ازداد النقاش في الآونة الأخيرة، حول المبادرات الخاصة بإنشاء مبانٍ فلسطينية خضراء نموذجية. وفي خضم هذا النقاش، لم يتم، حتى الآن، العمل بشكل جدي لبلورة معايير فلسطينية أولية للعمارة الخضراء.
والمقصود هنا معايير شاملة للعمارة الخضراء تنسجم مع المواصفات العالمية وتتلائم مع المناخ الفلسطيني المميز، ومع طرق البناء المحلية. ولا بد أن يساهم خبراء بيئيون ينتمون إلى مؤسسات ومنظمات وهيئات رسمية وأهلية معنية، في وضع هذه المواصفات، مثل مؤسسة المواصفات والمقاييس الفلسطينية وسلطة جودة البيئة ووزارة الصحة ونقابة المهندسين والجامعات والمؤسسات الأهلية الفاعلة في الحقل البيئي وقطاع الأعمال والمهن ذات الصلة، والعاملين في التخطيط والتنفيذ بالمجالات المختلفة.
غالبا ما يتم الخلط بين سمات المبنى الأخضر وغير الأخضر. ويعود سبب صعوبة التمييز بين المبنى الأخضر وغير الأخضر إلى أن التعليمات والمواصفات الخاصة بالبناء الأخضر، تتضمن تنوعا كبيرا في المجالات المرتبطة بعملية البناء. وهناك بعض المبادئ الأساسية الموجِهة لعملية البناء الأخضر، نوجزها بما يلي:
أولا: تقليل التأثيرات السلبية على البيئة
وهذا يعني بشكل أساسي تخفيض استهلاك الموارد وتقليل التأثيرات السلبية للبناء واستخدامه على البيئة. ويمكننا تطبيق هذا المبدأ بطرق عديدة منها: اختيار الأرض التي قيمتها البيئية متدنية، التوفير في المساحات المفتوحة من خلال الاستغلال الأقصى للفضاء الداخلي، تقليل استهلاك الطاقة للتدفئة والتبريد من خلال عملية عزل المبنى وتصميمه بما يتناسب مع الظروف المناخية الخاصة بالموقع.
يضاف إلى ذلك، تشييد المبنى من مواد تم تدويرها أو قابلة للتحلل أو أن إنتاجها تسبب بحد أدنى من الضرر للبيئة، واستخدام تقنيات لتوفير المياه وطرقٍ لفصل النفايات وغير ذلك.
ثانيا: حياة صحية أكثر
ويتلخص هذا المبدأ في أن عملية البناء لا بد أن تتم بحيث تحسن صحة مستخدمي المبنى ورفاهيتهم وجودة حياتهم. ويمكن تطبيق هذا المبدأ من خلال الآتي: التشديد على جودة عالية لفضاءات المبنى من خلال اختيار مواد بناء لا تحوي سموما، تخطيط المبنى والفتحات بحيث تتوفر التهوية الطبيعية والتبادل الجيد للهواء، واستغلال الحد الأقصى للإنارة الطبيعية. يضاف إلى ذلك، خلق مناخ محلي مصغر ومريح في منطقة المبنى، من خلال الاستفادة من النباتات.
ثالثا: تغيير أنماط السلوك
ويتضمن هذا المبدأ اعتبارات البناء التي تهدف إلى تغيير عادات مستخدمي المبنى؛ بحيث تقل تأثيراتهم السلبية على البيئة و/أو في المقابل تتحسن صحتهم. ومن أمثلة تطبيق هذا المبدأ: تجهيز مواقع خاصة لوضع الدراجات في المباني المكتبية لتشجيع الموظفين على الذهاب إلى العمل بدراجاتهم. ويستلزم هذا الأمر تشييد طرق صغيرة خاصة بالدراجات لتشجيع استعمال الدراجات بدلا من السيارات. يضاف إلى ذلك تخطيط الفضاء الداخلي للمبنى بحيث يسهل على قاطنيه فصل النفايات المنزلية بهدف تدويرها، أو تخطيط المواصلات على مستوى الحي بحيث يشجع استعمال المواصلات العمومية.
رابعا: التأثير الإيجابي على البيئة
ويشمل المبدأ الرابع حماية البيئة وتعظيم الموارد الطبيعية. ويمكن تطبيق هذا المبدأ من خلال استخدام تقنيات إنتاج الطاقة المتجددة ومن خلال تقليل الحاجة لإنتاج الطاقة من مصادر ملوثة وغير متجددة، أو زراعة نباتات محلية بحيث يساهم ذلك في زيادة التنوع في الأنواع النباتية المحلية في إطار الحيز المبني.
إذن، قائمة المطالب للحصول على بناء أخضر طويلة. وفي حال طبقت على جميع المباني؛ فسيكون حتما وضع العالم أفضل بكثير مما هو عليه اليوم. إلا أن الواقع الحالي مختلف؛ فالقليل من المباني ينطبق عليها شروط البناء الأخضر. وتعود أسباب ذلك إلى تدني وعي المخططين وسائر أصحاب المهن المرتبطة بالعمارة وشح معرفتهم؛ فضلا عن التكلفة الإضافية الناتجة عن تطبيق التقنيات الجديدة التي ترفع تكلفة البناء.
وكما أسلفنا؛ لا تحدد طريقة تشييد المبنى وحدها فقط فيما إذا كان المبنى أخضراً أم لا؛ بل يتعلق الأمر أيضا بتخطيط الحيز المحيط بالمبنى؛ وكلاهما معا يشكلان جزءا من فلسفة نمط الحياة المستدام. فالبناء الأخضر عبارة عن "حزمة متكاملة" يحافظ بموجبها الناس القاطنون في الحيز المبني بناءً أخضر، على البيئة. وفي المقابل، يتمتع الأخيرون بنفقات إجمالية متدنية، وارتفاع في إنتاجية وخصوبة العمل، وحياة صحية أكثر.
وبحسب التقديرات، فإن التوفير الإقتصادي المتوقع للأسرة الفلسطينية القاطنة في شقة متوسطة مكونة من أربع غرف، مبنية حسب مواصفة العمارة الخضراء، قد يصل إلى آلاف الدولارات سنويا؛ بحيث يمكننا القول أن المبنى الأخضر عبارة عن مبنى من المجدي السكن به صحيا وبيئيا واقتصاديا واجتماعيا، باعتباره مبنى أكثر جودة وأكثر توفيرا في استهلاك الموارد والطاقة.
ويدور هنا الحديث عن أحد المجالات ذي الأثر البيئي الأقوى؛ إذ أن المباني تستهلك نحو 60% من الطاقة المستهلكة محليا، وهي تنتج نحو ثلث غازات الدفيئة، كما أنها السبب في الاستنزاف المتواصل للموارد الطبيعية وفي مقدمتها الرمال.
وفي حياتنا المعاصرة، يمضي الفرد نحو 90% من وقته بين أربعة جدران. لذا، يوجد لمسائل الانقطاع عن الهواء والضوء الطبيعيين ولتسرب المواد اللاصقة والكيماويات السامة إلى الفضاء الداخلي المغلق، تأثير مباشر على الصحة.
ويجب على مفهوم العمارة الخضراء أن يهشم بعض الأساطير التي لا تزال تعشعش، للأسف، في أذهان بعض المسؤولين، من قبيل أن المبنى الأخضر يعني العودة إلى حياة الكهوف، أو أنه ترف معيشي لا يتحمله سوى الأغنياء.