خاص بآفاق البيئة والتنمية
اتجاه سير الخضار والفاكهة والحبوب وسائر المواد الغذائية أضحى من المدينة إلى الريف، في تغييرٍ للاتجاه الطبيعي لتدفق المنتجات الغذائية، ليمثل تعبيرًا جليًا عن عمق الخلل في البنية والعلاقة الإنتاجية الاقتصادية بين دور ووظيفة كلٍ من الريف والمدينة. إذ، أَلم تكن كل هذه المنتجات تسير بالعكس، من الريف مصدراً للإنتاج إلى المدينة بنية استهلاكية لتلك المنتجات؟ كيف تغيّر كل ذلك؟ لماذا فقد الريف الفلسطيني كثيراً من صفاته وما عادت وظيفته ونمط الحياة فيه كما ينبغي لها أن تكون، كما في الماضي القريب، الذي يذكره تماماً جيل السبعينيات والثمانينيات وما قبله من القرن الماضي؟ يوم كان يُطلق الوصف الحقيقي على ساكن الريف "فلاح"، في وقتٍ فقد غالبية أهل الريف هذه الصفة.
|
 |
عمل فلاحي جماعي وتعاوني |
تتوقف السيارة المتجهة بركابها نحو القرية، بعد يوم عملٍ طويل في ورشة أو مؤسسة أو وزارة، أو بعد زيارة للمدينة لطبيب أو قريب أو نزهة، تتوقف على باب المخبز، يترّجل بعض من فيها، يدخلون المخبز ويعودون بربطة أرغفة الخبز وينتقلون لمحل البقالة والدواجن والخضار ليخرجوا محملّين بالخضار والفواكه، الطازجة منها والمجففة.
تين مجفف "قُطّين"، عنب مجفف "زبيب"، ملبن، لوز وجوز، حليب وبيض ودجاج، اتجاه سير هذه المواد أضحى من المدينة إلى الريف، في تغييرٍ للاتجاه الطبيعي لتدفق المنتجات الغذائية، ليمثل تعبيرًا جليًا عن عمق الخلل في البنية والعلاقة الإنتاجية الاقتصادية بين دور ووظيفة كل من الريف والمدينة، إذ، ألم تكن كل هذه المنتجات تسير بالعكس، من الريف مصدراً للإنتاج إلى المدينة بُنيةً استهلاكية لتلك المنتجات؟
كيف تغيّر كل ذلك؟ لماذا فقد الريف الفلسطيني كثيراً من صفاته، وما عادت وظيفته ونمط الحياة فيه كما ينبغي لها أن تكون، كما في الماضي القريب، الذي يذكره تماماً جيل السبعينيات والثمانينيات وما قبله من القرن الماضي؟ يوم كان يُطلق الوصف الحقيقي على ساكن الريف "فلاح"، في حين فقد اليوم غالبية أهل الريف هذه الصفة.
إن التحولات التي طرأت على حياة الريف وهجر الجوهر الفلاحي فيها، لها العديد من الأسباب التي أحدثت تغيرات عميقة في حياة أهله، الذين انتقلوا من الحرية التي عاشها الفلاح بتعدد خياراته في المعيشة، إلى العبودية التي تأسر الموظف بوظيفة وعمل مأجور في المدينة بضيق خياراته وكثرة أزماته.
ولعل أحد تلك الأسباب هو تحول الزراعة التي كانت تعد عنصراً من العناصر في حياة الفلاح، إلى "مهنة وحيدة" يمارسها أناس بعينهم، وهم "المزارعون".

الزراعة فكر أحادي لا يعتنِ بالطبيعة
تحوّلت مهنة الزراعة من منهج تعددية الخيارات والوظائف، وتعددية المنتجات والمخرجات والمحاصيل، ورحابة الفكر والمعرفة واتساع الوعي والرؤية، إلى أحادية الإنتاج وضيق الرؤية وضيق الفكر المحصور في صنفٍ واحد من السلع الزراعية، التي يختص بها مزارع محدد.
حين تكون فلاحاً بحق من الضرورة بمكان أن تتقن الزراعة، والزراعة المتنوعة وبشقيها النباتي والحيواني، تتقن التقليم وبناء السناسل (الجدران الحجرية)، تتقن حلب الغنم وتربية الدجاج البلدي وانتقاء البذور وتحسين السلالات، تتقن زراعة الخضار بكل أنواعها وتعرف مواسمها، كما زراعة محاصيل حقلية متنوعة من قمحٍ وشعير وعدس وفول وحمص وذرة للحبوب أو صنع المكانس.
تتقن حصاد القمح والزيتون وتجفيف البندورة، تماماً كما الفَلَّاحة التي تتقن تحضير الخبز و"تنسيف" القمح، ونسج صواني القش، وإنتاج البذور وحفظها، وحصاد المحاصيل، وإنتاج أشتال الخضار.
فضلاً عن صنع الجبن والمرّبى وحفظ الطعام في تعاونية الحياة مع الرجل. لكن ابن الريف اليوم لم يعد يعيش حياة الفلاح الحقيقية التي كان يلبي منها معظم احتياجاته، فبات معتمداً على المدينة، وعلى غذاءٍ يأتي من مزارعين بعيدين عن بلده أو عن بلاد تمتد بينه وبينها آلاف الكيلومترات.

الفلاحة عمل جماعي وتعاون
فن العيش الفلاحي المتوازن
الانتقال من حياة الفلاحة إلى مهنة الزراعة كما الوقوف في وسط ساحة رحيبة والنظر نحو الزاوية، هنا يبدأ الأفق يضيق وينحسر، فينحصر الفكر ويتقوقع في الأحادية الرتيبة حد الملل، المملة حد اليأس بوصفاتها الجاهزة التي يبتكرها آخرون، في مكانٍ بعيد دون أن يكون يدٌ لك فيها، يتحدد فيها إبداعك أيها الفلاح، وما هدف الآخرين من ذلك سوى الابقاء على الهيمنة عليك، في استخدامك لمحصولٍ من نوع واحد، ربما من صنف واحد، مستخدمين كل أسلحتهم للسيطرة على جيب المزارع وحياته.
فبذوره منهم وأسمدته الفتاكة بالأرض، وكذلك سموم المبيدات منهم، كلها تنهك تربة أرضك وفي إثرها تتحمل الديون وتعاني أزمات اقتصادية ونفسية، أمام انحسار في العلاقات الاجتماعية وتقوقع حول الذات والدخول في مطحنة المنافسة وقوانين السوق، التي لا ترحم.
فيما الفِلاحة هي كالوقوف في زاوية الساحة بما تمتلك من معرفة ومهارات والنظر للأفق البعيد برحابته وتنوعه وتعدد ألوانه وامتلاك مهارات "فن العيش المتوازن".
وحين تكون مزارعاً ليس بالضرورة أن تكون فلاحاً وتتقن فن العيش الفلاحي، بينما العكس مؤكد، فحين تتقن حياة الفلاحة وتعيشها، فأنت مزارع بكل الصفات وأهمها أنك حرٌ في خياراتك وممارساتك اليومية مع أرضك وحيواناتك، تتعاون مع أقرانك الفلاحين وتتبادل معهم المعارف، التي تأتي من انسياب الوعي بالطبيعة والحياة، لتبني بها ومعها فن التوازن.
الزراعة مهنة كأي مهنة، هي مثل فني كهرباء أو ميكانيكي سيارات أو مهنة الخباز أو صانع الفخار يمكن تعلّمها، لها مدخلات أو مواد أولية تُعامل وتُعالج لينتج عنها سلعة، تباع في السوق وبقوانينه، التي تترك المزارع فريسة للمتحكمين بالسوق بغاياتهم الخاصة وأهدافهم لتحقيق أعلى ربح، غير آبهين بتعب المزارع ومعاناته وديونه وتكاليف إنتاجه، وبذلك يصبح العمل في الزراعة كالمقامرة، تصيب فيها الهدف مرة وتربح، وتخطئ مراتٍ أكثر وتخسر، فتبقى تدور في حلقة قوانين السوق الطاحنة.
أما الفلاحة فهي منهج حياة وفن عيش، حيث هنا لا مكان للخسارة، فيها تعدد الخيارات وكثرة النشاطات وبساطة الحلول وقلة التكاليف، حين يكون الاعتماد على الموارد المحلية.
ومن هنا نعرف المعنى الحقيقي للفلاحة، لأنها ببساطة تشير إلى طريق العيش في الخير والنعيم وهذا يساوي الشعور بعيش حياة البركة، التي تعني إحساس الوفرة فيما لدينا من خير، مهما قل أو زاد في الكمية، لأننا في حياة الفلاحة نعرف كيف نتكيف ونرضى بما يأتينا من خير الأرض إنتاجًا، أو يفيض من خير السماء غيثًا وماءً.

الفلاحة انتاج نباتي وتربية حيوانات
المزارع وأحادية الخيارات
لو ذهبنا إلى المعنى المجرد كما ورد في كتب المعاني والمعاجم، سنجد أن كلمة "الفَلَاح" وأصلها فَلَحَ، التي اشتقت منها كلمة فَلَّاح، تعني "الخير الباقي أثره" وتعني النجاح والفوز، فالفَلَّاح هو إنسان ناجح أثره باقٍ في الحياة بوجوده وبعد رحيله.
أما المزارع فتأتي من كلمة زرع أي وضع بذرة أو شتلة في التربة، هو من ألقى بذرة في التربة ودفنها، أو غرس غرسة في الأرض. هذا المعنى لا يشير حتى إلى احتمال النجاح أولاً، ولا يشير إلى تعدد الخيارات والممارسات ولا إلى بقاء الأثر، هو يزرع يقطف ويمضي.
لكل ذلك فإن التحول والانتقال من عيش حياة الفلاحة بتقاليدها وجوهرها، نحو ممارسة الزراعة المجردة أدى لتغيرات جذرية في المفاهيم والممارسات والبعد الاجتماعي، كما الصحي والاقتصادي والعلاقة بالطبيعة.
فمن حياة التعاون واندماج العائلة في العمل والأحاديث حول كانون النار أو الموقد في الشتاء وتسخين القطّين على نار الموقد وتحميص اللوز، والكلام في المواسم وما يجب عمله وترديد الحِكَم والأمثال الشعبية، المرتبطة بالحياة الفلاحية، حولت الزراعة كل ذلك إلى قلق حسابات نجاح المحصول أو خسارته، والخوف من تقلبات السوق وانهيار الأسعار، والتوتر من ترقب ارتفاع أسعار البذور والكيماويات، والريبة من غش مدخلات الإنتاج، وملائمة الصنف وعدم فاعلية السموم الكيميائية، والتشكك في حِيَلْ السوق وتجاره.
يضاف إلى ذلك أنه قد تغيرت الأدوار، ليتحول أفراد العائلة إلى منفذّين لخطوات مرسومة من طرف الشركات إن كانوا يشاركون في العمل الزراعي، خطوات ترسمها الشركات للقائم الأول على العمل الزراعي/المزارع، ينقلها إلى المشاركين في العمل، إذ تحوّل هنا دور بقية أفراد العائلة من مشاركين في رسم الأدوار والمهمات، إلى منفذين لتعليمات ليس لهم دورٌ في ابتكارها، كما ليس لموزع الأدوار أيضاً دور (الأب أو الأخ القائم على المزرعة/المزارع)، فهو يتلقى البذور من شركاتها عبر الوسطاء ولا ينتج بذوره الخاصة، ويعتمد على التقنيات المستوردة والسموم الكيميائية.
فيما في الفلاحة كان الفلاح ينتج البذور بنفسه، ويختار النبات ذا المواصفات الأفضل ويترك عليه الثمار، فتستخلص الزوجة أو الابنة تلك البذور وتحفظها للمواسم القادمة بطرقها التقليدية الفعالة عبر مئات السنين.
المرأة تحدد أي القمح أفضل من حيث "العِرق"، بمعنى أيهُ الأفضل لعمل العجين، والعرق صفة مهمة لعمل العجين ليكون "ليّناً".
هو يزرع وينتقي الأصناف الأكثر إنتاجية من حيث إنتاج الحبوب، و"القش" لعمل التبن علفاً للحيوانات، والمرأة تحدد أيها الأفضل لاختيار القش المناسب لصنع المنسوجات منه، كصواني القش والسلال ومنسوجات لزينة البيت. تكاملية في الأدوار، حاضرة في حياة الفلاح غائبة عن حياة المزارع.
إن أحادية الزراعة المرتبطة بزراعة محصول واحد، قادت وتقود إلى أحادية الخيارات، وأحادية الخيارات هي الأساس الذي تنشأ من خلاله الأزمات، التي ليس لها من سبيلٍ للحل إلا بالعودة إلى تعددية الخيارات، سواء كان ذلك في الفلاحة أم الحياة الاقتصادية وصولاً إلى السياسة.
وأزمات الأحادية حين تنشأ تتسم بالارتدادات العنيفة، لأن أحادية الخيارات تشبه السير في طريق واحد، إذا وجدت فيه حاجزاً أو عائقاً يمنع مواصلة السير، تقف هناك وتبدأ في البحث عن المخرج من الأزمة، المَخرج الذي قد يطول البحث عنه حتى تجده، أو قد لا تجده أبداً لتكون النتائج كارثية وخيمة، بينما يتيح تعدد الخيارات إلى سهولة إيجاد المخرج، حين ينغلق طريق من الطرق، وذلك لوجود البدائل.
 |
الفلاح ينتج بذوره بنفسه |
حلٌ لأزماتنا لا خلقها
هكذا هي الفلاحة، إذا أُغلق مصدر دخل أو مصدر إنتاج فلن يتأثر الفلاح، لأن بين يديه خيارات كثيرة وطرق أخرى يسلكها بسهولة، لأنها ببساطة موجودة معه هنا، فيما المزارع المعتمد على الأحادية، سيكون في مهب الريح حين يصبح عرضة لأزمة تغلق عليه الطريق، وسيحتاج الكثير ليجد السبيل للخروج من تلك الأزمة، التي ستكلفه غالياً، وربما لن يستطيع منها الخروج، بل ستزيده غرقاً فيها.
لعل استعادة الحياة الفلاحية سوف تحل العديد من الأزمات، التي لا تبدأ بأزمات السوق وحده ولا تنتهي بتوفر فرص العمل من عدمها، فعبر الحياة الفلاحية تتحسن تعددية المنتوجات وتنوعها، تجد المرأة لها فرصة لممارسة نشاطات كثيرة متنوعة، تعيد العلاقات الأسرية إلى دفئها، الذي سرقته منا التكنولوجيا والحياة العصرية.
تعيد علاقات التعاون بين الناس وتعيد للطبيعة دورها في خلق التوازن النفسي والصحة الجسدية، التي نفتقدها بسبب الخمول لجلوسنا الطويل خلف المكتب أو مقود السيارة، وبسبب أنماطنا الغذائية المبنية على المواد المصنعة والوجبات السريعة والغذاء، الملوث بالمواد "الحافظة للطعام والهادمة لصحة الأجسام"، لتسهم في حل مشكلات تربوية نعاني بسببها مع الجيل الجديد، إنها تعني العيش ضمن فلسفة حياة شمولية، في مقابل منهج زراعة تسبّب في خلق أزمات متزايدة.
ولعل لأزمات العالم الحالية عِبرة لنا لنعيد بريق الفلاحة لحياتنا الريفية، مقابل لون الزراعة الأحادية الباهت.
هذه العودة تعني التعرف إلى الخيارات والبدائل التي تتوفر لنا في تفاصيل الحياة، مقابل حياة تستمر معنا في خلق الأزمات والمشاكل، فهل سنجد طريقنا لننتقل من الزراعة ضيقة الأفق إلى الفلاحة رحبة الخيارات؟