يفترض بفلسطين أن تستعد لارتفاع تقديري في مستوى سطح البحر قد يصل إلى متر واحد بحلول عام 2050 ومترين إلى مترين ونصف بحلول عام 2100. حتى الآن، قدرت التوقعات الدولية بأنه مع حلول منتصف القرن الحالي، سيرتفع مستوى سطح البحر بنحو 25 سم، وبحلول نهايته سيرتفع بنحو 70 سم. بعبارة أخرى، تُظهر أحدث التقييمات المهنية بأن هناك حاجة ملحة لتكثيف جهود التأهب لعواقب أزمة المناخ.
الفيضانات الضخمة غير المألوفة في باكستان (العام الماضي)، والتي دمرّت عشرات آلاف المنازل والمنشآت وشردت عشرات الملايين، لن تبقى في باكستان وحدها، بل قد تمتد إلى سواحلنا. والإعصار الأخير في ليبيا الذي تسبب في قتل الآلاف وتدمير بلدات ومدن بكاملها (وبخاصة مدينة درنة) دليل صارخ على ذلك.
التقديرات العلمية الجديدة تأخذ في الاعتبار الذوبان السريع للأنهار الجليدية في القارة القطبية الجنوبية وجرينلاند، واستنتاجها مثير: في غضون ثلاثة عقود تقريبًا، من المتوقع أن تختفي مقاطع كبيرة من سواحل فلسطين بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر. بعض المصادر توضح بأنه حتى زيادة نصف متر ستؤدي إلى اختفاء الكثير من شواطئ فلسطين.
كما يتزايد خطر حدوث عواصف متطرفة وعنيفة وأمواج بحرية بارتفاعات غير مسبوقة، ستلحق الضرر الشديد بالمناطق الساحلية والبنية التحتية.
رغم ذلك، لا يوجد بشكل عام، ولدى السلطة الفلسطينية وتحديدا في قطاع غزة، توقعات رسمية لارتفاع مستوى سطح البحر أو سيناريو مرجعي يمكن بموجبه أن تبلور السلطات المحلية والتخطيطية والأمنية آليات الدفاع والمواجهة، وتفهم كيف سيؤثر هذا الارتفاع. ففي غياب البيانات والمعطيات والتوقعات للأضرار، لا يمكن أيضًا تخصيص موازنة أو هيئة مسؤولة مكرسة بالكامل لصياغة حلول للمشكلة.
يؤكد العلماء والخبراء العاملون في هذا الحقل أن ارتفاع مستوى سطح البحر هو مجال علمي يشوبه عدم اليقين، وبأن الارتفاع قد يكون شديدا أو معتدلاً، اعتمادًا على الجهود البشرية لتقليل انبعاثات غازات الدفيئة التي تسبب أزمة المناخ. إلا أن الخبراء يتفقون على أنه حتى في السيناريو المتفائل، من المتوقع أن يزيل الارتفاع ما يصل إلى عشرات الأمتار من شواطئ فلسطين.
من بين أمور أخرى، فإن ارتفاعاً قدره متر واحد من المتوقع أن يغطي جزءًا كبيرًا من شواطئ جنوب غرب حيفا، وقد تختفي في الغالب شواطئ حيفا الواقعة في منطقتي "العززية" و"وادي الجِمال"؛ كذلك قد تختفي تمامًا شواطئ يافا الضيقة. ومن المتوقع أن يتحرك البحر في أسدود شرقًا عشرات الأمتار.
كما ظهرت في السنوات الأخيرة في قطاع غزة عملية تآكل الشواطئ مُتواترة السرعة. وتبدو الظاهرة واضحة في الصور الجوية للشاطئ وبالعين المجردة. ويمتد التآكل والاهتراء الواضح لشاطئ البحر في عدة مناطق، من المجدل شمالًا إلى رفح جنوبًا، وأبرز هذه المناطق مخيم الشاطئ شمالا، ومنطقة الزهراء، ودير البلح، والقرية السويدية في رفح جنوبا؛ بمعنى أن بؤراً عدة يهددها خطر الغرق من شمال الساحل حتى جنوبه.
شواطئ بحر غزة المتآكلة
أزمة المناخ وارتفاع مستوى سطح البحر
ما المدى الدقيق للضرر؟ لا يُتوقع أن يكون الضرر موحدًا؛ إذ أن بعض الشواطئ ستفقد بضعة أمتار، بينما ستفقد أخرى عشرات الأمتار، لكن حتى ارتفاع مستوى سطح البحر وفقًا للتوقعات الأكثر تحفظًا، سيؤدي إلى تغييرات واسعة النطاق في الشريط الساحلي.
شواطئ الاستحمام التي نعرفها واعتدنا عليها ستختفي في الغالب، وسيصل البحر إلى سفح المنحدرات، بمعنى أن أي شخص على الممشى المحاذي لشاطئ السباحة سينزل الدرج مباشرة الى البحر.
ما العلاقة بين أزمة المناخ وارتفاع مستوى سطح البحر؟ معدل ارتفاع مستوى سطح البحر تسارع منذ بداية العصر الصناعي. والسبب في ذلك هو احتراق الوقود الأحفوري وانبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري في الغلاف الجوي، ما يتسبب في ارتفاع درجة الحرارة وتسريع ذوبان الكتل الجليدية عند القطبين؛ وفي المحصلة مياه البحر تتمدد عندما ترتفع درجة حرارتها.
البحر في فلسطين تحديدا آخذ في الارتفاع سنويا منذ ثلاثة عقود. خلال هذ الفترة تم قياس متوسط زيادة قدرها 4.6 ملم سنويًا، أي إجمالي 13.8 سم خلال السنوات الثلاثين الأخيرة. وللمقارنة، بلغ المعدل العالمي للزيادة 3.25 ملم سنويا خلال ذات الفترة.
ثلاث دراسات جديدة فاقمت التوقعات إلى حد كبير، اثنتان تتعلقان بمساهمة الأنهار الجليدية في القطب الجنوبي، والثالثة بشأن مساهمة الأنهار الجليدية في جرينلاند في ارتفاع مستوى سطح البحر. وبحسب تلك الدراسات، يجب أن تستعد فلسطين لارتفاع في مستوى سطح البحر يصل إلى متر واحد بحلول عام 2050، وارتفاعا بمقدار 2 إلى 2.5 متر بحلول عام 2100. وبما أن معدل الذوبان آخذ في الازدياد، ففي عام 2150 من المتوقع أن يكون ارتفاع مستوى سطح البحر في فلسطين حوالي خمسة أمتار.
من الضروري الإشارة هنا إلى أن هذا المجال البحثي يتضمن قدرا كبيرا من عدم اليقين، لكننا ندرك أن هذه هي الارتفاعات التي قد يصل إليها البحر في فلسطين، والسؤال هو مدى سرعة الوصول إلى هكذا ارتفاعات.
أمواج البحر في فلسطين تزداد ارتفاعا بشكل غير مسبوق
نظرا لذوبان الغطاء الجليدي في جرينلاند، نتوقع أن تنعكس الزيادة العالمية في البيانات المتعلقة بقياس طول الساحل الفلسطيني أيضًا. ومن المتوقع أن يتسبب ارتفاع مستوى سطح البحر في العقود المقبلة في فيضانات وأضرار جدية محتملة بالبنى التحتية القائمة، مثل الموانئ ومحطات التحلية ومنشآت الطاقة. وقد يؤدي ارتفاع مستوى سطح البحر أيضًا إلى تملح المياه الجوفية وإلحاق الضرر بالأراضي الزراعية القريبة من الشواطئ.
في حال وصول مياه البحر إلى الجداول أو الأنهار، فإن ارتفاع مستوى سطح البحر يعني بأن لا سبيل لمياه الجداول بالخروج إلى البحر بسهولة؛ عندئذ ستحدث الفيضانات في أعلى الجداول، أي في المناطق الداخلية الأبعد من الساحل.
الارتفاع الذي حدث بالفعل في مستوى سطح البحر أدى إلى فقدان أمتار عديدة من الساحل الفلسطيني. ويقدر الخبراء أن كل ارتفاع إضافي بمقدار نصف متر يعني خسارة نحو 30 مترا من الشاطئ، حسب نوع الأرض ومدى انحدارها. ولو علمنا أن عرض الشريط الساحلي في معظم الشواطئ الفلسطينية أقل من 50 مترا، فهذا يعني أن ارتفاع مستوى سطح البحر يثير مخاوف جدية على مجرد وجود الشواطئ في فلسطين.
علاوة عن ذلك، ارتفاع مستوى سطح البحر والعواصف الشديدة والأمواج يمكن أن يتسبب في أضرار جسيمة للمنحدرات الساحلية.
ورغم التحذيرات العالمية من ارتفاع مستوى سطح البحر منذ سنوات عديدة، لا يوجد في المستوى الفلسطيني، بل والعربي عموما، هيئة رسمية مسؤولة عن رفع مستوى الجهوزية للتعامل مع ارتفاع مستوى سطح البحر أو إعداد خرائط رسمية بهذا الخصوص.
وفيما يتعلق بالتوقعات المستقبلية، يعتمد بعض الخبراء المحليين على الحسابات الدولية دون إضافة بيانات لنقاط محددة في الساحل الفلسطيني، لأنهم لا يمتلكون المعادلات المناسبة لإجراء التوقعات بدقة جيدة. إنشاء مركز متخصص في التوقعات المناخية يمكن أن يحل المعضلة.
إذن، خلال فترة زمنية قصيرة، توجد احتمالية جيدة لحدوث ارتفاع كبير في مستوى سطح البحر؛ علما أن الساحل الفلسطيني الطويل مكشوف وبالتالي ضعيف للغاية. هذا يُلْزِم جميع الجهات ذات الصلة بالاستعداد المنهجي والأفقي. التجربة العالمية تعلمنا أن مثل هذا الاستعداد يجب أن يشمل إقامة كيان مؤهل وظيفته تقديم تقييمات وتوقعات حول ارتفاع مستوى سطح البحر، وتحديد مُعامِلات الأمان الوطنية للحفاظ على المباني، وإجراءات التطوير بعيدًا عن الشواطئ، فضلا عن إجراء مسح للمخاطر المتعلقة بالبنى التحتية والأماكن التي قد تتضرر، مثل المنحدرات الساحلية والموانئ ومحطات تحلية المياه ومحطات الطاقة وغير ذلك، وبالتالي اتخاذ الإجراءات الوقائية حيالها.
وعلى سبيل المثال، في حالة عدم وجود استعداد مسبق في قطاع غزة، فقد نجد أنفسنا في موقف يتعين علينا فيه استثمار أموال طائلة في المستقبل لحماية الأحياء السكنية والبنى التحتية من الفيضانات، بل قد لا نتمكن من حماية بعضها، وبالتالي سوف تُهْجَر. بعض الأماكن في العالم يُدفع فيها للسكان مبالغ مالية لمغادرة منازلهم والانتقال إلى أماكن أعلى. بمعنى، يجب ألا نكون سلبيين ومتفرجين على الخطر الداهم.
المخاوف السابقة مُدَعَّمَة بالأبحاث. فبحسب نتائج بحث إسرائيلي نفذ عام 2019 على شواطئ أسدود و"تل أبيب" و"العززية" في حيفا، أجرته كلية علوم البحار في مركز روبين الأكاديمي وكلية علوم البحار في جامعة حيفا، فإن هذه الشواطئ سوف تغمر وتختفي، وذلك في حال حدوث سيناريو يرتفع بموجبه مستوى سطح البحر بمقدار 40 سم فقط. فإذا كان هذا حال أسدود المحاذي لقطاع غزة، فماذا سيحدث لشواطئ غزة التي تتآكل منذ الآن بوتيرة متسارعة، ابتداء من مخيم الشاطئ شمالا وحتى القرية السويدية في رفح جنوبا.
أخيرا، كي نفهم العواقب المتوقعة من ارتفاع مستوى سطح البحر، يفترض بالجهات الفلسطينية المعنية أن تبادر لإنشاء بوابة مختصة بمخاطر المناخ، بحيث تعرض، من بين أمور أخرى، خرائط لارتفاع مستوى سطح البحر وعواقبه المتوقعة، في ظل سيناريوهات مختلفة.
المطلوب إنشاء وحدة متخصصة للتعامل مع أزمة المناخ، بحيث تزود الخبراء والباحثين والجهات الرسمية بالبيانات وأدوات القياس. فإمكانيات المركز في القياس، وأرشيف التصوير الجوي، والمعلومات الجغرافية وقدرات التحليل يعد أداة مركزية في إعداد وصياغة خطة وطنية حول هذه المسألة.