هزيمة 1967
خاص بآفاق البيئة والتنمية
تجمع" آفاق" شهادات للمناسبة السنوية الثامنة والأربعين للنكسة، تصف رائحة الهزيمة ووقتها، ولا تغفل عن التقاط بعض الجوانب البيئية، التي كانت في تلك الفترة.
تقول نوال خضيري( 70 عاماً)، وهي أول ممرضة في طوباس: أبعدتنا النكسة إلى الكويت، بعد أشهر قليلة من زواجي من وجيه عبد الرازق، في لحظة تستعصي على الرحيل من ذاكرتي، حين تركت عجيني وطنجرة البيض المسلوق على الموقد، وهربت نحو الأردن، في مشهد مؤلم، فكان الناس مثل الجراد الهارب، بحثاً عن مكان لاجتياز نهر الأردن، فيما أغارت الطائرات الإسرائيلية وقتل ابن عمتها هشام خضيري، وأصابت شقيقته فقطعت أصابع يدها وبترت ساقها.
مقارنات
تضيف: كانت أعداد المواليد مطلع الستينات بين 15- 20 في الأسرة الواحدة، وبدأنا نعمل على تثقيف الأمهات بمخاطر الحمل المتكرر، وعدم تنظيم الأسرة، ولم تواجهنا معارضة كبيرة، واليوم قل العدد بين 5-7 أطفال. ونشطنا في ترتيب زيارات منزلية لتحسين أحوال الأمومة والطفولة، وبدأنا نعقد محاضرات عامة، ونوعي القابلات الشعبيات( الدايات).
وفق خضيري، أو أم سائد كما يعرفها أبناء المدينة، فقد أنقذت أمهات عدة من الموت أثناء الولادة، ولا تنسى حالة طفل صار طبيباً لاحقاً، كاد وزنه الكبير، أن يقتله هو ووالدته، ولا زال يعاملها مثل أمه، ويُسرع إذا صادفها في أي مكان ليقبل يدها.
تزيد: تغيرت أحوال طوباس وكل المدن الصحية، مثلما اختلفت عاداتها الاجتماعية، وعلاقات الناس بعضهم ببعض، فاتسعت بيوتهم وضاقت صدورهم، وصار الناس لا يتزاورون إلا بموعد سابق عبر الهاتف. كما زادت المدارس، والطرقات، وتبدلت أحوال الزراعة وطرق إنتاجها.
تنهي خضيري، الأم لثلاثة أولاد ومثلهم من البنات و12 حفيداً، بنصائح للأمهات مذيلة بمصطلحات طبية بالإنجليزية، تتصل بإتباع نظام غذائي وعادات صحية سليمة خلال الحمل وبعده، والأهم السيطرة على أوزانهن.
المربية دلال وذكريات النكسة
"توجيهي"
فيما ترسم المربية دلال صوافطة، مقاطع من سيرة مربية خرجت 34 جيلاً، ودرست خلالها الأمهات وبناتهن. تقول: أنهيت دراستي الابتدائية في طوباس، وانتقلت مع رفيقاتي نوال مبسلط، وإلهام عبد الرازق، وخالدية مبسلط، ونوال خضيري، لنابلس، وتقدمت للثانوية العامة (التوجيهي) عام 1967، ولا أنسى كيف حضر الشبان يوم سقوط الضفة الغربية وغزة بيد الاحتلال إلى قاعات الامتحان في كلية الروضة، ووفروا لنا وسيلة للعودة إلى بيوتنا، وحرمنا من تأدية أخر امتحانين (التاريخ العام والفلسفة للفرع الأدبي)، و( الرياضيات والفيزياء للعلمي)، وبعد وصولنا لطوباس، هربت وعائلتي إلى الأردن، وحرصت على الاحتفاظ بقلمي (الباركر) الفاخر، ورقم جلوسي، وظهرت نتائج الامتحان ونحن في أربد، وحرمتنا النكسة من الفرح، فقد كان الأهل عادة يعللون 3 أيام للناجحين، وكانت المعدلات متدنية.
وفق الراوية، الأم لخمسة أولاد وبنت، كانت طوباس بمدرسة واحدة، ذات سبع غرف، ولم يتجاوز عدد الطالبات المائتين، والمعلمتين العشرين، لكن هذا العدد تضاعف كثيراً هذه الأيام. وبعد بضعة أشهر من النكسة، عادت إلى طوباس، وحصلت على تعيين في وزارة التربية والتعليم، بشهادة "التوجيهي"، فيما حالت هزيمة حزيران دون مواصلتها الدراسة التي كانت تخطط لها في معهد المعلمات برام الله. ولاحقاً، أجرت وزارة التربية دورات تأهيل خلال عطلتين صيفيتين، ويوم في الأسبوع في العام الثالث.
غصيبة تروي تجربتها مع نكسة 1967
كومة قش!
وتستذكر الثمانينية غصيبة عطية أبو إسعيد، مشاهد حافلة الجرار الزراعي التي أحضرها شقيقها ناجي، ونقل فيها نحو 60 فرداً من عائلته الممتدة. تقول: نزحنا من البلد، ووصلنا بيارات أبو هاشم على الشريعة( نهر الأردن)، ونمنا فيها ليلة، وكل واحد لبس شجرة(اختفى وراء جذعها)، وكنا نضع الأطفال في أحضاننا، حين نسمع أصوات الطائرات والقنابل. وشاهدنا شيخة صوافطة(أم زيدان) وهي ميتة في حلة(كومة) قش، خوفاً من الطائرات التي قصفتها.
ووفق الراوية، فقد حملت العائلة النازحة معها الطحين، وبعض الأغطية والملابس، وسارعت في الوصول إلى الضفة الشرقية للنهر، خوفاً من اليهود، وأقامت أربع ليال في الغور الأردني، وتابعت مسيرها إلى جبل الجوفة، للإقامة عند قريبها. ولا تنسى مشاهد الدبابات الأردنية المعطوبة، والجثث المنتشرة على جانبي الطريق.
قطعت أبو إسعيد، الشريعة، عبر قوارب من الصفيح صنعها الرجال، وسحبوا النساء والأطفال، خشية الغرق في نهر الأردن، في مشهد تكرر مع العشرات.
رعب
تسترد شفاء سلامة سياجات، التي كانت في عامها التاسع، تفاصيل الرعب والخوف، حين انتشرت أخبار وصول الجيش الإسرائيلي لمحيط طوباس: بتنا تحت الأشجار والكهوف في منطقة الثُغرة، وسمعنا أصوات الطائرات وقنابلها، وشاهدت أبي يعطي الملابس للجنود المحاربين، ليساعدهم في الاختفاء. وسمعت خالتي عزيزة، وهي تقول أنها نسيت ابنتها الرضيعة فايزة من شدة الهلع( تغير اسمها لاحقا لهاجر)، ووضعتها في مغارة، لتعود شقيقتها لإرجاعها.
توالي: وصلنا عمان بعد خمسة أيام من الخوف، وكانت معظم الناس حافية، وأمضينا شهراً في مخيم (زيزيا)، وقبلها في مدرسة الحسين، وعدنا بعد شهر، عن طريق الصليب الأحمر. وكنا نسمع الأخبار من الرجال الذين يتنقلون بالتهريب بين ضفتي النهر. وأقسى ما سمعته من قصص، أن سيدة ماتت من العطش وهي تفر في الأغوار؛ لشدة حرّه.
نوال أول ممرضة في طوباس
مر مُتجدد
وتبوح مي مبسلط بحكاية العلقم، فقد أنهت صفها الأول الابتدائي، لتفر وقت الظهيرة مع العائلة في حافلة كبيرة، حتى وصلت إلى عمان، وتشاهد في الطريق بعض الجثث، والحرائق، والحافلات، والجرارات الزراعية، وكادت حافلتهم تنقلب وهي في الطريق. وشاهدت الناس تجتمع في الساحات العامة، ومعظمهم حفاة ( دون أحذية)، والأطفال يبكون.
وتنقلت المربية والناشطة النسوية ليلى سعيد (11 عاما وقت النكسة) بين فصول الربع والهلع وإصرار عائلتها على البقاء، وعدم تكرار تجربة النكبة القاسية. وتقول: بحكم انخراط أخي عبد الرؤوف في صفوف حركة فتح (استشهد عام 1968) ووجود أبناء خالتي في الجيش الأردني، وكوننا عائلة لاجئة، كنا نتابع الأخبار، ونجلس في ساحة المنزل، ونستمع عبر المذياع إلى خطابات الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
توالي: مما لا أنساه من تعليقات أن الجنود المصريين كانوا في حفل للمطربة أم كلثوم، في الليلة التي سبقت الهزيمة، وبعدها انتقلنا من منزلنا في المخيم إلى سهول قريبة، واحتمينا بأشجار البرتقال والكهوف المنتشرة، وأقمنا ثلاث ليال، وكنا نسمع أصوات الطائرات والتفجيرات، ونقطف ثمار الفقوس من المزارع المجاورة، وفي الليلة الرابعة جاء أخي وأبناء خالتي، واخبرونا بأن البلاد سقطت، وتخلوا عن لباسهم العسكري، بطلب من أبي؛ حتى لا يُفتضح أمرهم.
موت
وتناولت دلال علي دراغمة( 20 سنة وقت النكسة) حكاية رحيل عائلتها، حين أحضر عمها سيارة شحن كبيرة. تسترد: هربنا إلى الأردن، دون أن نأخذ إلا القليل من الملابس والطعام، ولدرجة أن زوجة أخي نسيت طفلتها إخلاص في الشارع، قبل أن تعود لإحضارها. أما أبي فرفض الخروج، وقال: سأموت في أرضي.
تتابع: تنقلنا بالحافلة، ورأيت دبابات محترقة، وجثثا، وأناسا يفرون، وخاصة في منطقة( ميحان السمن) في الأغوار، ومما لا أنساه، كيف خيّر سائق السيارة الذي نقلنا إلى عمان سيدة كانت تحمل طفلها، أن تصعد هي أو رضيعها فقط؛ حتى تتسع المركبة، فرفضت، وقالت: إما أن نعيش معًا، أو نموت معًا.
aabdkh@yahoo.com