خاص بآفاق البيئة والتنمية
هنا في قطاع غزة، يترك الاحتلال والحصار بصمة في كل شيء، حتى إعادة التدوير أصبح لها ظروفها الخاصة، فقد طَرق الغزيون بابها بحثًا عن حلول لبعض مشاكلهم. وبسبب غياب الإمكانيات تُفرز النفايات بطرق بدائية، وبعد الفرز يخضع جزء منها للتدوير، فيما يُصدّر الجزء الآخر، وبذلك لا تكتمل رحلة "الاقتصاد الدائري" القائمة على إعادة استخدام المنتجات المُستهلكة لتقليل كمية النفايات المتبقية، ولأن الاحتلال يُطبق خناقه على سكان القطاع، فقد وجد بعضٌ منهم في الاقتصاد المقاوم ملاذًا يتمثل في إعادة التدوير لإيجاد مصدر دخل وصنع مواد خام لا يمكنهم الحصول عليها بالاستيراد.
|
 |
أغنام في قطاع غزة ترعى وسط مكب النفايات |
أطفالٌ يلتفون حول حاوية قمامة برتقالية، الطريق مزدحم، لكنهم لا يبالون بحركة السيارات الخطيرة.
ولو خرجت من بين أيديهم مخلفات حادة، فهذا لا يوقفهم، وإن أخبرتهم أن ما يفعلوه مضرٌ بصحتهم، فلن تجد آذانًا صاغية، تركيزهم منصّب على هدف واحد، البحث في القمامة عن أي شيء يمكن بيعه، إنه مشهدٌ مألوف في شوارع قطاع غزة، يصل النبّاشون للحاويات قبل سيارات نقل القمامة التابعة للبلديات، يمرون على المكان عدة مرات يوميًا، علّهم يجدوا جديدًا يزيد ولو قليلًا المبلغ الضئيل الذي سيحصلون عليه مقابل ما جمعوه.
هنا، حيث يترك الاحتلال والحصار بصمة في كل شيء، فإن لإعادة التدوير ظروفها الخاصة، طَرَق الغزيون بابها بحثًا عن حلول لبعض مشاكلهم، وبسبب غياب الإمكانيات تُفرز النفايات بطرق بدائية، وبعد الفرز يخضع جزء منها للتدوير، ويُصدّر الجزء الآخر، وبذلك لا تكتمل رحلة "الاقتصاد الدائري" القائمة على إعادة استخدام المنتجات المُستهلكة لتقليل كمية النفايات المتبقية، ولأن الاحتلال يُطبق خناقه على سكان القطاع، فقد وجد بعضهم ملاذًا في الاقتصاد المقاوم عن طريق التدوير؛ في سبيل إيجاد مصدر دخل وصنع مواد خام لا يمكنهم الحصول عليها بالاستيراد.

الزجاج المفروز في ورشة الفرز بغزة
أسباب الاهتمام
تتعدد أشكال العمل في مجال إعادة التدوير بالقطاع، وتختلف نتائجها ومداخيلها المادية، يعمل فيها النباشون الذين يفرزون القمامة في الشوارع، والتجار الذين يصدّرون بعض المخلفات، وأصحاب المصانع والمجارش الذين يعيدون تدويرها فيصنعوا منتجات جديدة أو مواد خام، وهناك أصحاب المشاريع الصغيرة الذين يعملون في نطاق أضيق، والمبادرون الذين يسعون لنشر الفكرة ويتعاونون مع البلديات لتقديم المستطاع في هذا المجال.
من هذه المبادرات، "سلة بلدنا"، التي انطلقت عام 2019، إذ يتحدث منسق المبادرة المهندس أكرم طموس لـمراسلة "آفاق البيئة والتنمية" عن واقع إعادة التدوير بحكم اطلاعه عليه عن كثب.
في عام 2018، شبّ حريق في مكب نفايات عشوائي قريب من مكان عمل طموس، فتجلّت له المخاطر البيئية بدرجة أكثر من قبل، فتساءل: لماذا لا ننقل المخلفات مباشرة من البيوت لأماكن تدويرها؟، ومن هنا بدأ يتحرك لإطلاق المبادرة.
تقوم فكرتها على حث المواطنين في بعض المناطق على فرز نفايات منزلهم بأنفسهم، قبل أن يستلمها فريق المبادرة، مقابل مبالغ مالية تُقدم للمواطنين نقدًا، أو تُخصم من فواتير المياه المستحقة عليهم.
 |
 |
النباشون الأطفال في غزة |
النباشون الأطفال في قطاع غزة |
يستلم فريق المبادرة 1800 كيلو من النفايات يوميًا، تُفرز على النحو التالي:
المواد غير العضوية مثل المعادن والبلاستيك والأوراق تخضع لعمليات إعادة التدوير، والمواد العضوية يذهب جزء منها لمبادرات فردية لبعض سكان المنطقة لإنتاج أسمدة بيتية للزراعة المنزلية أو للحدائق الخاصة بالمنازل، أما باقي وبعض المواد العضوية فيُتخلص منها بنقلها للمكبات.
وفّرت المبادرة عددًا محدودًا من فرص العمل، إذ يعمل في مجال الفرز وجرش البلاستيك ثمانية عمال، إضافة إلى ثلاثة مهندسين، وفي حال تفعيل التطبيق الإلكتروني الخاص بها ستتاح 45 فرصة مبدئيًا.
منذ انطلاق المبادرة، يحاول القائمون عليها نشر الوعي بين المواطنين وتعريفهم بالمشاكل البيئية بطرق مختلفة، وقد تمكنوا من توسيع نطاق العمل ولكنه ما يزال محدودًا.
يقول طموس: "نعمل على فرز النفايات وإعادة التدوير، وهي فكرة تدعمها الدول المتقدمة لأهميتها، فتطبيقها يعني توفير فرص عمل، وتحريك عجلة الاقتصاد، وتحقيق التنمية والاستدامة".
ويضيف أن العاملين في هذا المجال ينقسمون لعدة فئات، ولكلٍ هدفه، فالنباشون يسعون للحصول على قوت يومهم، لكنهم لا يملكون المهارات الكافية ولا يتحركون لأسباب بيئية، في حين أن أصحاب المجارش الذين يشترون البلاستيك من النباشين ويوفرونه للمصانع، هدفهم الربح.
 |
 |
جمع النفايات الصلبة في غزة بهدف فرزها وتدويرها |
حاويات النفايات الصلبة التي يتم توزيعها على بعض المنازل والمؤسسات في غزة |
ويواصل حديثه: "أما الفئة الثالثة تتكون من الخريجين الباحثين عن عمل، وهؤلاء يبحثون عن المشاكل القائمة في المجتمع، ويقدمون الحلول، وبذلك يكونوا قد ساهموا في حل مشكلة بيئية، ووفروا لأنفسهم عملاً، لكن عددهم محدود، وتمويلهم كذلك".
وفي السياق نفسه يثمن دور البلديات التي باتت تهتم أكثر بهدف المساهمة في الحفاظ على البيئة، ولتقليل تكلفة التعامل مع النفايات، إذ يكلف الطن الواحد من القمامة 106 شيكل في مرحلة جمعه، قائلاً: "دعمها للمبادرات الفردية المختصة بإعادة التدوير زاد في الآونة الأخيرة".
ويرى طموس أن تحقيق فوائد بيئية أكبر يستوجب تنظيم عمليات الفرز وإعادة التدوير، وأن تتعاون البلديات والحكومة والمجلس التشريعي في ذلك، مع دعم الشباب المبادرين والمصانع المختصة.
ويقول: "حتى لمن يبحث عن الربح، فالأمر مجدٍ من الناحية المادية، بدليل زيادة أعداد المجارش والمصانع، حتى أن بعض الشركات أصبحت تتوافق مع البلديات على فرز نفايات مناطق بأكملها".
ومن واقع تجربته، يؤكد طموس أن الوعي بالمشاكل البيئية آخذ في الزيادة، وأن أعدادًا غير قليلة من المواطنين لديها حس المسؤولية على المستوى الفردي، كرفضهم استخدام الأكياس البلاستيكية وتوجههم نحو أكياس القماش التي يمكن استخدامها مرات كثيرة.
 |
 |
حاويات فصل النفايات من المصدر والتي توزعها مبادرة سلة بلدنا في غزة |
سلال فرز النفايات التي توزع على المؤسسات في غزة |
ضروراتٌ وعوائق
يقول المهندس محمد مصلح مسيّر وحدة حماية البيئة في سلطة المياه وجودة البيئة إن قطاع غزة من أكثر المناطق العربية اهتمامًا بإعادة التدوير، وذلك بسبب الحصار الذي يدفع المواطنين للبحث عن حلول للمشاكل التي سبّبها.
ويضيف أن من أبرز المواد التي يُستفاد منها الحديد والألمنيوم والنحاس والبلاستيك بكل أنواعه، إضافة إلى النفايات الإنشائية، إذ تُستخدم مرة أخرى كاملة تقريبًا، ومن ذلك مئات آلاف الأطنان التي خلّفتها الحروب فخضعت لإعادة التدوير.
وبحسب حديثه، تُستخدم النفايات العضوية في صناعة السماد الطبيعي، وقد انتشرت الفكرة في نطاق جيد واُستثمرت مبالغ طائلة فيها، "لكن ما إن نجحت حتى تدّخل الاحتلال بتخفيض أسعار الأسمدة التي يورّدها للقطاع، فلم يعد الإنتاج المحلي قادرًا على المنافسة".
العمل في إعادة التدوير يأخذ عدة أشكال، تبعًا لمصلح، على رأسها الاستثمار لأهداف تجارية بحثًا عن الربح، ولكنه يحقق منافع بيئية في الوقت ذاته، تليها المبادرات، ومن ثم المشاريع الفردية والصغيرة، التي يعتمد أغلبها على استخدام النفايات في الأعمال الفنية.
جدير بالذكر أن أحدث إحصائية لسلطة المياه وجودة البيئة تفيد أن قطاع غزة ينتج ألفي طن يوميًا من النفايات، 16.1% منها بلاستيك، و3% معادن، و8.1 ورق، و65% نفايات عضوية، وما تبّقى مكونات أخرى مثل الرمال ومخلفات أبنية وزراعية وغيرها.
لتراكم النفايات في المكبّات مخاطر كثيرة، وفي المقابل فإن لإعادة التدوير فوائد تعود على الفرد والمجتمع والبيئة، ويتشابه قطاع غزة مع باقي مناطق العالم في هذه المخاطر والفوائد، لكن حاجة القطاع المحاصر لمعالجة النفايات تبرز في بعض الجوانب أكثر من أي مكان آخر، ومنها بحسب كلام مصلح تقليل مساحات المكبات، وتوفير فرص العمل، وتقليل الطاقة المستخدمة، والحفاظ على الموارد الطبيعية.
وعن الجهات المنوط بها الاهتمام بإعادة التدوير، يذكر مصلح: "أولاً "سلطة المياه وجودة البيئة" كونها المسؤولة عن التخطيط والمراقبة، ونحن ننسق مع الشركاء في البلديات والجمعيات وننفذ العديد من البرامج".
 |
 |
عبوات معدنية مفروزة في غزة |
فرز النفايات الصلبة في ورشة التدوير بغزة |
ويضيف: "إعادة التدوير يجب أن تبدأ من المنشأ، وهنا يأتي دور البلديات، عليها أن تهتم بالتوعية، وبتخصيص أكياس تساعد المواطنين على فرز القمامة في بيوتهم قبل عملية الجمع، ثم يأتي دور الجمعيات القادرة على جلب التمويل للمشاريع البيئية، فهي الأكثر قبولًا عند الجهات المانحة".
ومن أجل تطوير إعادة التدوير في القطاع، يرى مصلح أنه ينبغي أن تتولى جهة حكومية الإشراف على العمل في هذا المجال، على أن يُنظم ويُحدد القائمون عليه لضمان تنفيذه على أسس سليمة تضمن صحة العمل بكل مراحله، مستفيضًا في الشرح: "كذلك يجب أن يكون الفرز من المصدر، وقد جرّبنا الفكرة في بعض المناطق ونجحت، وعلى البلديات أن تستهدف مناطق أخرى، وتطبق القوانين لتشجع الناس، كتقديم المكافآت للملتزمين ومعاقبة المخالفين".
وعدَّ الاحتلال العائق الأكبر الذي يقف في طريق التطوير، فهو يعيق التدوير بقصفه بعض المنشآت المهتمة به، ويمنع تصدير المنتجات المعاد تدويرها أحيانًا.
ويزيد بالقول: "من العوائق أيضًا، أن القائمين على العمل غير مؤهلين، فمثلًا يجرش بعضٌ أنواعًا مختلفة من البلاستيك معًا، مع أن لكل نوع منه طريقة معالجة خاصة".
 |
 |
مركبة فرز النفايات في غزة |
مركبة فرز النفايات في مدينة غزة |
اقتصاد مقاوم
وعن الجانب الاقتصادي لإعادة التدوير، يقول المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر إن الدول المتقدمة تتسابق في الاقتصاد الدائري وفي النسبة التي تعيد استخدامها من السلع المستهلكة، خاصة مع الاهتمام المتزايد بالتنمية المستدامة.
ويضيف أن الاقتصاد الدائري مهم جدًا لقطاع غزة، وهو مطبّق ولكن ليس بمفهومه الأساسي، إذ لا يعاد تدوير كل المخلفات للاستفادة منها محليًا بما يحقق فكرته الحقيقية، وإنما تُصدّر بعضها.
ويوضح: "بسبب الحصار وعدم توفر مصادر دخل لكثير من المواطنين، يلجأ بعض أبناء الأسر الفقيرة، أطفالًا وبالغين، لنبش القمامة وجمع ما يمكنهم بيعه للحصول على المال ولو كان قليلًا".
ويحكي عن واقع صعب: "التجار الكبار هم المتحكمون بالأسعار، يشترون الخردة من النباشين بفتات الأموال، لا بسعرها الحقيقي، ومن ثم يصدّرونها إلى مصر أو الاحتلال، حيث الطلب عليها مرتفع".
ويشير إلى أن العمل في إعادة التدوير بهذه الطريقة لا يحقق سوى مستويات دخل متدنية بالكاد تسد رمق العاملين في نبش القمامة، وبالتالي فإنها لا يمكن أن تساهم بقوة في الاقتصاد الفلسطيني.
 |
 |
ناشطون يعملون على فرز النفايات في غزة |
نباش النفايات الصلبة في غزة |
ويقول أبو قمر إن تحقيق الفائدة الاقتصادية يستوجب تنظيم عمليات نبش القمامة، وإعادة التدوير، وأن يتم ذلك تحت إشراف حكومي، مع تعزيز الاستثمار في المجال، بحيث يعاد التدوير محليًا، فيحصل القطاع على المواد الجديدة الناتجة عن التدوير، وبذلك يستفيد المواطن بيئيًا واقتصاديًا.
ويمضي في حديثه: "هكذا يستفيد الاقتصاد بمختلف أركانه، وليس العاملين في المجال فقط، ويختلف التأثير حسب حجم العمل، سواء كان مشروعًا صغيرًا أم استثمارًا كبيرًا".
ويلفت إلى أن لإعادة التدوير في قطاع غزة ميزة أخرى، ألا وهي ارتباطها بالاقتصاد المقاوم، الذي وُلد نتيجة الحصار، وبسبب العوز والفقر.
داعيًا إلى الاهتمام أكثر بتعزيز الاقتصاد المقاوم في هذه الجزئية وبتطويرها، والاستثمار فيها، لكي تشكّل فارقًا حقيقيًا.
ومما يبرهن أهمية الأمر، بحسب رأي أبو قمر، أن الاحتلال يعرقل حركة تصدير المخلفات المُعاد تدويرها، ويتسبب في تكدّسها لأشهر في مستودعات الخردة قبل السماح بتصديرها.