من التشكيك بتغير المناخ إلى الشك بإنقاذ الأرض

مَن تابع قضايا تغير المناخ منذ 20 عاماً، فقد رصد بالتأكيد تلك التقارير التي كانت تظهر في كل مناسبة (مؤتمر دولي يبحث في الظاهرة أو يناقش اتفاقية دولية ملزمة للحدّ منها) لتشكك بالظاهرة وبأنها من صنع الإنسان وحضارته، وناجمة من احتراق الوقود الأحفوري خاصة. التشكيك كان واجباً بداية، إلا أن ما شكل قناعة راسخةبالظاهرة، هو صدور التقارير الأولى لخبراء الأمم المتحدة غير المرتبطين بمصالح شركات او أنظمة بعينها، والذين اختيروا وفقاً لكفاءتهم العلمية ومن جنسيات مختلفة. وقد زاد اليقين عن صحة هذه الظاهرة، ظهورها في الواقع عبر ذوبان الجليد وحصول كوارث مناخية متطرفة... وعبر تطور أدوات القياس وتطور التقارير المؤكدة (خمسة تقارير)، شارك في إعدادها آلاف الخبراء من حول العالم... والتي أقرّت نتائجها معظم الدوائر العلمية العالمية. لذلك، لا يمكن اعتبار أي بحث او أي كتاب عربي، يصدر عن هذا الموضوع، "خارج الموضوع"، إذا لم يستند إلى هذه التقارير كمراجع، وينطلق منها بالتأكيد أو بالنقد.
تاريخياً بدأت الأمم المتحدة بإعداد التقارير المتعلقة بتغير المناخ منذ العام 1985 وقد صدر حتى الآن خمسة تقارير (نشرت العام 1990 و1995 و2001 و2007 و2013). وفي مراجعة لخريطة هويات الخبراء المشاركين في إعداد هذه التقارير الدولية، يمكن الملاحظة أولاً ارتفاع أعداد المعدّين الأساسيين للتقارير من 273 خبير عالمي العام 1990 الى 833 عالم مناخ العام 2013. وتظهر خريطة هوية الخبراء الذين يشاركون في وضع التقارير، الهيمنة العددية لخبراء الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي (بنسبة 80%) لاسيما في التقارير الأولى وقد انخفضوا في التقارير الأخيرة الى 65% لمصلحة الباحثين الآسيويين من اليابان والهند والصين.
تظهر خارطة الخبراء أن هناك 20 بلداً رئيسياً يشاركون في وضع هذه التقارير المناخية، في طليعتهم الولايات المتحدة الاميركية (1728 خبيراً)، بريطانيا (606)، المانيا (320)، كندا (308)، استراليا (303)، اليابان (210)، فرنسا (201)، الهند (143) والصين في المرتبة الحادية عشرة (129).
كما يلاحظ من خلال المناقشات الأخيرة في مؤتمر وارسو (نهاية العام 2013) وما سبقها، أن الانتقادات لم تعد توجه الى التنوع في هوية الخبراء بل الى ضعف التنسيق بينهم لاسيما بين الذين يشاركون في وضع التقارير. صحيح أن هناك من يشكك بجدوى هذه المؤتمرات وتأثيرها على القضية، كما بتقارير الأمم المتحدة المذكورة، مثل عالم المناخ الشهير جيمس لفلوك، إلا أن منطلقات تشكيكه ليست لأنه غير مقتنع بقضية تغير المناخ، بل لأنه مقتنع أكثر من غيره، ومقتنع أيضاً، انه لم يعد هناك من سبيل لوقف هذه الظاهرة إلا عبر القيام بإجراءات استثنائية ليس بينها ما تقترحه الأمم المتحدة وخبراؤها والدول التي يعتبرها غير كافية أبداً لإنقاذ الكوكب ومناخه. وهو يعتبر ان التقارير والمحادثات الدولية السنوية هي تقارير وإجراءات ناجمة عن تسويات بين الدول ومصالح الشركات الكبرى، لن تستطيع أن تحل اي مشكلة... وقد كانت الأرض تحتاج الى إجراءات أعمق وأكثر راديكالية من التخفيف من الانبعاثات المؤثرة في الظاهرة. فالأرض بالنسبة له، هي كائن حي ونظام حي متكامل يتحكم في نفسه ذاتياً وما يصيبها الآن، خطير جداً يؤثر على حياتها ولم يعد ينفع معها تلك الحلول الجزئية كمعالجة السرطان بالأسبرين. نظرية لفلوك الكاملة نشرها في كتاب حمل عنوان "وجه غايا المتلاشي الأنظار الأخير". وهو صاحب نظرية "غايا" التي كانت تعني "الأرض" في الأساطير اليونانية القديمة، والذي يعتبر أن كل ما يحصل لكوكب الأرض متصل ببعضه، وأن الإنسان مسؤول عن التغيرات التي تحصل على الكوكب وعليه أن يقوم بأشياء استثنائية لإنقاذ أمه الأرض التي توشك على الموت اختناقاً. لم يجادل علماء العالم في نظرية "غايا" التي بدت مقنعة جداً، إلا ان معظم الجدل طال الخلاصات والمقترحات التي تقدم بها لفلوك لإنقاذ المناخ وبينها اقتراحه بالاعتماد بشكل رئيسي على الطاقة النووية لإنتاج الطاقة بدل الوقود الأحفوري. صحيح أن هذه التقنية لا تنتج انبعاثات مضرة بالمناخ... إلا أنها تعتمد على وقود اليورانيوم الناضب، وتنتج نفايات مشعة تصعب معالجتها وتنطوي على مخاطر مدمرة وقاتلة لم ينجح العلم بعد في تجنبها او التحكم بها.
وهكذا يبدو الأمر أكثر صعوبة من أي توقع، بعد أن انتقلنا من قضية التشكيك بقضية تغير المناخ، إلى الشك بإمكانية إنقاذ الكوكب من الاختناق.