الإقبال على الكماليات.. ثمن باهظ لسلوك ينتظر التصويب
خاص بآفاق البيئة والتنمية
أعدّت "آفاق البيئة والتنمية" لائحةً بالسلع الاستهلاكية الكمالية التي من الممكن الاستغناء عنها، وقد عكف مراسلها طوال شهري أيار وحزيران من العام الجاري على جمعها من 60 مستهلكًا يشترونها، وقد أقروا بأنها "غير ضرورية"، خاصة مع الارتفاع المتصاعد للأسعار. السلوك الاستهلاكي الحالي "غير الرشيد" يقود إلى قلة المساحة المتاحة للادخار، وتراجع فرص الاستثمار، لا سيما أن الاستهلاك المرتفع بات يفوق الدخل والقدرة المالية، ما يؤدي إلى الاقتراض من البنوك أو الأقارب، ويتسبّب بتراكم الديون، فيصبح الدخل المتاح للادخار المستقبلي أضعف؛ لأنه سيتوجه لسداد قروض سابقة، كما ستتراجع الاستثمارات الفردية. التأثيرات الاستهلاكية سلبية، وهذا الاستهلاك لا يؤثر كثيرًا على فرص التنمية المُستدامة، ولا يخلق فرص عمل؛ لأن معظم ما نستهلكه نستورده من الخارج، ولا ننتج محليًا الكثير من السلع والخدمات، إذ نستورد سنويًا سلعًا بحوالي 6 مليار دولار، ونصدّر بمليار، ما يخلق عجزًا في الميزان التجاري، الذي يغلب عليه إنتاج زراعة وصناعة وسياحة داخلية، لكن ما نستورده يفيد اقتصاد الدول المنتجة خاصة دولة الاحتلال، وتركيا، والصين.
|
 |
ثمة سلع استهلاكية يمكن الاستغناء عنها، وقد مكث مراسل "آفاق البيئة والتنمية" يجمع لائحة تتضمن أهم الكماليات طوال شهري أيار وحزيران العام الجاري، من 60 مستهلكًا يشترونها، وقد أقرّوا أنها غير ضرورية، خاصة مع الارتفاع المتصاعد للأسعار.
تشمل القائمة عشرات الأصناف، أبرزها اللحوم المُجمّدة كونها باهظة الثمن، واللحوم المُصنّعة، والأجبان المستوردة التي تدخل في صناعة البيتزا، والشوكولاتة، وزبدة الفستق القابلة للدهن، والحليب المُكثف، والأجبان، والسلطات الجاهزة، والبطاطا المُعدة للقلي، والأدوات البلاستيكية العديدة التي تستخدم مرة واحدة، والمسلّيات المستوردة، والفواكه المجففة، ومنكهات الطعام كالعمبة، والمايونيز، والثوم، وأنواع من المشروبات الغازية والعصائر، ومياه الصودا، ومشروبات الطاقة، والخبز المستورد مرتفع الثمن، ومعطرّات الجو، والزيتون الأبيض والأسود المُشرّح، ومساحيق الكيك الجاهزة للتقديم.
 |
لحوم مصنعة |
كما تضم لائحة الكماليات السجائر والمعسّل، ومعظم أنواع المُعلبات، والقشطة، ورقائق الذرة، والحلويات الجاهزة للتقديم كالجلي والسحلب، والأدوات الكهربائية مثل الجلاّيات وما يتبعها من مستلزمات، والكثير من مساحيق التجميل.

سلوكٌ غير منسجم مع المنطق الاقتصادي
يرى جمال المصري، وهو موظف حكومي أن مقاييس اليوم للسلع الثانوية تغيرت، فمثلًا، بالإمكان عدم اقتناء السيارات الفارهة، والملابس التي تتبع صرعات الموضة، والتوقف عن التغيير المتكرر لجهاز المحمول، والكف عن ملاحقة الماركات، ووقف البذخ في الأعراس، وعدم شراء الجلاّيات وتوابعها، أو الغسالات الذكية ومجففات الملابس، وأفران الميكرويف، والاكتفاء بثلاجة واحدة في المنزل.
"تغيير السلوك الاستهلاكي يرتبط بالتغيرات الاجتماعية أكثر من كونه مسألة تنسجم كثيرًا مع المنطق الاقتصادي" إنها وجهة نظر الخبير الاقتصادي د. نصر عبد الكريم.
ويقول في حديثه معنا إن الاستهلاك في الحالة الفلسطينية "سلوك ونزعة تتأثر بالاتجاهات العالمية، والانفتاح الكبير في التواصل والتسويق"، ما أتاح فرصة الوصول بشكل أسهل للكثير من المنتجات والخدمات، التي لم تكن معتادة سابقًا.

الخبير الاقتصادي د. نصر عبد الكريم
ووصف د.عبد الكريم السلوك الاستهلاكي الحالي بـ "غير الرشيد"، الذي يقود إلى قلة المساحة المتاحة للادخار، وتراجع فرص الاستثمار، مع استهلاك عالٍ يفوق الدخل والقدرة المالية، ما يؤدي إلى الاقتراض من البنوك أو الأقارب، ويتسبب بتراكم الديون، ويصبح الدخل المتاح للادخار المستقبلي أضعف؛ لأنه سيتوجه لسداد قروض سابقة، كما ستقل الاستثمارات الفردية.
ويضيف: "يحرّك الاستهلاك النشاط الاقتصادي، ويؤدي إلى شركات تبيع أكثر، ولمستثمرين يُقبلون على الاستثمار، فيحفّز الطلب على السلع، ويخلق دورة اقتصادية نشطة".
وفي السياق نفسه، يذكر أن الكثير من الاقتصادات العالمية يحفزها الاستهلاك كما في الولايات المتحدة، التي تتمتع باقتصاد نشط ومديونية عالية، مستدركًا حديثه: "لكن فلسطينيًا، التأثيرات الاستهلاكية سلبية، لأن ما يُستهلك لا يؤثر كثيرًا على فرص التنمية المُستدامة، ولا يخلق فرص عمل؛ لأن معظم ما نستهلكه نستورده من الخارج، ولا ننتج محليًا الكثير من السلع والخدمات، إذ نستورد سنويًا سلعًا بحوالي 6 مليار دولار، ونصدّر بمليار، ما يخلق عجزًا في الميزان التجاري، الذي يغلب عليه إنتاج زراعة وصناعة وسياحة داخلية، لكن ما نستورده يفيد اقتصاد الدول المنتجة خاصة دولة الاحتلال، وتركيا، والصين".
وأكد أن السياسة النقدية وتشجيع القروض "يرتبطان بحياة الناس وتغيير نزعاتهم الاستهلاكية والاستثمارية، وليس بتشجيعهم من جهة بعينها"؛ لأن الاقتراض من البنوك قرار فردي، ربما يُمارس على نحو غير رشيد في القروض الاستهلاكية، وهناك آخرون يقترضون لغايات إنتاجية واستثمارية وتجارية.
ولا يُخفي عبد الكريم أن غياب البنوك وعدم انتشارها، كما كان الحال قبل قيام السلطة، كان "سيقلّل من التوجهات الاستهلاكية، والانزياح نحو اقتناء السيارات الفارهة والرحلات مثلًا".
وأشار إلى سلوك يتمثل في بيع الأراضي بمبالغ كبيرة، ليس للاستثمار بل للتوجهات الاستهلاكية، ولوجود سيارات فارهة في بعض مدن الضفة الغربية غير موجودة في الدول الغنية؛ لأن الفيصل في اقتناء المركبات معدل استهلاكها للوقود ومدى عمليتها.
وأفاد أن محاكمة النزعة الاستهلاكية يجب أن تكون من منظور اجتماعي أكثر، وليس اقتصاديًا، كما أن تحميل الديون للمستقبل كما يفعل الأفراد والدول، يعني "السرقة من الأجيال القادمة".
ويعزي عبد الكريم التوجهات الاقتصادية الراهنة في جزء منها إلى "المحاكاة والمباهاة"، فمن ينفق مثلًا على حفل زفاف نصف مليون شيقل، لا يملك عقلًا اقتصاديًا رشيدًا؛ لأنه يشكل عبئًا اقتصاديًا له انعكاساته الاجتماعية على استقرار الأسر.

لحوم مجمدة بمبالغ كبيرة
وأكد أن وجود فئة من الأثرياء (غير معروفة نسبتها) في السنوات الخمس عشرة الماضية، بطرق مشروعة أو غير مشروعة، أدت إلى خلق تنافس في اقتناء "أصول شخصية ترفيهية وليس إنتاجية"، وأصبحت تتطلب خدمات خاصة بها كالمقاهي والمطاعم بأسماء عالمية؛ للتميز عن باقي فئات المجتمع، فيما أصبحت المقاهي والمطاعم الشعبية ليست جذابة، كما تغيّر نمط السلوك الحياتي.
وقدّر عبد الكريم أن معظم فئات المجتمع إما لديها دخل متوسط أو محدود بالكاد يكفي للعيش الكريم، فيما كانت الطبقة الوسطى كالأطباء، والمهندسين، وأساتذة الجامعات، ورجال الأعمال الصغار العمود الفقري للاقتصاد، وهي آخذة بالتأكل لصالح الفئات الفقيرة وليس الثرية.

عزمي الشيوخي رئيس جمعية حماية المستهلك الفلسطيني
الأولوية للسلع الأساسية.. والكماليات تبذير
بدوره، قال عزمي الشيوخي رئيس جمعية حماية المستهلك الفلسطيني إن الاستهلاك عمومًا يرتبط بالقدرة الشرائية، وبقوة العملة المتداولة، ومزاجية المستهلك وتوجهاته.
ودعا الشيوخي إلى تشجيع "السلوك الاقتصادي العقلاني" الذي يستجيب للتوفير وترشيد الاستهلاك، ويتفادى الكماليات، ويبحث عن البدائل، ويستند إلى ميزانية محسوبة للأسرة بعيدًا عن الإنفاق العشوائي، بحيث يراعي الاحتياجات اليومية كافة، ويستجيب للمتطلبات الثابتة كإيجار البيت، والكهرباء، والمياه، والطعام والشراب، ويعطي الأولوية للسلع الحياتية الأساسية، التي لا يمكن الاستغناء عنها، مع ضرورة ترشيد الإنفاق باعتباره سلوكًا يوميًا يتفادى هدر الطاقة والمياه والموارد كلها.

سلع غابت عن الاكتفاء الذاتي
ووصف التوجه للكماليات على حساب السلع الحيوية بـ"التبذير غير المبرر، والعبء الإضافي على كاهل الأسرة"، الذي يدمر اقتصاديات العائلة، خاصة أنه يقضي على فرصها في التوفير، ويبدّد كل مدخولاتها، لكن في حال إخراجه من موازنة الأسرة سيخفف من أعبائها.
ونصح الشيوخي المستهلكين بشراء السلع الضرورية بكميات قليلة دون تخزينها، وهو ما سينعكس على ثبات الأسعار وعدم استغلال التجار في حال زيادة الطلب.
ويؤيد تمامًا فكرة أن "مقاطعة الكماليات ممكنة"، فيقول: "اقتناء جهازيّ هاتف وثلاثة أحيانًا للفرد نفسه أمر غير واقعي، يتطلب دفع نفقات شهرية ما تلبث أن تتراكم، وتحرّك العائلة بسيارتين أو ثلاثة مشكلة كبيرة يمكن حلها باستخدام مركبة واحدة، أو التوجه نحو المواصلات العامة، أو السير للمسافات الكبيرة المزدحمة".

واقترح شراء كميات قليلة من الخضراوات، حتى لو بثمن قليل؛ لأنها ستتلف خاصة لدى الأسر الصغيرة، ومقاطعة الفاكهة مرتفعة الثمن إلى أن تنخفض أسعارها من كبار المورّدين، والتوجه نحو الأصناف ذات الأسعار المعقولة.
وينطبق اقتراحه على الألبان والأجبان واللحوم وسائر السلع، مؤكداً أن "كبح الشراء المفرط، والشراء السلبي للكماليات أمر سهل وممكن؛ لأن من الضروري الموازنة بين الدخل الشهري والاحتياج".
ويواصل حديثه: "الحاجة ماسة لرفع وعي المستهلكين، ولتعزيز الاستهلاك الإيجابي، والعودة نحو الاعتماد على الذات، وإنتاج بدائل غذائية منزلية، وعدم الانجذاب وراء حيل التسويق الذكية والجذابة، وتجنب الشراء من تاجر محدد والبحث عن أقل الأسعار في الأسواق، خاصة مع تراجع القوة الشرائية وتآكل الدخول الشهرية".
وتبعاً لكلامه فإن "حماية المستهلك" جهة توعوية مهمتها توعية المواطنين، وتعزيز اقتصاديات الأسر، وتخفيف معاناتها بإدارة رشيدة تعزز صمود المواطنين، لكنها لا تستطيع سنّ قوانين أو قرارات، أو فرض غرامات.

د.اياد ابو بكر العميد السابق لكلية التنمية الاجتماعية والأسرية في جامعة القدس المفتوحة
القهر الاجتماعي والآثار النفسية والأسرية
بدوره يرى د. إياد أبو بكر العميد السابق لكلية التنمية الاجتماعية والأسرية في جامعة القدس المفتوحة، أن التغيير الراهن "مسَّ طريقة الحياة، ولم يعد هناك اكتفاء ذاتي، أو تصنيع منزلي كما في السابق، ففي الماضي كانت الأسر تتمسك بإعداد الخبز في البيوت بأكثر من طريقة، لكن اليوم اتجه المعظم في منحى آخر، وتوقف عن إنتاج قُوته بمفرده، معتمدًا على المخابز.
وحسب وجهة نظره، أن اقتحام التجارة لكل أنماط الحياة وانفتاحها ووجود مستثمرين في حقولها المختلفة غيَّر من طبيعتها، وبالتالي لم يعد هناك استعداد للتصنيع المنزلي، أو زراعة حديقة البيت، وغيرها من الاحتياجات.
وذكر أبو بكر أن التوجه نحو الكماليات سببه "تحسن الأوضاع الاقتصادية والتقدم الصناعي، الذي وفرَّ السلع الأساسية"، ثم بدأ الاتجاه نحو الكماليات، مثلما تغيرت المعايير الاقتصادية، ففي السابق كان من يمتلك سيارة يعد من الأثرياء، وكان في كل بلدة سيارة أو اثنتين، لكنها اليوم أصبحت أساسية في كل بيت.
وأفاد أن شريحة كبيرة من الناس لا تنفك عن عقد مقارنات حول أنماطها الاستهلاكية، بسبب أشكال التواصل المتقدمة، والسفر، والتقليد، والتنافس على شراء أحدث الأجهزة الخليوية، والمَركبات، واقتناء أجهزة التكييف التي لم تكن منتشرة أو ضرورية في السابق.
ونزعة التقليد لها تفسير أورده المفكر ابن خلدون في نظرية "القهر الاجتماعي"، والذي يعني أننا رغم عدم اقتناعنا بالكثير من السلوكيات، إلا أننا نمارسها مكرهين، فمثلًا شاعت عادة السفر إلى تركيا، فأصبح كل الناس يريدون السفر إلى تلك الوجهة، كما أن عادة "النقوط" و"العيدية" و"حفلات التوجيهي"، رغم عدم اقتناع شرائح واسعة بها، أصبحت من العادات الشائعة، حتى لو اضطر الأمر للاستدانة، تبعًا لقوله.
وأردف قائلًا: "السمات الشخصية مهمة في نزعة الاستهلاك. هناك أثرياء يحرصون على نمط استهلاك ذكي فلا يتأثرون بأحد، ولا يغريهم توفر السلع ولا طريقة عرضها".
وحذر أبو بكر من "الثمن الاجتماعي والنفسي الكبير للإفراط في الكماليات، خاصة إذا ما ترافق مع عدم القدرة على توفير الأساسيات"، ما يتسبب بضغوط اجتماعية ونفسية، ويؤدي إلى علاقة متوترة بالأسرة، وقد يعمد الأبناء إلى تقليد أسلوب إدارة الأب الاقتصادية غير الموّفق.
وأشار إلى أن "إعادة هندسة المجتمع ممكنة"، بحيث تشارك فيها وزارات التربية والتنمية ووكالات التنشئة الاجتماعية، ويمكننا تدريب طلبة المدارس على مهارات الحياة، مع الأخذ بالاعتبار أن الأسرة لم تعد وحدها التي تربي، فمواقع التواصل أصبحت وكالات تنمية اجتماعية مُستجدة، قد تعود علينا بمردود سلبي، وفي كل الأحوال على الأسرة منح الأبناء هامش ترتيب الأولويات في حياتهم.

محمد كميل مدير عام الغرفة التجارية والصناعية في جنين
ثقافة استهلاكية غائبة وسوق منفتح
بدوره، يشدد محمد كميل مدير عام الغرفة التجارية والصناعية في جنين، على أهمية فهم أصول المشكلة في التوجهات الاستهلاكية، ومعرفة مصدرها، إذا ما كانت من التاجر، أو المستهلك، أو السياسات الضريبية.
وأضاف كميل: "المواطن الفلسطيني لا يمتلك ثقافة استهلاكية، وهو أمام سوق منفتح، وليس لديه ضوابط، وهو مختلف عن أجدادنا الذين كانوا يتجهون للاقتصاد المنزلي، ويخزنون سلعهم الأساسية".
ويواصل توضيح فكرته: "لدينا "أزمة وعي" تقف عائقًا أمام استهلاك متزن يبتعد عن الكماليات"، وهو دور منوط بجمعيات حماية المستهلك، والاقتصاد الوطني، والإعلام، وليس من مسؤولية الغرف التجارية، لكنه دور غائب".
وأشار إلى أن القطاع الخاص يسير بعشوائية ويفتقر إلى التنظيم الذكي في استهداف المستهلكين، ولو كان منظمًا لاختلفت المعادلة وتعقدت أكثر أمام المستهلك".
فلا يدرك المستهلك أولوياته عند الشراء، في حين يعرف التجار جيدًا ما يطلبه المستهلكون، وعندما يتوقف المستهلك عن طلبها سيحجمون عن استيرادها، وسيبحثون عن بديل، كما يقول.
ونفى وجود أي تأثير للوعي الاستهلاكي على القطاع الخاص، لكنه يعتقد بـ"استحالة تغيير أنماط الاستهلاك للكماليات من زاوية اجتماعية تأصلت لصالح استهلاك سلعٍ لسنا بحاجة إليها".
وأكد كميل أنه بوسع المعلمين والوعاظ التأثير في التوجهات الاستهلاكية للأفراد، لكنهم في الحالة الراهنة يعيشون ظروفًا صعبة تكبح دورهم تجاه المجتمع.