خاص بآفاق البيئة والتنمية
زحف اسمنتي متسارع في مرج ابن عامر
سواد متواصل
يهدد الزحف العمراني دون أسس، بريتنا وطبيعتنا، ويلتهم أرضنا الخصبة. تلتقط صورًا خلال آب لغير منطقة في جنين: مرج ابن عامر، وسهل عرابة، وجبال قباطية، وتلال برقين، وتوثق أمكنة كانت قبل ثلاثين سنة بلا أي منزل، أو شارع عريض، أو مكب نفايات وركام عشوائي.
لم نعد نشاهد الغزلان، والنسناس، وانقطع أثر الأرانب البرية، والغريري، وغاب صوت الحجل، واختفت كل ملامح الحياة البرية، منذ مدة. وأفسدنا طرقاتنا وحقولنا وجبالنا بأكوام النفايات والركام والمكاره الصحية. نحن بأمس الحاجة لحسن التصرف بحيزنا الصغير، والحرص على محمياتنا وبريتنا، فهي لم نرثها من أسلافنا، بل نوفرها لأحفادنا. الاستمرار في التغني بحب الوطن مع تحويل أرضه إلى مكبات ضخمة للنفايات، ووأد مساحاته الخصبة بالإسمنت، جزء من المشكلة.
الحاجة حنيفة خلف
حارسة الأرض
تنقطع مساء السبت الأسود ( 8 آب) همزة الوصل بين روح العمة أم طالب ووجهها الباسم، ويتفتح معها شريط ذكريات طويل لزوجة عم استثنائية، ورفيقة طفولة، ولجارة طيبة، ولشابة وفتاة وأم وجدة صنعت رحلة كفاح ومشقة، وكانت ابنه الأرض التي لازمت أمي وسيدة روحي في المقاثي، والحقول، والزيتون، وأعباء الأرض، وقهر الأيام والشدائد.
فقدنا نصيبًا وافرًا من الطيبة، ولم يعد بعد اليوم أي وجود لروح فكاهة ومرح صباحات العيد، وفي زيارات الطمأنينة. كنت دائمًا أفتح لها فصلًا من كتب كفاحها الطويل، وأنتقي ما يجعلها تضحك، وفي آخر الزيارات كان الجسد المنهك لا يقوى على الابتسامة، ولم يعد قادرًا على التقاط خيوط الذكريات، وتغيرت ملامح الوجه، وزاد الجسد ضُعفًا.
زوجات العم بحنان الأمهات، وغيابهن يدمي الروح ويكسر القلب، وهن اللائي حافظن على الأرض، وعملن فيها، وتعلمن الاقتصاد المنزلي على أصوله، وربين وتعبن.
ذات سبت، كانت عمتنا وأمنا وجدتنا ورفيقتنا بين الأرض والسماء، اقتربت منها، وقلت لها قولي يا الله، ففعلت، شقت عيونها قليلًا، ثم راحت تقاوم وجعها المتفشي في جسدها الذي لم يجد الأطباء مكانًا فيه لوضع الحقن، ولم يبق غير سلاح الدعاء والعيون المبللة بالدموع، ثم جاء الأجل المحتوم.
في كل عيد، حرصت على توثيق مرئي وشفوي لسيرة زوجة العمة والخالة والعمة والجدة، أُذكرها بحيفا، وبزرعين، وبالنجمة، وأرض نورس، وببعض قصص والدها، وببلعمة، وبأيام البطيخ والشمام، والسمسم، والنكسة، فتقول لي ضاحكة: وبعدين معك. فأكمل: "كيف أنت والعشاء يا كنة عمتي" وهي شيفرة تجعلها تضحك وتعود لصباها.
خلال انتفاضة الحجارة كنت رفيقها الدائم، وكذا عشية حظر التجوال الطويل الذي هبط على البلدة في الخريف، واتخذت من السور بين بيتينا ممرًا آمنًا لإضحاكها. كنت أعد المسليات والحلوى ونتشاركها معًا كل ليل، وكنا نشوي الجبن على الفحم، ونستمع لألف قصة وقصة، ونتابع قليلًا مسلسلات السهرة في الشاشة الأردنية الصغيرة، وفي كل ليل أعيد لها قصة الممثل "برهان أبو السبل" فتضحك طويًلا.
عام 1992 اكتست الأرض بالثلج، وكنت أصنع لها ممرًا سهلًا للوصول من العقد إلى المطبخ، وأحذرها أن تدوس على الثلج، وتخبرني بأنه ليس بثلج أيام العز.
كانت تُعلق نبات الجعدة في صدر ساحة البيت، وتجلس بجوار شجرة الليمون الكبيرة، التي عز عليها قطعها، وتجفف غلال الأرض للشتاء الطويل، وتطبخ الجبن، والصابون، ورب البندورة، والسليقة.
عملنا معًا في أيام الحصاد، والزيتون، وجمعنا الحمص، والقمح، وزرعنا الكوسا والخيار، وتخصصت في ترتيب ما نقطفه بمهارة عالية، وكان لأطباقها مذاقٌ خاصٌ، فهي تطبخ بقلبها قبل يديها.
كنت أقول لها أنني خبير أقمشة، وأدعي قدرتي على تمييز الأصناف والخامات، وأقول لها: يا الله هذا القماش مثل الحرير، فتقول لي بابتسامة حين أبالغ: طيب روح شوف حرير أمك....
شكّل مرضها المتكرر حرب استنزاف لجسدها، وكنا نحرص أن نراها قوية دون وسائل مساندة. أول أوجاعها التي مزقت قلبنا يوم بتر جزء من أصابعها، وهي تصنع الفلافل، ثم تسللت هشاشة العظام إليها، ولاحقًا نال منها عنكبوت سام، كان البوابة لهبوط حاد في ضغط الدم، وتضررٍ في الكلية، ولانتكاسة كبيرة أفقدتها النطق والبصر.
رسمت مخيلتنا لها صورة المرأة الفولاذية، والمبتسمة، وأنكرنا قدرة المرض عليها، وكررنا لها: نريدك قوية وضاحكة، ونريد أن نتذوق محشي الباذنجان، والمكدوس، والمبسوسة، وخبز الطابون، فتسترد بعضًا من صبا ذاكرتها.
كنا نطلب منها أن تحدثنا عن صباها، وشبابها، وطقوس عرسها، وسرقة هدية عودتها من زيارة الزفاف، وعنقود عنب المرحومة أم لطفي الشهير، ونسألها عن قدرتها على القراءة كما أخبرت أمي قبل سبعين عامًا، فتضحك من جدران قلبها.
بين رحيل رفيقة طفولتنا وعمنا 33 عامًا و3 أشهر، وبين قبريهما نحو 30 مترًا، وكأن كل متر بعام.
سيعز علينا فراقك، وسنتذكر وجهك المبتسم، وسندمن على استرداد سيرتك مع الأرض، والدعاء لك بالرحمة، فأنت من الخسارات التي لن تعوض، وستتركين فراغًا لن يشغله أحد. ألف رحمة وصبر وحزن ودعاء ودمعة...
يتواصل سنويا ابتلاع البحر لشباب وأطفال فلسطينيين
دموع وماء
ابتلع البحر في رحلات التنزه من فتحات جدار الفصل العنصري، أربعة شبان في وقت قياسي، في خطأ يتكرر كل عام، ودون أن نتعلم الدرس. تستذكر كيف دشن أخي زيدان رحلة الموت بالماء، وقضى غرقًا بعد النكسة بقليل، وهو في صفه الثالث، حاول السباحة في بركة "أبو عباس"، ثم اختطفه سر الحياة، وظن رفاقه أنه يدعوهم للنزول، والحقيقة على ما يبدو نداء استغاثة للطفل الأسمراني.
كان طلب أمي، خلال إفادتها للشرطة، أن يضع مالك البركة سياجًا، حتى لا تصعد ملائكة أخرى إلى السماء من الماء. بقيت أمي تغمض عينها وتخفي بكاء قلبها، ولا تنظر إلى مسرح خسارة بكرها، الملاصق لأرضنا.
بقيت سيدة روحي تخبرنا بأقران زيدان في صفه، وحافظ رفيق دربه نادر عبيدي على التواصل معها حتى اليوم، يمهد اتصاله القادم من ألمانيا بالسماح؛ لأنه يفتح جراحها ويذكرها ببكرها.
أفاد الأستاذ خليل العنتير خلال دفن زيدان: "سمعنا والدتك تطلب من أبيها تغيير مكان دفن فلذة كبدها، وقالت له بدموعها: أرجوك، لا تجعله في طرف المقبرة، فلا زال صغيرًا، وسيخاف لوحده في الليل."
الغريق شهيد، وفق الحديث النبوي الشريف، وذكريات الغرق تفتح الحزن العام والخاص من بابه إلى محرابه.
والماء سر الحياة وصفة للموت حين تحاول الأجساد العوم وسط الموج، أو تهبط في بركة فإنها تحمل روحها على كفها. ركوب الماء ليس بالأمر الهين، وارتباط بلدتنا برقين بحوادث مؤلمة سببها الماء وآباره وبحره وبركه الزراعية.
أطل الوجع الثاني برأسه يوم غاب الشاب غازي خلف، في بئر المسجد عام 1973. حاول الأهالي إنقاذه دون جدوى، وظلت حكايته على كل لسان.
بعدها هبطت الأوجاع مجتمعة نهاية السبعينيات، وشهد وادي برقين غرق عمر وعبد الكريم وإبراهيم جرار، وهي القصة التي نستردها كلما نعبر طريق العنبر، ونحسب الماء الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة عدوًا شرسًا إن عاندناه، أو لم نحسن التصرف معه.
ليس ببعيد من الوادي، وفي مرج ابن عامر خسرنا ابن صفنا مسعود أبو خالد، في تسعينيات القرن الفارق، غاب عن المشهد وابتلعته بركة "أبو رسلان"، وزرع الأحزان الصافية بين أهله وأقرانه.
جدّد الشاب يزن علاء العنتير، بدايات آب مشهد الموت في عرض البحر، وانتهت رحلة العيد إلى حيفا وكرملها بحفرة صغيرة في ناحية المقبرة الغربية، وبجراح كبيرة لعائلته، ولزهرة أفلت قبل إكمال براعمها.
رحم الله شهداء الماء، وأعان أحبتهم على ثقل الخسارة، وكان في عون عيونهم التي تسبح بدمعها المُستدام.
هجرة طيور
هجرة خريفية
أصدر مركز التعليم البيئي / الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في الأردن والأراضي المقدسة نشرة خاصة لبدء موسم هجرة الطيور الخريفية، التي تصادف سنويًا الخامس عشر من آب، اشتملت معطيات تخص طيور فلسطين، وتصنيفاتها، وأعدادها، ومراقبتها، وتحجيلها، وما يتصل بها من ممارسات، والتهديد الذي يلاحقها.
واستهل المركز النشرة بالإشارة إلى جهوده المشتركة خلال فترة الجائحة، بالشراكة مع سلطة جودة البيئة، والتي أثمرت عن إعادة إطلاق وتأهيل صقر العويسق، وحوام طويل الساق، مثلما أطلقت إلى الطبيعة مجموعة من الحساسين المصادرة عبر معبر الكرامة.
وقالت النشرة إن جائحة (كوفيد 19) شكلت ضغطًا على التنوع الحيوي في فلسطين؛ من ناحية ازدياد انتشار الممارسات الخاطئة كالمتاجرة بالطيور، وصيدها، والاعتداء على موائلها وأعشاشها، وصيدها الجائر الذي يُجرمه قانون البيئة الفلسطيني.
وأوضحت أن الجائحة تحتم علينا مضاعفة الاهتمام بالبيئة، والحرص على التنوع الحيوي، إذ لا تعني الأوضاع الاستثنائية والإغلاقات وحالة الانقطاع عن الأعمال والدراسة، تنامي الاعتداء على الحياة البرية، والمس بالطيور والحيوانات، التي تشكل عاملًا هامًا في التوزان البيئي.
وأكد المركز على أهمية التعريف بالتنوع الفريد لفلسطين، وصيانة النظم البيئية والمحافظة عليها من التخريب والعبث، والاعتناء بموائل الطيور والمحافظة عليها. وحماية الأنواع المهددة بالانقراض منها، ومحاربة الصيد الجائر الذي تتعرض له، وحظر الاتجار بالحيوانات البرية، وإنشاء قاعدة معلومات لتوثيق الطيور.
وكرر الدعوة إلى بناء إستراتيجية وطنية خاصة بحماية التنوع الحيوي، والإعلان عن الأنواع المهددة بالانقراض وصون المناطق المهمة للطيور، وسن تشريعات وتفعيل القوانين السارية لغرض حماية التنوع الحيوي. والدعوة إلى الالتزام بالمعاهدات والمواثيق الدولية ذات الصلة، وتبادل الخبرات على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، والمساهمة في تطوير متحف التاريخ الطبيعي لفلسطين التابع للمركز، بجانب البدء بتطوير الوعي البيئي، وتحفيز الإعلام في بلادنا لإعطاء قضايا البيئة المساحة التي تستحقها.
وأشارت النشرة إلى أن الطيور المهاجرة تعبر سماء فلسطين خلال موسمي الهجرة الخريفية والربيعية، وبعض أنواعها تمر بسرعة، والأخرى تستريح فيها عدة أيام أو أسابيع، أو تهاجر ليلاً، أو نهارًا.
وبينت أن السبب الرئيس لكثرة الأعداد والأنواع في الطيور المهاجرة عبر فلسطين، موقعها الجغرافي الحيوي بين آسيا، وإفريقيا، وأوروبا، ووقوعها في منتصف طريق الهجرة. حيث تعتبر بلدنا عنق الزجاجة بالنسبة إلى هجرة الطيور.
وذكرت إن أهم مسارات هجرة الطيور في فلسطين تلك الواقعة ضمن حفرة الانهدام وهي الأغوار وأريحا الذي تم دراستها من باحثي "التعليم البيئي" خلال إنشاء محطات مراقبة للطيور وتحجيلها فيها.
العديد من المطاعم وصالات ألأفراح وصلت إلى حافة الانهيار بسبب جائحة كورونا
تخطيط
كشفت الجائحة الراهنة عن أزمة عميقة في كل اقتصادنا الهش. تثار اليوم أزمة المطاعم وصالات الأفراح، التي يعاني أصحابها كثيرًا. كاستهلال، لم يجر تصميم هذا القطاع بواقعية، وشهد نموًا متسارعًا ومبالغًا فيه، دون تخطيط كافٍ للمستقبل، فالمطاعم في معظم المدن صممت تفسها كي تعتمد على أهلنا في الداخل، وبنيت غالبية القاعات على أساس اقتصاد الرفاه، ومستوى المعيشة المرتفع، والقروض، والمساعدات، والزيف. قلوبنا مع مالكي هذه المنشآت، ونأمل لقطاعهم التعافي. لكن علينا التفكير في أنماطنا المعيشية غير الواقعية التي فرضناها على أنفسنا وجيوبنا، والعودة إلى واقعيتنا، إذ لا يمكن فهم أو تبرير التكاليف الباهظة لأفراحنا، ولجوء قسم منا للقروض لمجاراتها، وتوجهاتنا نحو الطعام السريع وغير الصحي، وهجرتنا لأطباقنا التراثية، وابتعادنا عن سيادتنا على غذائنا، وتنازلنا عن اقتصادنا المنزلي، وتراجع مفهوم الاكتفاء الذاتي، وقطيعتنا مع بيوتنا وساحاتنا العامة في إشاعة الفرح، الذي صار يقطر ديونًا ومالًا ومظاهر خداعة.
تعليم الكتروني
تعليم إلكتروني
فرض "كوفيد 19" أنماط حياة جديدة، وأدت إلى تراجع دور المؤسسة التربوية التقليدية: المدرسة والجامعة. نحتاج مع تكرار الترويج والتغني بالتعليم عن بعد إلى التعمق والبحث في نتائجه وتداعياته وآثارة، وتتبع تجارب سابقة فيه. ثمة الكثير مما يقال في الأمر، كاستهلال، كان تنقصنا دراسة علمية تطبيقية، تبين ما لهذا النمط التعليمي من مثالب ومناقب، وتراعي قدراتنا وجاهزيتنا، وتحلل بنيتنا التحتية الإلكترونية: توافرها، وجودتها، وتكلفتها، وأمنها، وتقترح بدائل آمنة أخرى. في اليوم التالي لإعلان حالة الطوارئ الأولى، اقترحت تعويض غياب طلبتنا عن مدارسهم بتعليم افتراضي، وبادرت مع الصديق أسامة خلف ومعلمين أعزاء ومتطوعين في تدشين ثلاثة صفوف، وواصلنا لشهرين. تابعت التجربة بعمق، ووجدت الكثير مما نحتاج بحثه، وربما الأهم، محاذير تراجع دور المدرسة التقليدي، وتداعيات الابتعاد عن الورق والركون إلى افتراض، وحالة الإدمان إن جاز تسميتها، التي ستعيد أسر طلبتنا في متاهات الشبكة العنكبوتية، خاصة إنهم يمضون ساعات طويلة في اللهو الإلكتروني، وغالبيتهم يرون في "جوجل" وإخوته حلًا لكل استعصاء، وكنا وما زلنا بحاجة ماسة لإخراجهم من عزلتهم، ودفعهم لعوالم الواقع...
aabdkh@yahoo.com