خاص بآفاق البيئة والتنمية
زُرعت فلسطين كلها في الماضي بالعنب، سواء كُنا نتحدث عن السهول والأغوار أم الجبال والصحراء، ففي الصحراء نجد الأنباط قد أبدعوا في زراعة العنب في أصعب التضاريس والظروف، بشكلٍ ما زال يُبهر العلماء. وفي السهول تنافسَ أهالي قرى قضاء غزة مثل بربرة والجورة، وحي الشيخ عجلين على لقب "أفضل عنب"، وأما في الجبال فقد غُرست الكروم بالعنب في القدس والجليل، لكن أهل الخليل كانوا وما زالوا الأوائل في زراعة العنب وما يتبعه من صناعات كالملبن والدبس والخل وحتى العنبيّة أو "العنطبيخ" كما يسميها بعض "الخلايلة". وفي الأغوار زُرعت الأعناب بين عقربا وعين جدي، وما زالت تُزرع لتبكيرها في النضوج هناك قبل بقية الأعناب. وإلى جانب كُل الحكايا الجميلة و"الوردية" لا يُمكن أن نذكر العنب من دون أن نذكر الاستيطان، ودون أن نعترف بإهمالنا في حفظ أصناف وطرق الزراعة القديمة، مثل عنب السناسل والرجوم أو زراعة العنب مع الجميز، وكلها طُرق تتماشى مع تقنيات الزراعة البيئية، وهي قادرة على أن تجعل كرومنا والعنب أكثر استدامة وصداقة للبيئة.
|
صحيحٌ أن فلسطين أرض الزيتون، لكن للعنب فيها حكايات تعود إلى أيام نوح عليه السلام، وقد زُرعت فلسطين كلها بالعنب، سواء كُنا نتحدث عن السهول والأغوار أم الجبال والصحراء، ففي الصحراء نجد الأنباط قد أبدعوا في زراعة العنب في أصعب التضاريس والظروف، بشكلٍ ما زال يُبهر العلماء.
وفي السهول تنافسَ أهالي قرى قضاء غزة مثل بربرة والجورة، وأيضاً حي الشيخ عجلين على لقب "أفضل عنب"، وأما في الجبال فقد غُرست الكروم بالعنب في القدس والجليل، لكن أهل الخليل كانوا وما زالوا الأوائل في زراعة العنب وما يتبعه من صناعات كالملبن والدبس والخل وحتى العنبيّة أو "العنطبيخ" كما يسميها بعض "الخلايلة".
وفي الأغوار زُرعت الأعناب بين عقربا وعين جدي، وما زالت تُزرع لتبكيرها في النضوج هناك قبل بقية الأعناب وإلى جانب كُل الحكايا الجميلة و"الوردية" لا يُمكن أن نذكر العنب من دون أن نذكر الاستيطان، ودون أن نقرّ بإهمالنا في حفظ أصناف وطرق الزراعة القديمة، مثل عنب السناسل والرجوم أو زراعة العنب مع الجميز، وكلها طُرق تتماشى مع تقنيات الزراعة البيئية، وهي قادرة على أن تجعل كرومنا والعنب أكثر استدامة وصداقة للبيئة.
كروم العنب في قلب الصحراء
خلال تجوالنا في قلب الصحراء، وأمام جلاميد الصخور العملاقة والأراضي القاحلة، لا نتخيل كيف يُمكن للعنب أن ينمو في قلب الصحراء وهي مسألة ليست مفهومة ضمنًا (بالفعل)، لتذهلنا عظمة الحضارة التي تمكنت من إنتاج العنب بوفرة في "الصحراء القاحلة".
وقد حدث ذلك أيام العرب الأنباط قبل حوالي 2000 عام، وهم قومٌ أبدعوا في الزراعة وما زال كتاب "الفلاحة النبطية" من أهم الكتب الزراعية حول العالم، كما ما تزال آثارها في مُدن مثل سْبيطة وهي إحدى مُدن الأنباط الست في النقب على درب العطور، فكيف فعلوا ذلك؟
كلمة السر هي "تليلات العنب" وهي "تقنية قديمة" من تقنيات الزراعة البعلية، ويشرحها أستاذ الأراضي والمياه د. طالب أبو شرار بأنها "أكوام من الحجارة "رجوم" تُنصب على سفوح الجبال بهدف عكس أشعة الشمس، والحيلولة دون ارتفاع درجة الحرارة، وتمكّن فروع الكرمة (العنب) من تسلقها بعيدًا عن سطح التربة الحار، كما أن هذه الحجارة تساهم في تكثّف قطرات الندى القادمة مع نسيم البحر المتوسط الصاعد إلى هضبة النقب، فتزداد برودته ثم تنساب مياه الندى إلى الأسفل فتُشبع التربة وتصبح في متناول جذور الكرمة.
تليلات العنب في منطقة سْبيطة ووادي الحرايق جنوبي بئر السبع
ونحن نتأمل تليلات العنب، لا بُد أن نعود قليلاً إلى تراثنا البيئي، حيث شُبّهت المرأة الفلسطينية ببعضٍ من أشجار هذه البلاد، فشجرة الزيتون التي تنمو في كل مكان وتَقنع بالقليل من العناية والاهتمام تشبه المرأة البدوية، وشجرة التين التي تتطلب اهتماماً وعملاً أكثر تشبه المرأة الفلاحة، ودالية العنب تشبه "المدنية" التي تتحمل قليلاً وتتطلب اهتمامًا أكثر وتعيش برفاهية، وتليلات العنب تؤكد لنا أن العنب ليس مرفهًا كما يُخيل لنا وهو يتحمل الجفاف، وبالأخص الأصناف البلدية منه.
عنب غزة .. من "البربراوي" إلى "الشيخ عجلين"
كما أبدع الأنباط في زراعة العنب في قلب الصحراء، فقد أبدع أهل غزة (الغزازوة) في زراعته على الساحل الفلسطيني، حيث انتشرت كروم العنب في قرى كثيرة من قرى قضاء غزّة مثل قرى حمامة ونعاليا وهربيا وبربرة والجورة، وكلها قرى هُجّر أهلها في نكبة 1948.
أشهر العنب كان عنب بربرة، فقد كانت القرية إضافة إلى شهرتها في صناعة الغزل والنسيج والبُسط (المزاود) تشتهر بزراعة العنب الذي ذكره المؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ بأنه يُعد من أجود عنب فلسطين، وقد ذاع صيته بفضل أغنية "بربراوي يا عنب.. يا أبو العناقيد الذهب" وصار يُصدّر إلى أنحاء كثيرة في فلسطين، وقد يكون من الأعناب الفلسطينية التي وصلت إلى مصر وإنجلترا كما تذكر الصحف الفلسطينية الصادرة قبل النكبة، وكانت هناك عدة تجارب لتصدير العنب الفلسطيني إلى أنحاء مختلفة من العالم، وتذكر المصادر أن عنب بربرة نال الجائزة الاولى في معرض لندن في الأربعينيات.
قصاصة حول تصدير العنب الفلسطيني إلى بريطانيا من صحيفة الجزيرة ، حزيران 1927.
قصاصة من صحيفة الدفاع ( شهر آب 1940 )
ليس ببعيد عن بربرة، كانت هناك قرية جورة عسقلان التي لم يحظَ عنبها بنفس الشهرة التي حظي بها عنب بربرة، لكن ما نُقل عن المؤرخ عارف العارف بوصفه عنب قرية الجورة "كان أكثر جودة وشهرة من عنب بربرة".
وينقل الباحث خالد ياسين عن سعيد المسحال بأن والده شارك في مسابقة زراعية في مدينة حيفا (قبل النكبة) وحصد جوائز المعرض الثلاث مثل جائزة "أكبر قُطف".
في مُحاولة للبحث عما تبّقى من العنب الجوراني والعنب البربراوي، انطلقنا مع المؤرخ مصطفى كبها إلى هذه الديار "المنكوبة"، ويا للأسف وجدنا أنه لم يبقَ عنب في الجورة التي تحولت أراضيها إلى مبانٍ ضمن محيط مدينة "أشكلون" الإسرائيلية.
وأما بربرة فقد أصبحت أراضيها الزراعية شوارع ومبانيَ مستعمرة "موشاف مفكيعيم"، لكن المفاجأة الجميلة كانت في قرية هربيا، حيث ما زالت بعض أعنابها صامدة إلى جوار أشجار التين والجميز والصبار والرمان.
من الجدير بالذكر أن أهالي هذه المناطق، زرعوا العنب إلى جوار الجميز كي يتسلّقه، وهو ما يُعرف بالزراعة المترافقة
وتلك مسألة تستحق البحث، وتحظى في الآونة الأخيرة باهتمام خاص بين الباحثين في الزراعات العضوية.
وفي زيارتنا للمحمية الطبيعية التي أقيمت على أراضي القرية (محمية كارميا) وجدنا أن أكثر العنب صمودًا هو العنب الذي احتمى بالصبار من صنف "أبو ريحة" كما يُسميه المؤرخ كبها، وهي أصناف تستحق أن ندرسها نظرًا لصمودها لأكثر من 70 عامًا بعد النكبة، بلا أي رعاية أو خدمة، وما تزال تنتج العنب بعلًا (بالاعتماد على الأمطار والندى)، وهي كما يصفها "كبها":"اختلط سوادها بحمرة خفيفة ورائحة نضوج لم نشمها من سنوات".
البحث عن العنب في القرى المهجرة قضاء غزّة مع المؤرخ مصطفى كبها - تصوير: عمر عاصي
في غزّة التي كان تلوح لنا في الأفق، يشتهر اليوم عنب الشيخ عجلين، والذي يُعرف كذلك بأنه من أفضل العنب في فلسطين، وهو بعيون أهل غزة "أفضل عنب على مستوى فلسطين".
ومما يُقال في غزة "عنب الخليل للعنابية أما عنب غزة للأكل"، وذلك لأن عنب الخليل كثير السُكّر، وبالتالي هو أنسب لصناعات العنب كالدبس والعنبية، أما عنب غزّة فيؤكل كما هو، بسبب اعتدال حلاوته وكذلك بسبب "قرشته" اللذيذة وذلك بفضل القشرة الغليظة التي يكتسبها العنب عندما يهبّ عليه هواء البحر محملًا بشيء من الملوحة كما يقول المزارعون وهذه الصفة "سماكة القشرة" تجعل نقله وتصديره أسهل.
حتى اليوم يشتهر صنف "القرّيشي" أو "القَـرّاشي" في غزة، إضافة إلى أصناف "الدبوقي" و"الزيني"، وفوق كل هذا فــ "الشيخ عجلين" هي منطقة مرتفعة لم تتميز بالعنب فحسب، حيث يُقال في غزة "إذا بدك توكل تين روح على الشيخ عجلين"، هذا غير تميّزها بالحمضيات مثل برتقال أبو صرّة.
عنب الخليل من الجندلي إلى الدوري والعينوني
صحيحٌ أن العنب البربراوي نال شهرة واسعة، لكن إذا ما سألنا على مستوى فلسطين، أي البلاد بلاد العنب؟ فلا بُد إلا أن تُذكر مدينة الخليل، وكما كانت هناك أغنية "بربراوي يا عنب" فهناك أغنية "الشهد في عنب الخليل" وهناك "بركة سيدنا ابراهيم" التي يُعزى إليها سبب تميّز عنب الخليل، ولا ننسى ارتفاع جبال الخليل بحوالي 1000 متر عن سطح البحر، ولا شك أن تميز أهل الخليل في مجال الصناعة والاقتصاد دفعهم إلى التفوق في زراعة العنب.
قديمًا كان عنب الخليل يُصدّر إلى غزة، بطريقة المقايضة، وكما يقول حامد الشيوخي إن العنب كان يُحمّل على جِمال بصناديق خشبية من منطقة الشيوخ إلى قرى غزة، وهناك يُستبدل الحبوب بالعنب، ويعود محملاً جمله بالحبوب.
واليوم يُباع عنب الخليل في العديد من المناطق التي تسوّق العنب الفلسطيني حتى لو كان العنب الإسرائيلي أرخص سعرًا، فبحسب آخر التقديرات هناك 80 ألف دونم من كروم العنب في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتنفرد الخليل بــ 45 ألف منها.
في جولتنا في مدينة الخليل (منتصف شهر آب)، أخبرنا أبو محمد وهو بائع عنب على طرف الطريق، كان يبيع ثلاثة أصناف، أولها العنب البلوطي الذي يشبه العنب البيتوني وهو من الأصناف التي جيء بأصلها من منطقة بيتونيا.
وكذلك يُعد من الأصناف "السوداء" المميزة، ويتميز أكثر بأوراقه المطلوبة خصوصاً في تحضير طبق ورق العنب (الدوالي).
أما الصنف الثاني الذي كان يبيعه أبو محمد فهو "البيروتي" وكما يقول "مفيد جدًا لمرضى السكري لأن سكره خفيف"، وليس مثل بقية الأعناب في الخليل التي تمتاز بحلاوتها الشديدة وتصلح للدبس والشدّة (دبس مع قمح) والزبيب والملبن وغيره.
أما الصنف الأكثر شيوعًا في الخليل فهو الزيني، ويعد من الأصناف المفضلة لدى المزارعين قديمًا وحديثًا، حيث نجده يُذكر ضمن أفضل الأصناف المحلية في مجلة الأحاديث الزراعية الصادرة عام 1937 إلى جانب العينوني والدابوقي والحمداني.
وعند سؤالنا، عن أكثر مناطق العنب تميزًا داخل الخليل نفسها، نجد أن منطقة حلحول قد تميّزت بصنف الجندلي، كما أنها تتميز بمهرجان العنب الذي يُقام فيها في المواسم الممتازة.
أما منطقة دورا وبيت عينون فقد تميزت بأصناف عنب سُميت باسمها منذ حوالي 1000 عام، مثل الزبيب المصنوع من العنب الدُوري والعينوني الذي ذكره الجغرافي شمس الدين المقدسي في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، باعتباره من أفضل أنواع الزبيب في كُل المناطق التي زارها المقدسي، كما تشتهر منطقة "البويرة" بغزارة إنتاجها، ويصل القطف منه إلى 3 كغم (رطل).
وبما أننا لا يمكن أن نذكر العنب إلا مقترناً بالخليل، ففي المقابل أيضاً لا يُمكن أن نذكر الخليل والعنب ولا نذكر الاستيطان الذي يواصل نهشه الشرس لهذه المدينة حتى اليوم.
وتكفي جولة واحد بين كروم العنب في جبال الخليل أو حتى جولة في سوق البلدة القديمة، لنرى خطر الاستيطان على العنب، والحقيقة أننا لو تجوّلنا اليوم في العديد من متاجرنا لوجدنا "عنب تالي" الإسرائيلي، وهو نفسه "عنب لخيش" الذي كان يسوّق بهذه التسمية في الثمانينيات التي لم تكن مغرية، فـ"لخيش" هي اسم المستوطنة الإسرائيلية التي أقيمت على أراضي قرية قبيبة (الخليل)، لتصبح التسمية أكثر جاذبية "عنب تالي"، وهي اليوم من أشهر الأعناب الإسرائيلية.
عنب تالي - أشهر الأعناب الإسرائيلية يُزرع على أراضي قرية القبيبة الفلسطينية المهجرة
كروم القدس وبيت لحم.. بين لعنة الاستيطان وسرقة التراث
العنب والاستيطان مرتبطان بشكل أكبر مما نتوقع، حتى أن الأمر يستحق دراسة خاصّة. ومن الحوادث التاريخية التي تكشف خطرة الاستيطان على العنب، عندما دمرّ المستوطنون كروم العنب في عام 1968 من أجل تشييد مستوطنة "آلون شفوت" عند قرية أرطاس قريب بيت لحم.
وفي عام 1980 قطع مستوطنون مجهولون واقتلعوا أشجار العنب بالقرب من قرية الخضر القريبة، وهي من أكثر قرى بيت لحم زراعةً للعنب.
وبعد ذلك بسنوات، عام 1989 تحديدًا، رشَّ مستوطنون من "كرمي تسور" الواقعة بين حلحول وبيت أمرّ بساتين العنب بالسموم في مناطق الكامب ووادي الكامب ووادي الذروة ووادي المطي، ما أدى إلى تلف 32,000 شجرة عنب يملكها 138 مواطنًا فلسطينيًا من منطقة الخليل.
وإذا انتقلنا إلى القدس وإلى واحدة من أشهر القرى المقدسية بزراعة العنب حتى اليوم، وهي قرية "بيت دقو" والتي كانت ثمار العنب فيها تصدّر في الثمانينيات من القرن الماضي إلى الأردن ودول الخليج، بينما اليوم هي عاجزة عن تسويق عنبها في مدينة رام الله القريبة بسبب غزو العنب الإسرائيلي للأسواق.
في الآونة الاخيرة يحاول مزارعو العنب إقامة مهرجان لتسويق عنب بيت دقو، إلا أنه في الواقع مطلب المزارعين الأساسي هو "وقف دخول العنب الإسرائيلي إلى الأسواق".
ويرى المزارع محمود مرار أن مشكلة التسويق هي أهم مشكلة تواجههم، ما دام السوق ممتلئاً بالعنب الإسرائيلي، علمًا أن عنب بيت دقو ذو جودة أعلى وسعر أقل.
مؤسف جدًا، أن يكون هذا حال عنب القُدس، بعد أن اشتهرت قرى كثيرة من قرى القدس بالعنب مثل قرية أبو غوش التي اشتهرت قديمًا بالعنب وسُميت "قرية العنب".
وبالقرب منها أقام الصهاينة أحد أقدم الكيبوتسات وأطلقوا عليها اسم "كريات عنابيم" (بمعنى قرية العنب). وقرية عين كارم وهي كذلك من القرى التي اشتهرت بزراعة العنب قبل النكبة ومع النكبة هُجّر كل أهلها، وما زالت مبانيها قائمة تشهد على جمالها (مثل عين حوض وإجزم).
وما دُمنا في قرى القدس، فلا بد أن نتوقف عند ما ذكره السائح العثماني أوليا جلبي عام 1649 عن أمجاد زراعة كروم العنب في القدس، وكان قد قال عن زيارته إلى القدس، "وجدت فيها 43 ألف كرم عنب، ورأيت 1500 منطرة قائمة في وسط الكروم، وما من أحد من سكانها إلا ويعيش في كرم من هذه الكروم شهرين أو ثلاثة شهور في السنة، بينما لم أشاهد في غزة إلا 7000 كرم"، ولكنه قال إن عنب غزة كان مشهورًا حتى ذلك الزمان.
بالعودة إلى الحاضر، وخلال التجوال في قرية سطاف المهجرة، وجدنا العنب يرتبط بإحدى المبادرات الصهيونية التي تُحاول تزييف التاريخ عن طريق مشروع ما يسمى "استرجاع الأصناف التوراتية"، إذ زرع صندوق أراضي "إسرائيل" (ككال) عدداً كبيراً من أصناف التين والعنب الفلسطينية الأصلية (باعتبارها أصناف أرض إسرائيل)، وتصل أصناف العنب في كروم صطاف إلى 25 صنف محلي قديم، مثل صنف الدابوقي (البلدي) الذي يمتاز بقدرته الفائقة على مقاومة الجفاف، وغيرها من الأصناف المحلية القادرة على التأقلم مع مناخ وتربة بلاد فلسطين بشكل ممتاز.
كرمة عملاقة تتسلق شجرة أخرى في قرية صوبا المهجرة قضاء القدس - تصوير عمر عاصي
الحقيقة أن المشاريع الصهيونية التي تهتم بأصناف العنب القديمة، تذهب إلى أبعد من هذا، وهو ما حدّثنا به الباحث محمد يحيى الذي اطلع على بحث تجريه أحد مراكز الأبحاث الإسرائيلية المدعوم من وزارة العلوم الإسرائيلية منذ عدة سنوات، الذي يحاول التنقيب عن "عنب الملك سليمان" ويحظى البحث بتمويل سخي، بالأخص أن العثور على ذلك العنب يهدف لاستخراج نبيذ الملك سليمان ليصبح ماركة نبيذ عالمية تدّر أرباحًا كبيرة.
جبال رام الله وعنب السناسل
بقدر الاهتمام الصهيوني بالأصناف القديمة، ما زال اهتمامنا نحن الفلسطينيين بأصنافنا متواضعًا، ففي بيتونيا التي كانت تشتهر بالعنب البيتوني الممتاز لتحضير طبق الدوالي لم نعد نجد العنب حاضرًا بسبب الزحف العمراني الذي يحوّل المساحات إلى "غابة إسمنتية" دون أي اعتبارات بيئية حقيقية.
إلى الشمال من بيتونيا، يحكي الناشط "أسامة السلوادي" عن عنب الرجوم أو عنب السناسل الذي "يكاد ينقرض من الجبال الفلسطينية" كما يقول.
هذا العنب، تبعاً لحديثه، يتميز بحبته الصغيرة وشدّة حلاوته ونكهته القوية ورائحته العطرة فهو يُزرع بعلًا ويُروى من الندى.
في مجموعة "حكي القرايا" يصف عنب الرجوم بأنه "العنب الخلي السلوادي الأصيل" بأنه "عنب أشقر مغطى بالـ "نتش" وبطعم "الخلة" ورائحة عشبة "الطيون" و"الشومر".
ويضيف السلوادي: "لا بد من المحافظة عليه وإذا اضطررنا لقطعه، فلا بُد من الاجتهاد في إعادة زرعه في مناطق أخرى".
ولقي السناسل اهتماماً من بعض الرحالة الذين زاروا فلسطين قديمًا، مثل أرشيبالد فوردر الذي دوّن سطورًا مهمة عن العنب يعبر فيها عن إعجابه باستغلال كُل شيء فيه، وعدم وجود مخلفاتٍ من الكروم "إن كل شيء في الكروم ذو جدوى بدءًا بالعنب وانتهاء بالأوراق".
هذا يُذكرنا بحكايا "صفر النفايات Zero Waste" في أيامنا هذه، ولكن الفرق أن ثقافة "استغلال كُل شيء في العنب" هي ثقافة عامة في فلسطين، ومما لم يذكره "فوردر" أن الفلسطيني يصنع من العنب غير القابل للأكل (بدلًا من إلقائه في النفايات) خل العنب، بل إنك لو سألت في مدينة الخليل عن فوائد العنب لوجدتهم يتحدثون عن "بذور العنب" بأنها من أكثر ما يفيد في العنب، وبالتالي لا مجال حقاً لهدر شيء في العنب.
وعن عنب الرجوم، يقول إن معظم شجيرات العنب كانت تنمو زاحفة على الأرض، لأن الفلاح يعتقد أن العنب سينضج عندئذ ببطء في ظلال الأوراق فهو يكره أن يعلّق الأغصان على عصي مغروسة، لئلا تتعرض لحرارة الشمس اللاهبة فتنضج قبل أن يكتمل نموها، وكثيرًا ما تجعل الأغصان على أكوام من الحجارة فتنضج بسبب حرارتها الشديدة في فترة وجيزة.
امراة تقطف من عنب الرجوم (التربية الزاحفة) في قضاء رام الله (موقع فلسطين في الذاكرة)
عنب نابلس وطولكرم.. وآثار معاصر العنب
مؤسف جدًا أن مشهد عنب السناسل أو الرجوم أصبح من "الآثار النادرة" في ريفنا الفلسطيني، وهو يلّخص حكاية اختفاء العنب وزراعته من الكثير من المناطق بين نابلس وطولكرم، حيث نجد أن العنب لم يعد حاضرًا في الكثير من القرى التي لا تزال "معاصر العنب" البيزنطية تشهد بتاريخها العريق في زراعة العنب، مثل قرية إرتاح التي وُجد فيها معصرة عنب رومانية وهي أكبر معصرة عنب وُجدت في فلسطين.
وقرية "جت المثلث" في قضاء طولكرم الانتدابي يعني اسمها "معصر عنب"، بينما اليوم لم تعد تعرف زراعة العنب، علمًا أن أراضيها الخصبة استمرت في تزويد العديد من قرى المنطقة بالخضار إلى عهد قريب.
معصرة عنب في قرية عين كارم قضاء القدس - من موقع (الحياة في الأرض المقدسة)
هناك قرى ارتبطت تسميتها بالعنب مثل بلدة عنبتا وبلدة عقربا التي كانت تُسمى عقربا العنب، وكانت في الماضي تصدّر العنب، وبحسب حمزة العقرباوي "كان يخرج من البلدة بغالاً يتفاوت عددها من 150 إلى 200 بغل، محملّين بالعنب إلى سوريا والأردن.
وبالمناسبة، رغم تراجع زراعة العنب في عقربا إلا أن عنب الأغوار يتميز بكونه ينضج باكرًا وهو لذلك مطلوب جدًا، وقد اشتهرت في سابق الأيام منطقة عين جدي (عرب الرشايدة) بعنبها الذي كان يُسمى "الأنجادي" منذ أيام الرومان.
هناك قرى لا يزال يُحفظ عنها شيء من العبارات والأمثال التي تذكر بماضيها الزراعي الزاخر مثل قرية ياسوف التي قيل في عنبها: "شناشل وقطوف يا عنب ياسوف" إلا أنها لم تعد تَزرع العنب كما كانت في الماضي.
المؤرخ مصطفى كبها، أكد لنا كذلك أن قرى طولكرم مثل طيرة بني صعب، ومسكة وحتى قرية الحرم، كانت غنية بالعنب والتين سابقًا.
وفي حديث مع الحاجة سليمة ريان (84 عامًا)، ما زالت تتذكر العنب الذي كان يزرعه والدها في مدينة الطيرة وتحديدًا صنف يُدعى "كعب الستات" الذي كان طعمه "زي العسل" و"يلمع زي الذهب"، وتضيف بأن بعض القطوف كان وزنها يصل إلى رطل وأكثر.
ما بين جنين والجليل .. بقيةٌ من العنب الفلسطيني
بالاتجاه شمالًا أكثر، باتجاه جنين، سألنا عن أفضل مناطق العنب، وكانت الإجابة غالبًا هي "عنب المسلية" و"عنب قباطية" وأراضيها ممتازة لزراعة العنب، وينتج الدونم الواحد 3 أطنان وأكثر الأصناف المفضلة هناك هو "البيروتي". ومع ذلك فإن شهرة جنين ترتبط بالقمح والزعتر والبطيخ، وليس بالعنب.
كلما توجهنا شمالًا أكثر، يصبح العنب أكثر حضورًا، ويفيد الباحث الجغرافي شكري عراف في هذا الصدد، أن من بين أكثر من 30 موقعًا في فلسطين يحمل اسم الكروم او الكرم ذُكرت في الخرائط والمصادر القديمة، فإن أغلبية هذه المواقع موجودة في شمال فلسطين وفي الجليل تحديدًا، ومن هذه التسميات "دبة الكرم" في قرية أبو زريق قضاء حيفا ومنطقة "راس الكروم" شمال مدينة حيفا وبلدة مجد الكروم في منطقة الشاغور وجبل الكروم في الفراضية.
في قضاء حيفا مثلًا، يشير الباحث عراف في كتابه موارد الاقتصاد الفلسطيني إلى أن أم الزينات كانت تغرس أشجار الكرمة ذات العنب المتميز الذي يُشبّه بــ "عنب كورنث" في اليونان، وهو صغير الحجم كثير الحلاوة وطيب المذاق ويُصنع منه الزبيب.
وإلى جانب أم الزينات، كانت قرية "زمارين" التي اشتهرت بالعنب الزماريني، واليوم لا تزال هذه المناطق مشهورة بزراعة العنب ولكن من يزرعها هم سكان البلدات الصهيونية التي أقيمت على أنقاض القرى الفلسطينية.
معظم العنب في الجليل اليوم، هو عنب إسرائيلي ومعظم القرى التي كانت تزرع العنب قد هُجرّت ودمرّت.
أبرز مثال هي قرية "الفراضية" المهجرة التي كانت مُنذ حوالي 1000 عام من أشهر القرى بزراعة العنب وقد ذكرها المقدسي في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، وقال فيها: "قرية كبيرة بها منبر، معدن الأعناب والكروم، بها ماءٌ غزير وموضع نزيه".
أما اليوم، فإن الفراضية أصبحت قرية مهجرة من قرى قضاء صفد، وهي واحدة من أجمل القرى وفيها شلالات مميزة تجعلها وجهة سياحية مهمة لكل باحث عن الجمال في فلسطين.
نصل إلى محطتنا الأخيرة، حيث قرية بيت جن الدرزية، التي تميّزت بعنبها "الجناوي" الذي ذكره المبشر ستيفان شولتز عام 1754 بأنه "من أفخر وأجود أنواع العنب وأنه كبير الحجم" ، وحتى اليوم فإن شعار القرية هو العنب ولكن أخيراً بدأت تنتشر في القرية زراعة الكرز، ويبقى العنب حاضرًا.
أخيرًا، وبعد هذه الرحلة من قلب الصحراء وحتى أقاصي الجليل، فإن الخليل هي "بلاد العنب بحق"، ولعل ما يميز الخليل هو كثرة الصناعات المرتبطة بالعنب، ما يجعل عبق العنب الخليلي قادرًا على تجاوز الحدود ليصل بمنتجاته المتنوعة مثل الملبن والدبس والعصائر إلى كُل أنحاء العالم.
وإذا كان هناك شيء يستحق أن يُسلّط الضوء عليه، فهي المحاولات "الحثيثة" لتطوير "صناعات العنب" التي من شأنها أن تطوّر هذا القطاع الزراعي الهام، ومن يتأمل التجربة التركية مع "صناعات العنب" يدرك أن لدينا الكثير لنفعله، ومن يدري لعلنا يومًا ما، نجد عصير عنب الخليلي ينافس عصير "عنب بريجات" الإسرائيلي.
سجق دبس العنب - من أشهر المنتجات المصنوعة من العنب في تركيا ويُسوّق في كُل أنحاء العالم