-1-
المرأة والطبيعة كبش فداء
العلاقة بين المرأة والطبيعة:
بسبب الخطر الذي أصبح يهدد البيئة بالتلوث وازدياد الاهتمام بحماية البيئة والطبيعة خاصة من جانب النساء برز السؤال: هل هناك ترابط بين المرأة والطبيعة؟ هل تحرير المرأة يعتمد على تحرير الطبيعة؟ أم تحرير الطبيعة يعتمد على تحرير المرأة؟
إن الفكرة الأساسية وراء حركات تحرير المرأة هي أن العبودية الأولى في التاريخ البشري كانت عبودية المرأة وسيطرة الرجل عليها. وقد أدت هذه السيطرة في العلاقات البشرية إلى فكرة السيطرة على الطبيعة.
إن استعباد الطبيعة واستغلالها بواسطة النظام العبودي (الذي يسمى الآن النظام الطبقي الأبوي) مرتبط باستعباد المرأة واستغلالها. ولذلك فإن تحرير النساء يرتبط أيضاً بتحرير الطبيعة.
ولهذا كان طبيعيا أن يكون أغلب المشاركين في أحزاب الخضر وحماية الطبيعة من النساء غربا وشرقا.
لكن الفكرة القديمة التي تبنتها بعض القيادات النسائية في الغرب (ومنهم سيمون دوبوفوار) كانت تقول إن تحرير المرأة يقتضي الفصل بين المرأة والطبيعة. كان ذلك نوعا من رد الفعل إزاء فكرة العبودية التي تعتبر الرجل رمز العقل والحضارة والفلسفة والتاريخ، أما المرأة فهي رمز الجسد والأرض والطبيعة.
لكن التطور الفكري خلال القرن الأخير أدى إلى محاولة إلغاء هذا الفصل التعسفي بين الجسد والعقل وبين المرأة والرجل، وساهمت النساء من خلال حركات الخضروالحركات النسائية في إعادة العلاقة الوثيقة الحميمة بين الطبيعة والإنسان (امرأة ورجل)، وفي رفع الوعي الإنساني بأننا جميعا نساء ورجال جزء من طبيعة أكبر.
العلاقة بين التاريخ والطبيعة:
في بداية الستينات قاومت الحركة النسائية الربط بين خضوع المرأة للرجل وخضوع الطبيعة للإنسان. كان هناك الخوف الموروث القديم من طرد المرأة من التاريخ، باعتبارها مركز الطبيعة. وكانت الأفكار الإشتراكية المنتشرة حينئذ تجعل التاريخ مناقضا للطبيعة، إن الإنسان من أجل أن يصنع تاريخه لا بد أن يكون كائناً حراً مستقلاً عن الطبيعة ومسيطراً عليها. وقد قامت النهضة الصناعية على السيطرة على الطبيعة واستغلالها دون وعي بالأضرار الناتجة عن ذلك.
لكن اليوم، وبعد إدراك مخاطر تلوث البيئة، فقد بدأت المحاولات لإعادة فهم العلاقة بين التاريخ والطبيعة، أو العلاقة بين التاريخ البشري والتاريخ الطبيعي، فوق كوكبنا الأرض، دون الإقلال من حرية الإنسان ودون الإضرار بالطبيعة. وهذا هو المحور الفكري الجديد الذي تقوم عليه حركات الخضر والحركات النسائية المهتمة بالبيئة وتسمى اليوم الحركات النسائية الإيكولوجية.
إن الفرق الأساسي بين الحركات النسائية الأيكولوجية الجديدة وما سبقها من حركات نسائية هو تبني هذه الفكرة الجديدة القائمة على إعادة دراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لمعرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى السيطرة على المرأة والطبيعة في آن واحد.
مفهوم الطبيعة:
إن مفهوم "الطبيعة" اليوم قد تغير أيضاً. لم تعد شيئاً ثابتاً حتمياً تتحكم فيه البيولوجيا أو ما عرف باسم الطبيعة البيولوجية للمرأة أو الرجل مثلا. لم تعد الطبيعة هي المطلق الثابت ولكنها ذلك الترابط بين جميع الكائنات الحية من أرض وهواء وإنسان وحيوان ونبات، وبين عقل الإنسان القادر على تطوير الطبيعة وإثرائها وليس تحطيمها وتلويثها. إن الفكر النسائي الإيكولوجي الجديد فكر نقدي تحليلي تاريخي يفكك العلاقات القديمة "منذ العبودية والإقطاع والرأسمالية والاشتراكية" ثم يعيد ربطها على نحو أكثر إنسانية وعدالة في التعامل مع المرأة والطبيعة سواء بسواء.
ومعنى هذا أنها ثورة فكرية مختلفة تعتمد على أن نجاح الرجل في الحياة لا يعني سيطرته على الطبيعة أو على المرأة أو على أي إنسان آخر. أصبح نجاح الإنسان في الحياة هو إدراك العوامل التي تؤلف بين الإنسان والطبيعة، وبين الرجل والمرأة، وبين جميع الكائنات الحية الأخرى التي تشاركنا الحياة فوق كوكبنا هذا. بعبارة أخرى العودة إلى الفكرة الإنسانية الأولى القائلة باحترام الحياة الكلية واعتبارها شيئا مقدسا.
لقد أدى النظام العبودي (الطبقي الأبوي) منذ نشوئه إلى تقديس حياة الأسياد الرجال الملاك فحسب وإهدار ما عدا ذلك من كائنات أخرى بشرية أو في الطبيعة..
من يقتل الأشجار والأطفال؟
وقد لعبت النساء في الغرب والشرق دوراً فكريا بارزا في هذا المجال، وظهرت كتب جديدة منها كتابات "سوزان جريفين" (المرأة والطبيعة) (1978)، وكتاب كاولين ميرشانت عن الثورة العلمية بعنوان "موت الطبيعة" (1980). كما لعبت الحركات النسائية دورا بارزا في مقاومة الحرب النووية، وتلوث البيئة، ومشكلات التكنولوجيا، ومخلفات الصناعة وعلى رأسها المخلفات النووية، وكشفن عن المؤامرات الاستعمارية لإرسالها إلى بلاد العالم الثالث.
وظهرت مجموعات نسائية إيكولوجية خلال العشر سنوات الماضية منها مجموعة فري (Free) 1979، ومجموعة نساء في الطاقة الشمسية (WISE) أو (women In Solar Energy) (1970)، ومجموعة (Ecology Feminist Resources On Energy and) وغيرها.
وعقدت مؤتمرات لهذا الغرض كان أولها عام 1980 في أمهرست بالولايات المتحدة، ولعبت النساء دورا في مقاومة سباق التسلح في عهد ريجان وبوش، وربطن بين عنف التسلح والحرب والعنف الواقع على النساء والطبيعة. وبرزت مجموعات نسائية تسمي نفسها "النساء ضد العنف والحرب" ومجموعة نساء: "الحياة على الأرض"، التي نشأت في انجلترا من نساء "جرنيهام كومان" اللائي حاربن القواعد الحربية الأمريكية، وكذلك في الهند واليابان، ومجموعات "النساء والسلام".
أهم ما يميز هذه الحركات النسائية أنها تربط بين مشكلات البيئة ومشكلات النظام الرأسمالي الصناعي الذي قهر النساء بمثل ما قهر البيئة بمثل ما قهر الفقراء خاصة هؤلاء الذي يعيشون في العالم الثالث.
إن الاهتمام بحياة الأشجار في بلادهم لا تنفصل عن الاهتمام بحياة الملايين الجائعة من البشر في بلاد أخرى. وذلك لأن الذي يسبب موت الأشجار هو نفسه الذي يسبب موت الأطفال جوعا، وموت النساء قهرا. ولهذا تتجه الحركات النسائية إلى الاستعمار الجديد والقديم بجميع أشكالهما الواضحة والخفية.
حركة "عناق الأشجار في الهند":
في الهند قامت النساء الفقيرات بحركة اسمها (Chipko) وتعني بالهندية "العناق". بدأت هذه الحركة عام 1980 بواسطة نساء هيملايا ضد القوى المحلية والاستعمارية التي تقطع الأشجار من أجل الاستغلال بواسطة الشركات الصناعية. والعناق هو أن تعانق المرأة الشجرة فلا يمكن لعربة البولدوزر أن تقتلع الشجرة إلا والمرأة معها. في هذه الحركة ضحت بعض النساء بحياتهن من أجل [ مقاومة] الاستغلال بواسطة الشركات الصناعية. [و] في هذه الحركة ضحت بعض النساء بحياتهن من أجل إنقاذ الغابات وإصلاح الأرض ومقاومة الاستغلال، وقد اتسعت هذه الحركة اليوم في الهند وانضم إليها الرجال، وتقوم فلسفتها على غرار فلسفة غاندي "المقاومة بدون عنف".
عدم التضحية بالطبيعة والأم:
منذ نشوء العبودية قامت فكرة سمو الذكر على الأنثى. على التضحية بالأم من أجل أن يكتسب ابنها الرجولة أو الدور الاجتماعي والثقافي والسياسي للذكر.
لكن الأمومة قسمان: الولادة وهي عمل من أعمال الطبيعة، ورعاية الطفل وهي عمل من أعمال المجتمع والقيم الثقافية السائدة. إن الفصل بين البيولوجي والطبيعي لا يمكن أن يحدث إلا نظريا فقط.
وقد بدأ أخيرا الانتباه لمخاطر تلوث البيئة، واكتشاف مساوئ الحضارة الصناعية الحديثة التي قامت على استعباد الطبيعة والمرأة معا.
إن تربية الطفل هي العملية التي تربط في حياة الأم بين ما هو طبيعي وما هو اجتماعي. ومن أجل أن يصبح الولد رجلا ناضجا فإنه يضحي بأمه ويفصل نفسه عنها ليصبح شبه أبيه، وينسى تماما أنها هي التي ولدته. ينسى الذكر تماما أن أمه هي الأصل، ويتصور أن "الأب" هو الأصل. وأنه جاء من رأس الإله زيوس أو من آدم، وأن أمه ليست إلا ضلعا من أضلاع أبيه. وهكذا تم إنكار المرأة وإنكار الطبيعة لها.
وهذا يذكرنا بمأساة بوليس دراميا المعروفة إذ تخلى الابن عن أمه ليصبح رجلا ناضجا محترما.
من أجل هذه الحضارة غير الإنسانية التي نعيشها والتي أدت إلى تلوث الطبيعة وتلوث الحياة الإنسانية بالقهر والظلم وتفوق القوة والعنف على الحق والفضيلة، من أجل هذا أصبحت المرأة والطبيعة كبش الفداء، من أجل هذا وضعت المرأة على ذلك الخط في نظر المجتمع الطبقي الأبوي السائد الفاصل بين الاجتماعي والطبيعي. أو الخط الفاصل بين العقل والجسد. في مراحل الردة والتأخر يدفعها المجتمع إلى أن تكون مجرد الجسد، تغطى أو تعرى حسب الظروف وتحت شعارات تجارية أو أخلاقية..
وفي مراحل التقدم والازدهار يدفعها المجتمع إلى أن تكون إنسانة لها عقل وجسم مثلها مثل الرجل.
ولهذا السبب تلعب الحركات النسائية دوراً فكريا بارزا لإلغاء ذلك الفصل التعسفي بين العقل والجسد وإعادة التحام الطبيعي والاجتماعي معا، وإلغاء الفلسفة العبودية المورثة التي تجعل الإنسان عدوا للطبيعة، وتجعل من الرجل عدوا للمرأة لا يحبها إلا إذا كانت خاضعة منكسرة مغمضة العينين مثل حيوان أليف.
( توأم السلطة والجنس، ص ص 106- 112 )
-2-
( لا شيء يفنى )
وهي في المستشفى (بعد أن تبين لها وجود ورم في الثدي ) شعرت بشيء يلتف حول عنقها، كانما يخنق أنفاسها، فهبت من رقدتها وجرت إلى النافذة وفتحتها.. وملأت صدرها من هواء الشارع.. وأعاد لها الهواء الرطب المنعش بعض الحيوية والتفاؤل..
اختطفت معطفها من فوق سرير الفحص.. وغادرت المستشفى بسرعة.. ومضت في الشارع تلتصق بالناس السائرين تلتمس في دفئهم وحماستهم الرغبة في الحياة.
شعرت بشيء من الراحة إثر ذلك المجهود الكبير.. وسارت على مهل تتأمل الشجر والماء.. وتملأ صدرها بالهواء الرطب العليل.. ولمحت زهرة بيضاء جميلة على جانب الطريق.. فوقفت أمامها تتأملها. ولمست أصابعها نسيجها المخملي الناعم فشعرت بنشوة غريبة.. وقربت أنفها تشم عطرها الزكي فأحست بسعادة تغمر قلبها وروحها، وتلفتت حولها مفتونة.. وأسكرتها زرقة السماء العميقة منعكسة على سطح الماء الوادع فجلست على شاطىء البحر، وخلعت حذاءها ومددت جسدها على العشب المبلل الرطب.
وتراءى لها وسط الزرقة الفاتنة وجه طويل نحيل.. وملامح هادئة باسمة.. وعينان زرقاوان عميقتان.. وأخذت تتأمل الوجه كما كانت تتأمله.. وامتدت يدها بلا وعي إلى جيبها وأخرجت ورقة صغيرة وراحت تتأمل كلماته إليها .. [وتساءلت] كيف تبقى هذه الورقة الصغيرة الرقيقة بينما هي تموت؟ هذه الورقة الصغيرة تخلد في الحياة بنما هي تزول؟ ونظرت حولها في دهشة وحيرة..
ولكن هذه الورقة يمكن أن تزول.. يمكن أن تذيبها مياه البحر أو تلتهمها نار المدفأة..
ولكنها لا تزول.. إنها تتحول إلى رماد.. إلى مادة أخرى فحسب.. وهي ؟ أهي تزول حقا حين تموت؟ لا.. إنها كالورقة.. يتحول جسدها إلى رماد، إلى مادة أخرى فحسب. كل شيء يبقى دائما.. وتقلبت على العشب الناعم الرطب.. وشعرت بضعط الورم تحت صدرها.. ولكنها ابتسمت في هدوء وقد تضاءلت أمامها فكرة الموت السخيفة..
( لحظة صدق، ص ص 80- 82 )
-3-
(عودة إلى الأرض)
هبطت بي العربة السريعة في الطريق الزراعي المترب، واختفت العمارات العالية والمداخن السوداء، وظهرت بشائر الريف، ورأيت حقول الذرة تقترب من جانبي الطريق، بعضها أخضر وبعضها أصفر، يتخللها النخيل الطويل الهزيل.. وسحبت زجاج النافذة إلى أسفل لأشم رائحة الريف بما فيها من تراب وزرع وماء. تلك الرئحة العجيبة التي أعشقها...
وطلبت من السائق أن يتمهل، وجذبت أنفاسا طويلة فامتلأ صدري بهذه الرائحة الحبيبة، واتتشيت وذابت بعض الوحشة التي أحسستها وأنا أفارق القاهرة.. وشعرت كانني أعود إلى وطني.. إلى أصلي.. كأنما أزحف بجسمي على الأرض السوداء المبللة بالماء، وأتحسسها بلساني، لأرتوي منها، وأغمس رأسي في شقوق الأرض أشم باطنها، وأضع خدي الملتهب على سطحها الرطب.
وطافت برأسي فكرة أصل الإنسان: ماذا كان؟.. حيوان من خلية واحدة يزحف على هذه الأرض ؟ ... أو قطعة طين من هذا الطين الذي يغطي وجه الأرض ؟
( تعلمت الحب ، ص 9 )
-4-
( كفراوي والجاموسة )
( الفلاح ) كفراوي كان يكلم الجاموسة، والجاموسة كانت ترد عليه. وقد عرف كيف يفهم لغتها منذ فتح عينيه على الحياة والجاموسة أمام عينيه، في الحقل وفي الدار، وحينما ينام بالليل أو بالنهار فهو يرقد إلى جوارها. قبل أن يتعلم المشي أو الكلام كان يراها تنظر إليه بعينيها الواسعتين الصامتتين وهو يبكي وحده في الظلام.
وحينما بدأ يزحف فوق بطنه على الأرض أصبح يزحف إليها، فتمسح فمها الناعم بوجهه وتحس شفتيه الجافتين الظامئتين، فترقد على بطنها إلى جواره، وتزحف نحوه مقربة ضرعها من رأسه. يرفع كفراوي رأسه فيرى الضرع الناعم المنتفخ والحلمة السوداء تتدلى منه بالقرب من أنفه، ويشم رائحة اللبن، فيمد عنقه ويقبض بأسنانه على الحلمة فإذا باللبن الدافئ ينساب في فمه.
أول ما استطاع الكلام بدأ يناديها، يقول لها: "عزيزة!" فتحرك رأسها ناحيته، وتقول له بعينيها الواسعتين: "كفراوي". كل يوم يقول لها كلمة، وترد عليه بكلمة حتى عرف كلامها وعرفت كلامه. ذات يوم شكت إليه من أبيه الذي ضربها بالعصا وهي تدور في الساقية، وكره أباه في ذلك اليوم ولم يأكل معه؛ وضربه أبوه ليأكل، لكنه لم يأكل وبات جائعا بغير عشاء.
( موت الرجل الوحيد على الأرض ، ص ص 70، 71 )