الخوف والتوتر يضعفان جهاز المناعة ويزيدان العرضة للإصابة بالفيروسات المُعدية مثل الكورونا
خاص بآفاق البيئة والتنمية
بالتزامن مع نزوع عديد من الدول إلى إجراءات الحجر الصحي القسري وتركيز وسائل الإعلام بشكل كبير على وباء الكورونا، نلاحظ انعكاسات جليّة على الجانب النفسي للإنسان. لكن الخطير في الموضوع، أن العديد يستسلم للتوتر والخوف دون أن يُدرك أنّه بهذا يعرّض نفسه لخطر مضاعف للإصابة بفيروس الكورونا. الدراسات تُثبت أنه إذا ما تعرّض جسم الإنسان إلى فيروسات مُعدية أثناء الشعور بالتوتر المُزمن، فإن الجسم لن يتمكن من محاربة الأجسام الدخيلة بسبب نقص الخلايا والإفرازات المسؤولة عن تنظيم الجهاز المناعي بشكل عام. يحاول هذا المقال الموجز سرد أبرز نتائج الدراسات التي تُثبت وجود علاقة وطيدة بين الخوف والتوتر وإضعاف جهاز المناعة، ومن ثمّ يختتم ببعض التوصيات والإرشادات العامة التي قد نستفيد منها في هذه الفترة.
|
نلاحظ في الآونة الأخيرة انتشار مظاهر الخوف والتوتر الشديدين بين فئة كبيرة من الناس حول العالم، وذلك استجابةً لتفشّي وباء "الكورونا" عالميا (كوفيد 19)ً. وبالتزامن مع نزوع عديد من الدول إلى إجراء الحجر الصحي القسري وتركيز وسائل الإعلام بشكل كبير على هذا الوباء، نلاحظ انعكاسات جليّة على الجانب النفسي للإنسان. لكن الخطير في الموضوع، أن العديد يستسلم للتوتر والخوف دون أن يُدرك أنّه بهذا يعرّض نفسه لخطر مضاعف للإصابة بفيروس الكورونا. إذا ما عُدنا إلى ابن سينا، وخصوصاً في كتابه الشهير "الشفاء"، نلاحظ أنه من أوائل الذين ركزوا على أهمية الجانب النفسي وعلاقته بالجانب الفيسيولوجي لدى الإنسان، وهو أمرٌ أثبتته الدراسات الغربية لاحقاً بشكل تجريبي مخبري. ولعلّ القصة التالية التي وردت في أحد أعمال ابن سينا تصلح كمدخلٍ لما سنأتي عليه فيما بعد.
يذكر ابن سينا أن "وباءاً ما كان ذاهباً إلى إحدى المدن، فشاهده رجل وسأله: إلى أين أنت ذاهب أيها الوباء؟، فردّ الوباء: أُمرتُ أن أذهب إلى هذه المدينة لأقتل ألفاً من أهلها. وعندما خرج الوباء من المدينة، شاهده الرجل، فقال له: ما أقساك!! لقد قتلتَ عشرين ألفاً من أهل المدينة. فردّ الوباء: أنا قتلتُ ألفاً فقط، أمّا الباقي فقد قتلهم الوهم. إن الوهم نصف الداء، والاطمئنان نصف الدواء، والصبر أول خطوات الشفاء". سأحاول في هذا المقال الموجز أن أسرد أبرز نتائج الدراسات التي تُثبت وجود علاقة وطيدة بين الخوف والتوتر وإضعاف جهاز المناعة، ومن ثمّ أختم ببعض التوصيات والإرشادات العامة التي قد نستفيد منها في هذه الفترة.
الخوف والتوتر مرتبطان بضعف جهاز المناعة:
في بدايات ثمانينيات القرن الماضي، لاحظ العالمان جانكي جلاسر ورولاند جلاسر أن الطلاب الذين يتوترون في فترة الامتحانات النهائية، تقل لديهم المناعة الجسمية بشكل ملحوظ. وقد تأكّدوا من ذلك مخبرياً، إذ لاحظوا أن أجسام الطلاب المتوترين توقّفت تقريباً عن إفراز العناصر المساهمة في المناعة (gamma interferon, T-cells وغيرها)(Glaser et al., 2000; Glaser et al., 2003). ومنذ ذلك الحين توالت الدراسات في هذا المضمار خارجةً باستنتاجات تجريبية دامغة على العلاقة العكسية ما بين منسوب التوتر والخوف لدى الفرد وأداء جهازه المناعي بشكل عام. واليوم، هنالك فرع خاص ضمن علم النفس العصبي يُدعى (Psychoneuroimmunology) والذي يختص بدراسة العلاقة ما بين الجوانب النفس-عصبية وجهاز المناعة عند الإنسان.
ومن جانب آخر، تركّز دراسات أخرى على حقيقة أن الأكبر بالسن هم الأكثر عُرضة لاضطرابات المناعة المرتبطة بأعراض سيكولوجية المنشأ. على سبيل المثال، أظهرت دراسة بريطانية عام 2002 أن المناعة الجسمية للمتقدمين بالعمر قد تتأثر حتى بسبب عوارض اكتئابية بسيطة. وخلصت ذات الدراسة -التي شملت عيّنتها أفراداً في السبعينات من عمرهم- أن غالبية الذين يعانون من أعراض اكتئابية كوّنت أجسامهم استجابات مناعية ضعيفة للفيروسات والبكتيريا (McGuire et al., 2002).
ومن جانب آخر، تُركّز دراسات أخرى على أن التوتر مرتبط بزيادة (الكورتيزول) والذي بدوره يؤدي إلى إضعاف الاستجابات المناعية في جسم الإنسان. أثناء فترات التوتر القصيرة، يساهم إفراز الكورتيزول في بعض العمليات الجسمية المفيدة، لكن المشكلة تظهر في فترات التوتر الطويلة، إذ أنّ زيادة منسوب الكورتيزول في الجسم لفترات ممتدّة يؤثر سلباً على عمل كل من (T-cells) وكريات الدم البيضاء، الأمر الذي ينعكس سلباً على مناعة الجسم بشكل عام. ومن هنا، فإن الدراسات تُثبت أنه إذا ما تعرّض جسم الإنسان إلى فيروسات مُعدية أثناء الشعور بالتوتر المُزمن، فإن الجسم لن يتمكن من محاربة الأجسام الدخيلة بسبب نقص الخلايا والإفرازات المسؤولة عن تنظيم الجهاز المناعي بشكل عام (Morey et al., 2015).
كيف نُغذّي المناعة "النفسية" في مواجهة أزمة الكورونا؟
لفتَ نظري وأنا أتابع الأخبار أنّ صناديق المساعدات التي قدّمتها الصين لإيطاليا في صراعها مع وباء الكورونا، تحمل اقتباسات من الفيلسوف (Seneca)، وهو أحد الرواد البارزين للفلسفة الرواقية، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على تحلّي الصين بقيم إنسانية عريقة ساعدَتها على تطويق انتشار هذا الوباء بشكل فعّال (إلى جانب الإجراءات الصحية والطبية المكثّفة). ومن هنا، أعتبر أن المدرسة الفلسفية الرواقية هي من أبرز التوجهات الفكرية الإنسانية التي قد نستفيد منها في الأزمة الحالية، وخصوصاً وأنّها تركّز كثيراً على كيفية المواجهة الهادئة للأزمات الحياتية على اختلافها. ومن أبرز مبادئها التي قد تصلح للفترة الحالية ما يلي (يمكن مراجعة كتاب (On the shortness of life) للفيلسوف الرواقي "سينيكا" للاستفاضة في هذا الشأن):
1- مبدأ (Premediato malorum): اجعل لديك خطة بديلة إذا ما ساءت الأمور.
2- مبدأ (Summum Bonum): تصرّف من أساس قِيَمي، لا تضع راحتك فوق أمان الآخرين.
3-مبدأ (Sympatheia): نحن جميعاً معاً في هذه الأزمة، كن لطيفاً، مُساعِداً للآخرين ولا تكن أنانياً.
وفيما يلي بعض الإرشادات النفسية العامة التي قد تساعدنا في الحفاظ على توازن نفسي أثناء الأزمة الحالية:
1-قلّل من مشاهدتك للأخبار عموماً، وكُن حريصاً إزاء ما تشاهد:
لا ريب بأن المشاهدة المكثّفة للأخبار بخصوص وباء الكورونا تتسبّب بنوبات من الهلع والتوتر لعديد من الأفراد. وبالتالي، يمكننا عموماً أن نقلّل من ساعات جلوسنا أمام التلفاز أو الوسائل الأخرى، وربّما من الأفضل أن نخصّص أوقات محددة في النهار لمتابعة الأخبار وليس على مدار اليوم. إضافة إلى ما سبق، تجدر الإشارة إلى أن قسماً من الأخبار المتداولة في وسائل الإعلام قد لا تكون دقيقة، ومن هنا يتطلّب الأمر حرصاً في مراجعة مصادر هذه الأخبار ومدى مصداقيّتها.
2-اغسل يديك، ولكن ليس بشكل مبالغ فيه.
يعتبر اضطراب الوسواس القهري (OCD) من الاضطرابات النفسية والتي أبرز اعراضها المبالغة في التصرّفات الوسواسية مثل غسل اليدين المتكرر. بالطبع، من الواجب العناية بغسل اليدين واتباع كافة التعليمات الصحية، إلا أن بعض الأفراد معرضون إلى أن تتحول هذه الممارسات من إجراءات وقائية إلى ممارسات وسواسيّة قد تتحوّل إلى اضطراب نفسي لاحقاً. ومن هنا، وجب الاعتدال مع توخي الحيطة والحذر.
3-حافظ على اتصالك مع الناس
بما أنّ كثيراً من الأشخاص يتواجدون حالياً في العزل الفردي أو الحجر الصحي، ينصح بالحفاظ على التواصل مع العالم الخارجي من خلال وسائل التواصل المختلفة المتاحة في وقتنا هذا.
4-الحفاظ على نظام صحي متوازن
من أجل المحافظة على توازن نفسي سليم أثناء هذه الأزمة، من المهم أيضاً الحفاظ على نظام صحي سليم، يتمثّل في الغذاء المتوازن قدر الإمكان، ممارسة النشاطات البدنية، والتعرض للهواء والشمس (إن أمكَن) وخصوصاً أثناء فترات الحجر والعزل.
المصادر:
Glaser, R., Sheridan, J. F., Malarkey, W. B., MacCallum, R. C., & Kiecolt-Glaser, J. K. (2000). Chronic stress modulates the immune response to a pneumococcal pneumonia vaccine. Psychosomatic Medicine, 62, 804-807.
Glaser, R., Robles, T. F., Malarkey, W. B., Sheridan, J. F., & Kiecolt-Glaser, J. K. (2003). Mild depressive symptoms are associated with amplified and prolonged inflammatory responses following influenza vaccination in older adults. Archives of General Psychiatry, 60, 1009-1014.
Kiecolt-Glaser, J. K., McGuire, L., Robles, T., & Glaser, R. (2002). Psychoneuroimmunology: Psychological influences on immune function and health. Journal of Consulting and Clinical Psychology, 70, 537-547.
Morey, J.N., Boggero, I.A., Scott, A.B. & Segerstrom, S.C. (2015). Current Direction in Stress and Human Immune Function. Curr Opin Psychol., 5, 13-17.