October 2010 No (29)
مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا
تشرين اول 2010 العدد (29)
 

المياه المنهوبة لصالح المستوطنات الإسرائيلية تجري تحت منازل أهالي "الجفتلك" العطشى فيسمعون هديرها ويتحسرون على حالهم

رائد جمال موقدي
خاص بآفاق البيئة والتنمية

بين التلال الصفراء صوب حدود الأردن، وفي قلب غور الأردن تقع قرية الجفتلك التي كانت في الماضي تعد جزءاً من سلة فلسطين الخضراء. قرية اشتهرت بماضيها العريق، حيث عرفت منذ الحكم التركي باسم "ارض الإمارة" وكذلك "واحة الأغوار الخضراء".
إلا ان الجفتلك بمرور الأيام وتعاقب السنين انقلب حالها، فهي تشهد اليوم مأساة حقيقية سببها الاحتلال، فالقرية المقامة أصلا على خزان ضخم من المياه، يشكو سكانها من العطش الشديد وعدم توفر شبكة كهرباء، إضافة إلى كونها تفتقر لأبسط مقومات الحياة والبنى التحتية.

"منذ أكثر من أسبوعين لم اشترِ الماء، اعتمادي على بقايا المياه المالحة المتواجدة في الآبار الشحيحة المتوفرة لدينا، فأنا عاطل عن العمل، فمن أين لي بالمال لسد جوع أطفالي وشراء الماء لمنزلي؟ وكيف أروي أشجاري المزروعة فوق ارض باتت مهددة بالتصحر والجفاف لقلة المياه فيها؟ حتى خزانات جمع المياه التي وزعتها الدول المانحة علينا -على أمل توفير الجزء اليسير من الماء- محرمون منها، فقد دمرها الاحتلال بالكامل، في محاولة منه لتهجيرنا، وللأسف لم نجد من المسؤولين عندنا سوى عبارات الشجب والإدانة التي تتردد على مسامعنا كثيرا  دون أي تغيير يذكر".
هكذا قال الحاج محمد عبد الله بني عوده، وهو يصف المأساة التي حلت بأكثر من خمسة آلاف مواطن يقطنون في قرية الجفتلك شمال محافظة أريحا، والتي يعدها الاحتلال منطقة حدودية، ويمارس فيها عمليات نهب وتدمير للبيئة وسرقة للمياه وتشريد للسكان.

القرية التي تعد نموذجا حيا للمئات من البلدات والقرى الفلسطينية، لم تسلم من ممارسات الاحتلال ضد سكانها، لا سيما وأنها تقع على الحوض المائي الشرقي من فلسطين، وكانت ينابيعها وآبارها الارتوازية لفترة ليست بعيدة، رافدا من روافد آبار نهر الأردن. ما يدفعنا للإشارة والتأكيد على أن عملية النهب للمياه بدأت مع السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية عام 1967، حيث فرض الاحتلال إجراءات مشددة حرمت الفلسطينيين من حقهم المشروع في المياه، لا سيما في الأغوار وتحديدا من موارد نهر الأردن، حيث تم الاستيلاء على معظم الكمية من قبل إسرائيل.

ولم تكتف سلطات الاحتلال بالسيطرة على الحصة الفلسطينية من حوض المياه في الأغوار، بل قامت بالإعلان عن المنطقة المحاذية لنهر الأردن (المنطقة المعروفة باسم الزور) والتلال المطلة عليها منطقة عسكرية يحظر على الفلسطينيين الدخول إليها، مما أدى إلى حرمان جزء كبير من الفلسطينيين من أراضيهم الزراعية الموجودة في تلك المنطقة التي كان يجري ريها من مياه نهر الأردن، كذلك هو الحال بالنسبة للآبار الارتوازية المنتشرة على امتداد غور الأردن البالغ عددها 133 بئرا، حيث تمت السيطرة التامة عليها من قبل الاحتلال وتم تجفيف قسم كبير منها، ليس هذا فحسب، بل يحظر على الفلسطينيين مجرد حفر بئر ماء في الأغوار.
كما عمل الاحتلال الإسرائيلي في بداية عام 1984م على مصادرة معظم مياه الينابيع المتدفقة في أراضي "الجفتلك" و"وادي الفارعة" لصالح المستوطنات القريبة، حيث كانت تلك المياه تجري ابتداء من منطقة وادي الفارعة مرورا بقرية عين شبلي، ومن ثم تجاه قرية "الجفتلك"، عبر ثلاث قنوات مائية، هي "أم حريره الفوقا" و"أم حريره التحتا" و"عين قراوة"، ومن ثم تتابع سيرها تجاه نهر الأردن.
ومنذ ذلك التاريخ، أخذت مياه الينابيع بالاضمحلال تدريجيا، حتى جفت اليوم بالكامل لتصبح معدومة في قرية "الجفتلك"، فالزائر يدهش من منظر القنوات المائية التي باتت جافة وتعلوها القاذورات والأوساخ والأتربة، في حين كان من المفترض ان تكون رافدا من روافد القرية بالماء العذب البارد الذي يحيي الأراضي الزراعية، والتي أخذت بالتهالك حتى باتت الخضرة مهددة بالاختفاء عنها في يوم ما.
في المقابل وعلى التلال المطلة على أراضي "الجفتلك" الشرقية تتوسع مستوطنة "مسواه" التي أقيمت على أنقاض مخيم "أبو العجاج" للاجئين الفلسطينيين، وعلى التلال الشمالية ترقد  مستوطنة "حمرا"، حيث تلتقي المستوطنتين ضمن هدف واحد هو سرقة الموارد المائية في "الجفتلك"، حيث تنساب المياه الجوفية ومياه الينابيع إلى خزانين إسرائيليين  يقعان على سفح جبل بقرب ثكنة عسكرية إسرائيلية، وذلك عبر أنابيب تمر من وسط منازل القرية المذكورة، لكنها ليست لأهالي القرية العطشى، بل تتجه صوب مزارع المستوطنين وسكان مستوطنتي "مسواه" و"الحمرا"، بهدف إنعاش الزراعة هناك وتعزيز رفاهية المستوطنين.
وتبلغ حصة المياه للمستوطن المقيم في الأغوار مقارنة بالمزارع الفلسطيني حسب معطيات مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين، ست حصص مقابل حصة واحدة للفلسطينيين.


ويؤكد أهالي القرية بأنهم يسمعون صوت المياه في الأنابيب المارة من جانب منازلهم، في الوقت الذي ينهضون فيه صباح كل يوم سعيا وراء مصدر جديد لري مزروعاتهم أو لإطفاء ظمأهم، فلا يوجد في الوقت الحاضر أي وسيلة لسد حاجتهم الأساسية من مياه الشرب إلا بشرائها من قرية "فروش بيت دجن" المجاورة بسعر 25شيكل/ كوب بواقع 75شيقل للتنك الواحد حيث يتم إحضارها عبر وسائل بدائية من خلال نقلها عبر جرارات زراعية، وهي عملية مكلفة وترهق كاهل الأهالي.
وبحسب الاتفاقيات الموقعة، تعتبر الأغوار من بينها قرية الجفتلك، ضمن مناطق (جـ)   الخاضعة بشكل كامل لسيطرة الاحتلال العسكرية والإدارية. وبسبب تنكر إسرائيل لمعظم الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، فان قضية الحدود والأغوار لن تبحث إلا في اتفاقيات الحل الدائم التي لا بوادر لوجودها في القريب العاجل، ما يعطي الضوء الأخضر للاحتلال لممارسة سياسة التدمير والتخريب وسرقة المياه في "الجفتلك" خاصةً، وفي مختلف أنحاء الأغوار عامة.
في حين لا تمتلك المنظمات الإنسانية أو حتى السلطة الفلسطينية سوى توزيع تنكات لجمع الماء -الأمر الذي يرهق كاهل المزارعين في عملية شراء الماء وتخزينها- وذلك  كحل تخديري في وضع يصعب حله في ظل سيطرة الاحتلال المطلقة على المنطقة.
يشار إلى انه يوجد في أراضي قرية الجفتلك البالغ مساحتها 32 ألف دونم 35 بئرا ارتوازيا بحاجة إلى صيانة وترميم، حيث لا تملك سلطة المياه الفلسطينية أي سيطرة عليها، تتوزع هذه الآبار في جميع أنحاء أراضي الجفتلك التي كانت في الماضي تضخ بقوة 140 كوب/ ساعة بمعدل يتراوح 4.8 مليون م3 سنويا، أما اليوم فلقد تم تجفيف معظمها عن طريق حفر آبار لتجميع المياه على عمق يزيد عن عمق الآبار الارتوازية في الجفتلك ومجاورة لها تماما، وذلك من خلال شركة "ميكروت" الإسرائيلية التي تحتكر لنفسها حق التنقيب عن المياه في منطقة الأغوار، وبالتالي لم يبق في قرية الجفتلك من مجموع الآبار الارتوازية سوى 12 بئراً ارتوازياً ذا مياه شحيحة مالحة تضخ من آبار قديمة بحاجة إلى صيانة، حيث تضخ بقوة 30 كوباً/ ساعة، علما بأن هذه المياه المالحة لا تصلح على أي حال من الأحوال للاستهلاك الآدمي أو حتى لأنواع كثيرة من الزراعات في الجفتلك.


قلة المياه في قرية الجفتلك كان لها بالغ الأثر سواء على حياة المواطنين في القرية أو على قطاع الزراعة والثروة الحيوانية فيها، والتي تعتبر المصدر الرئيس لدخل معظم سكان  الجفتلك. هذا التأثير دفع كثيراً من العائلات البدوية للرحيل ضمن هجرة عكسية من الجفتلك خصوصا إذا ما علمنا انه بالإضافة إلى السكان المحليين كان يوجد ما يزيد عن 2000 مواطن من العائلات البدوية كانت في الماضي تقصد المنطقة لوفرة المياه والأراضي الزراعية، أما الآن فتشهد هجرة متسارعة بسبب الظروف القاسية وانعدام المياه والخدمات الأساسية فيها.   إضافة إلى الأعباء المالية التي يتحملها المواطن العادي في قرية الجفتلك نتيجة ارتفاع تكاليف شراء الماء، فان تكلفة الزراعة أصبحت مرتفعة نتيجة ارتفاع أسعار المواد الزراعية من جانب وعدم توفر المياه التي تتحكم بها الشركة الإسرائيلية من جانب آخر، هذا بدوره أدى إلى تقليص المساحات الزراعية الفلسطينية التي لا تتجاوز اليوم 15 ألف دونم من مجمل أراضي الجفتلك وهي مرشحة بالنقصان نتيجة للجفاف وقلة المياه، إضافة إلى رفع كلفة الإنتاج والمغامرة من قبل المزارع فهو لا يضمن إن يبيع محصوله بالسعر الذي يعوّض ما دفعه في الزراعة.
كما أن الإسرائيليين يعمدون إلى إغلاق المنطقة فترة الحصاد والتسويق، حيث يتم إغلاق الحواجز والسماح للتجار الإسرائيليين بالدخول فقط وبالتالي يتحكم التاجر الإسرائيلي بالسعر الذي يريد دفعه وما يتبقى من المزروعات والمحاصيل يتم تسويقها إلى باقي محافظات الضفة، والمزارع الإسرائيلي الذي يتوفر له كل شيء، ينافس المزارع الفلسطيني في جودة المحاصيل وفي الأسعار .
 
 أهم المحاصيل التي كانت تزرع قديماً بقرية الجفتلك هي الخضروات باختلاف أنواعها إضافة إلى الموز والحمضيات، حيث ان هذه المزروعات تكاد تنعدم في قرية الجفتلك بسبب ملوحة المياه الشحيحة المتبقية في القرية، وبسبب عدم قدرة المزارعين على شراء الماء لري مزروعاتهم، ولكن مع مرور الوقت بدأ المزارعون باللجوء إلى زراعة النخيل فهي أكثر أماناً واقل تكلفة وتحتاج إلى كمية مياه اقل كما تتحمل الظروف الحارة في الغور الفلسطيني. إضافة إلى أن التمور يمكن تسويقها في السوق المحلي والخارجي، على عكس الخضروات التي تسوق فقط محلياً.

 

التعليقات
الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 
مجلة افاق البيئة و التنمية
دعوة للمساهمة في مجلة آفاق البيئة والتنمية

يتوجه مركز العمل التنموي / معاً إلى جميع المهتمين بقضايا البيئة والتنمية، أفرادا ومؤسسات، أطفالا وأندية بيئية، للمساهمة في الكتابة لهذه المجلة، حول ملف العدد القادم (العولمة...التدهور البيئي...والتغير المناخي.) أو في الزوايا الثابتة (منبر البيئة والتنمية، أخبار البيئة والتنمية، أريد حلا، الراصد البيئي، أصدقاء البيئة، إصدارات بيئية – تنموية، قراءة في كتاب، مبادرات بيئية، تراثيات بيئية، سp,ياحة بيئية وأثرية، البيئة والتنمية في صور، ورسائل القراء).  ترسل المواد إلى العنوان المذكور أسفل هذه الصفحة.  الحد الزمني الأقصى لإرسال المادة 22 نيسان 2010..
 

  نلفت انتباه قرائنا الأعزاء إلى أنه بإمكان أي كان إعادة نشر أي نص ورد في هذه المجلة، أو الاستشهاد بأي جزء من المجلة أو نسخه أو إرساله لآخرين، شريطة الالتزام بذكر المصدر .

 

توصيــة
هذا الموقع صديق للبيئة ويشجع تقليص إنتاج النفايات، لذا يرجى التفكير قبل طباعة أي من مواد هذه المجلة
 
 

 

 
 
الصفحة الرئيسية | ارشيف المجلة | افاق البيئة والتنمية