خاص بآفاق البيئة والتنمية
اُبتليت العديد من أشجار الزيتون في بلدة "كفر" ثلث قضاء قلقيلية بمرض "سل الزيتون" أو ما يُسميه المزارعون هناك "سرطان الزيتون"، وهو مرضٌ بكتيري يعود انتشاره لعدة عوامل، أهمها استخدام المزارع أدوات ملوثة، والسبب الثاني قطف ثمار الزيتون بضرب الشجرة بالعصي، والثالث هو بكتيريا تصيب الشجر عن طريق الحشرات. استخدام المواد الكيميائية في القضاء على مثل هذه الآفات ليس بالخيار الصائب، لأن أضرارها على البيئة والإنسان تفوق فوائدها، حتى لو بدا العلاج ناجعًا في القضاء على المرض نفسه. فما هو العلاج البديل إذن؟
|
 |
شجرة زيتون مصابة بمرض سل الزيتون البكتيري |
يقول المثل الشعبي: "الزيتون زيّ ما بدك منه بدُّه منك"، في إشارة إلى ما تحتاجه الشجرة من عناية كي تكون كريمة مع صاحبها، بحيث يعطيها حقّها من الحراثة والتقليم، كما يقول الحكواتي والفلاح حمزة العقرباوي في مقالٍ له.
وقد قالوا على لسان الزيتونة في مخاطبتها للفلاح "ابعد أختي عني وخُذ زيتها مني"، "وقنّبني ولا تُكربني"، ومن العناية قولهم: "التين اقطع واطِيه، والزيتون اقطع عالِيه".
وقالوا أيضًا عن "تمام العافية" الذي يكون في حبتها الكبيرة:
زيتونتي حبّها بلح بلح لو يدري بها القاضي سرح
زيتونتي حبها جرجير آخ لــو يـدري بهـا الـوزيـر
ولكن ماذا إن فقدت الشجرة المباركة عافيتها، كما حدث يا للأسف هذا الموسم في بلدة "كفر ثلث"، إذ اُبتليت بمرض "سل الزيتون" أو ما يُسميه المزارعون هناك "سرطان الزيتون"، وهو مرضٌ بكتيري يعود انتشاره لعدة عوامل، أهمها استخدام المزارع أدوات ملوثة، والسبب الثاني قطف ثمار الزيتون بضرب الشجرة بالعصي، والثالث هو بكتيريا تصيب الشجر عن طريق الحشرات.
في أول يومٍ من بدء موسم قطف الزيتون، التقينا المزارع نعمان الأشقر الذي يعيش في البلدة التي تتبع قضاء قلقيلية المكون من تسع قرى فلسطينية، وسألناه عن الأمر، فقال إن "سرطان الزيتون" غزا المنطقة الجنوبية في كفر ثلث إلى حدٍ كبير جدًا.
وأوضح الأشقر طبيعة المشكلة بقوله: "هذا المرض عندما يصيب شجرة الزيتون يؤدي إلى تشكّل درنات على أغصانها لونها بني، وفي أول عامين لا تتأثر الشجرة بالمرض قط، إلا أنها في السنة الثالثة تضعف كثيرًا، ويقل إنتاج ثمارها ومن ثم تتساقط".
ويضيف في حديثه لمراسلة "آفاق البيئة والتنمية": "تبدأ الدرنات في الانتقال من فرعٍ لآخر، وكل فرع ٍتصيبه لا تنتهي منه إلا وقد قتلته كاملاً، بقطع الماء عنه ومنع وصوله إلى الفرع المصاب".
 |
 |
أعراض مرض سل الزيتون |
أشجار الزيتون المصابة بسل الزيتون يقل إنتاجها إلى حد كبير |
سنوات حتى تستعيد عافيتها
من واقع تجربته، يؤكد أن علاج الشجرة المصابة مكلف جدًا، إذ يستخدم المزارعون في هذه الحالة مبيدًا كيميائيًا اسمه "الكونفيدور"، على أن يقلّموا الشجرة جيدًا أولاً، ومن ثم يُشرّبونها مبيد "الكونفدور"، وبعدها يرّشون مركبًا نحاسيًا عليها، وأخيرًا يدهنون الجذوع بمادة الشيد.
وردًا على سؤالنا عن طرقٍ أخرى لا تُستخدم فيها المواد الكيميائية، لعلاج المرض قال: "جرّبتُ طريقة جديدة على شجرتين في مزرعتي التي مرضت فيها 20 شجرة مصابة، فقد جردتُ الشجرة تمامًا، وتركتُ فقط الأغصان النظيفة، وقطعتُ كل شيء عدا ذلك.
وفي السياق نفسه يشرح: "كل شجرة أقلّمها تحتاج إلى فترة تعافٍ تتفاوت من 4 إلى 5 سنوات لتستعيد "الزيتونة" صحتها من جديد، وأصارحكِ القول لم يزل المرض، لكن لاحظتُ أن "الزيتونة" باتت أقوى مما كانت عليه سابقًا وإنتاجها ازداد بفضل الله".
ووجّه الأشقر نصيحة مهمة من وجهة نظره: "لا بد من حرق جميع الأغصان المُصابة فور قطعها بعيدًا عن كرم الزيتون، كي لا تنتقل بواسطة الحشرات إلى أشجارٍ أخرى".
وشدد على أهمية العلاج الجماعي لجميع الأشجار المصابة في المنطقة، "لأن علاج شجرة وإبقاء أخرى مصابة من شأنه أن ينقل العدوى للأشجار السليمة، وبالتالي لا فائدة تُرجى من علاج كل شجرة على حِدة".
جدير بالذكر أن "سلّ الزيتون" انتشر في نحو أربعة آلاف دونم مزروع بالزيتون في بلدة "كفر ثلث" وحدها، ما يستدعي متابعة المشكلة من الجهات المعنية الرسمية.
خسائر في الإنتاج
وعن مدى متابعة وزارة الزراعة الفلسطينية لهذه الآفة وأضرارها، وصفها الأشقر بــ "السطحية"، وتقتصر على الإرشادات والتعليمات التي يعرف المزارعون جُلّها، في حين أنهم أحوج ما يكون إلى توفير المستلزمات والمبيدات الخاصة بعلاج هذا المرض، حسب رأيه.
ويبدي استياءه من إصابة المنطقة بين الفينة والأخرى بآفاتٍ زراعية مختلفة، جراء انتشار مياه الصرف الصحي المتدفقة من مستوطنات الاحتلال في البلدة، إضافة إلى معامل الحجر، ما أدى إلى تلوث وادي "شلوقة" و"بير أبو عمار"، وانتشار الكثير من الأمراض.
وفضلاً عما سبق، تراجعَ اهتمام المزارعين بأراضيهم بسبب توجههم للعمل في الداخل المحتل، مضيفًا: "منعَ الاحتلال مزارعين كُثر من الوصول إلى أراضيهم، فيما يعطيهم "تصاريح قطف الزيتون" لساعات قليلة فقط، وبالتالي هلكت الكثير من الأراضي في المنطقة التي لا يستطيع المزارعون الوصول لها ورعايتها على مدار العام".
لقد تكدّر صفو هذا الرجل بوضوح، لأن "سرطان الزيتون" خسّر المزارعين جزءًا من إنتاجهم، وكما قال سابقًا "الدرنات تسحب المياه من الشجرة" وهكذا انخفض الإنتاج في أرضه "على سبيل المثال" من معدل 80 كيلوغرام إلى 50 كيلوغرام للشجرة الواحدة.
واختصر في نهاية حديثه سبيل الوقاية بالقول: "المسألة سهلة، إذا لاحظ المزارع وجود عينة بكتيريا في شجرته، كل ما عليه أن يسارع إلى تقليمها، مع الابتعاد عن المنطقة المصابة 15 سم".

مبيد كونفيدور شائع الاستخدام في مناطق السلطة الفلسطينية الذي يحوي المادة الفعالة imidacloprid المسرطنة والمسببة لتشوه وراثي في كروموسومات الكرات اللمفاوية وقد حظر الاتحاد الأوروبي استخدامه عام 2013
أضرارها أكثر من فوائدها
من جهته قال المهندس الزراعي سعد داغر إن استخدام المواد الكيميائية في القضاء على مثل هذه الآفات ليس بالخيار الصائب، لأن أضرارها على البيئة تفوق فوائدها، حتى لو بدا العلاج ناجعًا في القضاء على المرض نفسه.
ومضى في تحذيره من المبيدات قائلًا: "استخدامها يقضي على العناصر الحيوية في البيئة وعلى حشراتٍ أخرى تصنع توازنًا بيئيًا، كما أن معظم الحشرات التي تنتشر وتصيب الأشجار سببها رشّ مثل هذه المواد الكيميائية". ويستفيض بالشرح هنا: "صحيحٌ أن المبيد يقضي على المرض لكنه في المقابل يقضي على الأعداء الحيوية في البيئة، وكل حشرة لها عدو حيوي موجود في الطبيعة، ما يجعل نسبة الحشرات الضارة تحت السيطرة، ولكن تدّخل الإنسان يقتل الحشرات النافعة، ويسبّب أمراضًا جديدة".
أما العلاج وفقًا لحديثه على النحو التالي: "إذا كان المرض بكتيريًا، يمكننا منع انتشاره بالإجراءات الوقائية، أما "الكونفيدور" فهو مبيد حشري وليس مبيدًا ضد البكتيريا، بالتالي استخدامه غير مجدٍ".
ماذا عن دور وزارة الزراعة؟
وبدوره، أكد رامز عبيد مدير دائرة الزيتون في وزارة الزراعة، أن الوزارة تتابع باهتمام هذه المشكلة، وكذلك الحال مديرية زراعة قلقيلية، وقد نظّمت نحو 20 زيارة ميدانية على مدار ثلاث سنوات من أجل الوقوف على حيثيات مرض سل الزيتون.
وأضاف عبيد: "أعددنا نشرة إرشادية للمزارعين للتعامل مع المرض، وبطبيعة الحال لم نصل لكل المزارعين، لكن على المزارع الذي تعاني أشجاره هذه الآفة التواصل معنا والحصول على إرشاداتنا".
المرض خطير وينتشر بسرعة كبيرة إذا لم يُتعامل معه؛ والكلام لمدير دائر الزيتون، "فهو بكتيريّ ينتقل عن طريق الحشرات أو بواسطة الأدوات الزراعية، وحدّته تتفاوت من منطقة لأخرى، بحسب أسلوب تعامل المزارعين معه".
"إذن ما العلاج؟" يجيب عن سؤالنا بالقول: "يكمن في عملياتٍ زراعية يجريها المزارع بالتقليم الجائر للأشجار للتخلص من المرض، وبعدها مكافحة الآفات الحشرية في حقله وحقل غيره، وننصح برّش مبيدات نحاسية لأن المرض بكتيري، وهي ناجعة ورخيصة، أما المبيدات الأخرى مثل "الكونفيدور" نحن لا ننصح بها أساسًا".
ويُعرّف التقليم الجائر بأنه قص شبه كامل لأغصان الشجرة، ويُمارس عادة في المواسم قليلة الأمطار، أو لمعالجة آفة أو مرض معين في الشجرة، وإجمالًا حجم التقليم يتناسب عكسيًا مع كميات الأمطار.
يُشار إلى أن وزارة الزراعة الفلسطينية حددت منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني لبدء موسم قطف الزيتون في مختلف المحافظات والقرى الفلسطينية، متوقعةً أن يكون إنتاج زيت الزيتون جيد جدًا هذا العام، كونها سنة "ماسيّة" حسب تقديرات الوزارة.

مرض سل الزيتون البكتيري ضرب مساحات زراعية شاسعة في قلقيلية
الافتقار إلى المنهج العلمي
من جانبه، حذر جورج كرزم رئيس تحرير مجلة "آفاق البيئة والتنمية" والخبير البيئي، من خطورة استخدام المبيدات الكيميائية عمومًا، و"الكونفيدور" خصوصاً، علمًا أن هذا المبيد ينتمي إلى المجموعة الكيميائية المعروفة بـ neonicotinoids، وقد حظر الاتحاد الأوروبي عام 2013 استخدام المبيدات المنتمية لذات المجموعة، كونها تسبّب أضرارًا بالغة للجهاز العصبي في الحشرات والإنسان.
ويواصل كرزم حديثه: "معروف أن المادة الكيميائية الفعالة في "الكونفيدور" هي imidacloprid، ويُعد الأكثر شيوعًا في الضفة الغربية وقطاع غزة (وهو يا للأسف مذكور في قائمة مبيدات الآفات الزراعية المسموح تداولها فلسطينيًا)؛ ويُسوّق بأسماء تجارية مختلفة (مثل "كونفيدور"، "كودكود"، "كومودور"،"كوهنير"، "إماكسي" و"توتيم"،) تُصَنِّعها شركات Lied Chemical، Tapazol، Chemia Spa، Makhteshim، Rotam China، وChemnova على التوالي.
ويشير كرزم إلى أن حظر تداول مبيدات معينة أو السماح باستعمالها في مناطق السلطة الفلسطينية، لا يستند إلى منهج علمي واضح.
وبهذا الخصوص يوضح أكثر: "يُمنع مبيد محدد في سنة معينة، ثم يُعاد السماح باستخدامه في سنة أخرى، وعلى سبيل المثال، منعت وزارة الزراعة الفلسطينية عام 1997 (جريدة الأيام 24 / 11 / 1997) مبيد "جاوتشو" (الذي يحوي المادة الفعالة imidacloprid المسرطنة، والمسبّبة لتشوه وراثي في كروموسومات الكرات اللمفاوية). وثَبَّتَتْ الوزارة منع هذا المبيد مرة أخرى في "دليل المزارع" الذي أصدرته عام 1999.
في حين بموجب "دليل مبيدات الآفات المسموح تداولها" لعام 2005 فقد سُمح باستخدام مبيد الجاوتشو، علمًا أن وزارة الزراعة، قبل ذلك بسبع سنوات، منعت تداول وبيع المبيد نفسه.
ثم في سنوات ما بعد عام 2005 مُنِعَ استخدام "الجاوتشو" مرة أخرى شكليًا بذات الاسم التجاري؛ إلا أن الترويج الرسمي لاستخدامه الذي يحتوي على ذات المادة الفعالة (imidacloprid) والتركيز أيضًا، لا يزال متواصلًا إلى يومنا هذا بأسماء تجارية أخرى.
و"دليل مبيدات الآفات الزراعية المسموح تداولها" لعام 2012 ووصولًا إلى دليل ( 2016-2017) وما بعد ذلك، يوصيان باستخدام مبيد "جاوتشو" تحت أسماء تجارية أخرى ("كونفيدور"، "كودكود"، "كومودور"،"كوهنير"، "إماكسي" و"توتيم كما ذكرنا سابقًا).
وهذه المبيدات التي تحتوي على المادة الفعالة (imidacloprid) هي عمليًا مبيد الجاوتشو ذاته، والاختلاف فقط بالأسماء التجارية والشركات المنتجة؛ بل إن جميع الأدلة توصي باستخدام ذات التركيز (لمادة imidacloprid) المذكور في حالة "الجاوتشو" في دليل عام 2005، وتحديدًا (g/l350)".
ويتساءل كرزم: "لماذا منعت وزارة الزراعة الفلسطينية مبيد "الجاوتشو" الذي تنتجه شركة باير الألمانية، وسمحت بمواصلة استخدام ذات المبيد بأسماء تجارية أخرى ولشركات أخرى؟
ويقدم للمعنيين خلاصة القول: "على أي حال، المشكلة لا تكمن فقط في كمية أو تركيز المادة الفعالة في المبيد، بل في نوعية المادة الفعالة ودرجة سميّة المبيد والأمراض الخطيرة التي تنجم عنها، فضلًا عن دورها التخريبي للتربة والتوازنات الإيكولوجية والبيئية".