بعد التخلي عن زراعته.. القمح كنز ضائع وسيادة غائبة
خاص بآفاق البيئة والتنمية
الحرب الروسية الأوكرانية كشفت هشاشة سيادتنا على غذائنا، وبرهنت الخطأ الإستراتيجي في التخلي عن أهم زراعة تقليدية في فلسطين، وهي القمح، ليس لأثر هذا النمط من جدوى اقتصادية، بل لقيمة سنابله في أمننا الغذائي، وما يترتب عليه من قدرة على خلق حالة من الاكتفاء الذاتي بوجوده في خزائننا. السؤال الأهم اليوم: لماذا لا نرد الاعتبار لزراعة القمح، باعتبارها البوابة لسيادتنا على غذائنا وقراراتنا؟
|
|
حقل قمح في قضاء جنين |
كشفت الحرب الروسية الأوكرانية هشاشة سيادتنا على غذائنا، وبرهنت الخطأ الإستراتيجي في التخلي عن أهم زراعة تقليدية في فلسطين، وهي القمح، ليس لأثر هذا النمط من جدوى اقتصادية، بل لقيمة سنابله في أمننا الغذائي، وما يترتب عليه من قدرة على خلق حالة من الاكتفاء الذاتي بوجوده في خزائننا.
كان الأجداد والجدات والأمهات والآباء، رحمهم الله، وأمدَّ في عمر الباقين، أكثر حكمة وقدرة على إدارة اقتصاديات الأسرة. حرصوا على أمنهم الغذائي باقتدار، فخزّنوا في كل بيتٍ القمح والزيت وكل الاحتياجات تقريبًا بالتجفيف والغلي والتمليح، وامتلكوا مقومات الصمود.
في حين لو ينقطع الخبز لدينا، أو الكهرباء والغاز هذه الأيام لن نجد في غالبية بيوتنا شيئًا، وسنعجز حتى عن صناعة ما يسد رمق أطفالنا لما يكفي لعشية وضحاها.
حقول جنين قبل الزحف الإسمنتي
"خوابي"
حتى مطلع الثمانينيات، شهدنا في كل بيت ريفي (خابية)، وهي مستطيلة الشكل من المعدن (الزينكو) أو بناء من الطين، ويكون داخل العقود والبيوت القديمة، له فتحة علوية كبيرة وأخرى صغيرة في الأسفل؛ لتخزين القمح غالبًا ومواد غذائية أخرى في البيوت.
طحن القمح كان أحد طقوس أهالينا، فمن بلدنا غرب جنين، كانت العائلات تتوجه إلى اليامون وكفرذان لطحن القمح على الدواب، ثم تأسست مطحنة متنقلة ملحقة بجرار زراعي تصل البلدة. وفي السبعينيات كان (ببور طحن القمح) في برقين وشغلّه الحاج أبو محمود الكفرذاني.
حاورت في حينه المؤرخ المرحوم مخلص محجوب الحاج حسن عن واقع جنين قبل النكبة، فعام 1945 كانت المدينة تحتل المرتبة الثانية في إنتاج القمح من بين أقضية فلسطين الستة عشر بواقع 6195 طنًا، ونتيجة لذلك الإنتاج الوفير، كانت تشتهر بطواحينها "طاحونة البد"، و"الصباحية الغربية"، وأم القناطر الكبيرة، والمجيدية، لكنها اليوم هُدمت كلها، ولم تعد إلا بقايا واحدة منها، يلاحقها العمران من كل الجهات.
وبحسب الحاج حسن، ظهرت الطواحين المائية قديمًا، وعُرفت لاحقًا بالمطحنة أو الطاحونة؛ وهي عجلة مائية مثبتة أفقيًا تحت حجريّ الرحى، وتدور فراشاتها المُسننة بفعل تيار مائي متدفق أو مندفع نحو أرياش العجلة، لطحن القمح، معتمدة على قوة مصادر المياه. وكانت تتوقف الطواحين عن العمل أيام "الجمعة والسبت والأحد".
بقايا طواحين جنين
إحدى التداعيات المحتملة للحرب الراهنة هذه الأيام، تأثرّنا بشح القمح وارتفاع أسعاره، والمواجهة الحالية فرصة لمحاسبة المتورطين في وأد حقولنا، وإلهائنا بسنابل إسمنتية، فقد كانت جنين تصدّر القمح قبل ولادة الرئيسين الروسي والأوكراني، لولا سوء التخطيط، ومحاربة الأنماط التقليدية.
الزراعة الملاذ
في حوار سابق مع صلاح البابا مدير عام الإرشاد في وزارة الزراعة، أكد أن الزراعة "ملجأ وملاذ لشعبنا في الأزمات المتعاقبة"، فرافقت جائحة كورونا عودة المزارعين إلى أرضهم، فيما أطلقت الوزارة وائتلاف المؤسسات الزراعية والمشاتل الخاصة مبادرة زراعة الحدائق المنزلية، التي تستهدف الحيازات الصغيرة بمساحة 100 متر، وشملت 10 آلاف مزارع في أيامها الأولى، وتضاعفت إلى 12 ألف مستفيد، وحتى نهاية نيسان 2020 وصلت إلى 15 ألف مستفيد، بنحو مليون ونصف شتلة خضار لكل ما يحتاجه المطبخ الفلسطيني، كالبندورة، والخيار، والفلفل، والباذنجان، والبصل، والبقدونس، وبذور الفقوس، والكوسا البلدي، والجرجير".
وقال البابا إن الوزارة توزع سنوياً ما يتراوح بين 15 و 20 طناً من بذار القمح بنوعية جيدة وذات قدرة على مقاومة الجفاف، وتعمل منذ ثلاث سنوات على إعادة الفلاحين إلى زراعة القمح، لكن المساحات ما زالت متواضعة جدًا، والإنتاجية متدنية، وغالبية المحصول يذهب لإنتاج الفريكة.
قمح
عجز وثقافة
في تقييم سابق في مطلع الجائحة، يخبرنا د. خليل العارضة مدير حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد الوطني، أن احتياطي محافظة جنين من القمح متوفر في مطحنة واحدة، بنحو 1400 طن، وبوسعه سداد احتياجات المحافظة 45 يومًا دون إدخال أي شحنة جديدة. وبالنسبة للضفة الغربية، فلو توقفت حركة الاستيراد، فإن المتوفر من سلع غذائية سيكفي لستة أشهر.
لكن المفارقة التي يؤكدها العارضة أن "قمح جنين لا يصلح للعجين مقارنة بالقمح الأميركي المستورد"، ولو توفرت كميات من القمح المحلي، فلن يستطيع صاحبها تسويقها للمخابز، بل يذهب أعلافًا للأغنام.
بدوره أفاد نضال ربيع، ممثل فلسطين وعضو اللجنة التنفيذية في حركة طريق الفلاحين العالمية (لا فياكمبسينا)، بأنه يزرع 65 دونمًا في بلدته ترمسعيا نصفها بالقمح، وعاد إلى تخزين القمح والطحين، ونجح في الوصول إلى مصدر للقمح البلدي في طمون، مضيفًا: "أجدادنا لم يشعروا بنقص في أمنهم الغذائي، ولم يستوردوا معظم غذائهم، وكانت قراراتهم من رؤوسهم".
الزحف الاسمنتي يزحف في أراضي مرج ابن عامر الخصبة دون رحمة
فيما يقول مزارعون في جنين وطوباس إن دونم القمح الواحد يخسر في الغالب 100 شيقل؛ لمنافسة القمح المستورد لمحصولهم حيث تدني أسعاره، فضلاً عن ارتفاع تكاليف إنتاج القمح، الذي يذهب معظمه لصناعة الفريكة.
والسؤال الأهم اليوم: "لماذا لا نرد الاعتبار لزراعة القمح، باعتبارها البوابة لسيادتنا على غذائنا وقراراتنا؟"
سنابل اسمنتية في مدينة جنين