خاص بآفاق البيئة والتنمية
(1)
حتى كتابة هذه السطور، كانت معظم اجتماعات "كورونا" تجري وببث مباشر دون إجراءات وقائية: الكفوف، والكمامات، والابتعاد بمقدار "المسافة الآمنة" أو تجنب التجمهر. بالإمكان الاكتفاء بلقاءات عن بعد، وبالمستطاع الكف عن التقاط الصور في هذه الفترة.
(2)
السفر والمعابر والعمل في الداخل والأسواق ليست أهم من المدارس والجامعات والمساجد والكنائس، لتبقى مفتوحة حتى الـ 22 آذار، فغالبية الحالات المصابة بالفايروس المستجد، جاءت عبر الحدود، أو من العمل في الداخل المحتل. والسؤال الهام: لماذا لم يجر ضبط القادمين، من الخارج، ونقلهم إلى الحجر الإجباري لأسبوعين كخطوة وقائية؟
(3)
بعد إغلاق معظم الأماكن ولتنظيم أسواق المدن التي باتت مصدر الاكتظاظ الوحيد، يمكن توزيع الوصول إلى الأسواق من الأحياء، البلدات والقرى المحيطة بالتناوب على أيام الأسبوع، وبجدول مُعلن وملزم. ويمكن أن يكون هذا الإجراء بديًلا مؤقتًا عن حظر التجوال، عبر تخفيف الأزمة والاكتظاظ إلى حدودها الدنيا.
(4)
استخف الطليان بالكورونا فخربت روما. لدينا للأسف طائفة بعقلية نابولي وأخواتها، فيلتفون على إجراءات الوقاية، ويرقصون ويغنون ويتسامرون، لدرجة أن أحد متسلقي الغناء ادعى (في منتصف آذار) أنه أقوى من الوحش كوفيد 19، وأن هذا الفايروس لا يوقفه عن الطرب!
(5)
تكتب مطلع آذار: المبالغة في الوقاية هي الحل، ولكن دون صناعة حالة ذعر، فلا يخفى حالنا على أحد، ويبدو "لحاف" جاهزيتنا أقصر من طول أرجلنا؛ ولذا علينا المبالغة والإسراف في إجراءات الوقاية، دون خلق جو من الهلع. تعطيل المدارس والجامعات لا يعني تحول الأبناء إلى الشوارع والمقاهي والنزهات، بوسعنا دمجهم في برامج التعليم عن بعد، والتطوع في حملات التوعية والتثقيف. منصات التواصل الاجتماعي فرصة جيدة للإرشاد، وبوسعنا إقصاء الشائعات منها بالمعلومة السريعة وبمحاسبة مروجي الزيف بشكل قانوني وبسرعة. أما الأسواق فهي مقتلنا، وتحتاج لرزمة خطوات عملية: ارتداء الكفوف للباعة وخاصة في المخابز وأسواق اللحوم والخضروات والفواكه والمطاعم والصيدليات أمر ضروري، ومنح المرضى منهم إجازات مدفوعة وتعويض من يعملون بشكل فردي. وقف دخول بيت لحم أو الخروج منها، وتعليق استقبال أهلنا من داخل الخط الأخضر، والتفكير الجدي ببدائل لعمالنا في الداخل ضرورة. إقفال صالات الأفراح، والنوادي، والمقاهي، وتعقيم المواصلات العامة باستمرار، ووقف السفر إلا للحالات الطارئة جدًا، وإجبار المرضى على الاحتجاب عن المشاركة في الصلوات ومجالس الأحزان مهم، ويمكن أن يكون برقابة مجتمعية. الأفراح ينبغي تأجيلها أو تغيير شكلها. النظافة والوقاية كهاجس وهوس، خير ألف مرة من ساعة تطبب ووجع.
(6)
تقترح هذه اللافتة لعرس سبق الإعلان عن حالة الطوارئ بيوم: "بالمصافحة أيضًا نُعبّر عن فرحتنا بعريسنا، وحرصًا على صحة الجميع نؤجل التقبيل." ورغم رفعها في العرس، إلا أن نصف المدعوين تقريبًا لم يلتزم بها، وحافظ على عادة التقبيل.
(7)
تخط قبل إعلان حالة الطوارئ بأيام: الوقاية قبل فوات الأوان، ويبدو محيطنا في حال ملتهب، فبعكس الربيع الذي انتظرناه بفارغ الصبر، ينتشر الهلع بيننا، ونخسر جماله. إيران بؤرة سوداء للفيروس، وعشرات آلاف الإسرائيليين دفعة واحدة في قبضة الحجر الصحي. علينا اتخاذ قرارات وقائية قد تبدو "صعبة" لكنها ضرورية. ننتظر جرأة أهل الاختصاص والمسؤولية، لكن البداية من أنفسنا. لا حاجة للمصافحة الحارة بعد الآن، وجنة المرضى بنزلات البرد والزكام والسعال منازلهم لا الأسواق أو المدارس أو المساجد أو الأعراس. الأفراح ومجالس العزاء ينبغي أن تقنن، الإسراف في استخدام المناديل الورقية والصابون ليس عيبًا، وتفادي الوجبات في المطاعم فكرة لطيفة. ليس الأمر صناعة رعب بقدر ما هو اعتراف بأن ضعف بنيتنا، وتواضع جاهزيتنا، يفرضان علينا إنفاق دراهمنا البيضاء والسوداء على الوقاية.
بسينة سلامة
(8)
غيّب الموت الحق جارتنا الفاضلة الحاجة بسينة قاسم سلامة، لتلتحق بأمها وخالتنا أم زياد. قضينا نحن كل طفولتنا وجدارنا على حائطهن، وهن أمضيتا وقتًا طويلًا في وحدة، وخلال حظر التجوال عشية انتفاضة الحجارة كان القلق والحرص يرافقهن، وبخاصة مع تكرار اقتحام جيش الاحتلال شبه اليومي لمنزلنا. أتذكر الجارة يوم أفسد المقتحمون فطورها الرمضاني وأمها، وعاث فسادًا في منزلهن. سلام ورحمة على الروح التي صعدت إلى السماء، وألف سكينة ودعاء لحارسة زقاقنا الصغير، الذي قلب مسجل المواليد ثاء اسمها إلى سين يُشتق منها السلوان لكل عين بكتها، ودعوة بسدرة منتهى في جنان الله.
اللافت أن جارتنا توفيت في أوائل حالة الطوارئ، ولم تحظ بعزاء مكتمل، وجرت مراسم الدفن وسط حالة من القلق والتوتر. حتى الأحزان صارت مختلفة في زمن الكورونا.
علي الجرباوي
(9)
تقرأ تدوينة للدكتور على الجرباوي، تحت عنوان "ضرورة استعادة التوازن" يقول فيها: بشكلٍ عام، كان هناك انطباع منتشر بين الناس في عالمنا العصريّ المعولم أن الأوبئة، كالإنفلونزا الإسبانية والطاعون، أصبحت "أعراضاً" من الماضي. كنّا، على ما يبدو مقتنعين، ومرتاحين مع ذلك الاقتناع، أن التقدم العلمي والتكنولوجي المتحقق تراكميًا أصبح قادراً على تمكين الإنسان من بسط السيطرة اللامحدودة على البيئة، وأن هذه الأوبئة التي تهدد البشرية وتفتك بأعداد كبيرة -قد تكون هائلة- من البشر، وتكبح الاقتصاد العالمي، وتُدخل العالم في ضنكٍ ومحنة، قد أصبحت شيئًا من الماضي.
وأضاف: واضح أن هذا الاعتقاد، ومعه الارتياح، قد تبددا الآن، وأن القناعة المريحة التي غلّفت عصرية عصرنا هذا قد أصابها العطب، وحلّ مكانها شعور بالعجز والقلق الناجم عن حالة اللايقين المنتشر الآن في كافة أرجاء المعمورة. لقد أفقدتنا سرعة واتساع رقعة انتشار وباء الكورونا الشعور بقدرتنا على السيطرة. ومع هذا الفقدان تتنامى حالة الجزع في أرجاء العالم.
وتابع الجرباوي: سيكون ضرورياً بعد تخطّي هذه المحنة، وسيتم في النهاية تخطّيها، أن يعيد الإنسان حساباته فيما يتعلق بعلاقته مع البيئة، وأن يعيد بناء هذه العلاقة على الانسجام عوضاً عن السيطرة الجشعة والمفجعة التي تحدد معالم عصرنا. لقد أعطتنا البيئة تحذيراً قوياً وهاماً، وعلى البشرية الاتعاظ واستقاء العبر.
وأنهى: فهل ستتعظ؟! برأيي، هذا هو السؤال الكامن والأهم الذي يواجه البشرية الآن.
(10)
الحجر المنزلي ليس وصمة عار، والمصاب المحتمل بفيروس كوفيد 19 المستجد لا يمكن محاسبته أو لومه على مرضه، ولكن الالتزام بالحجر البيتي واجب ومسؤولية، أما الاستخفاف به فجريمة ينبغي المحاسبة عليها. الغريب أن بعض الحالات تصرّ على إخفاء إصابتها، أو لا تلتزم بحجر نفسها، وتتصرف باستخاف وانعدام مسؤولية.
(11)
راهنت الحكومة على وعي الناس، لكن نسبة لا بأس بها لم تتعامل بمسؤولية بعد إعلان الواحدة والنصف من 21 آذار. ربما كان من المفروض تأخير الإشهار إلى العاشرة مساء والتنفيذ بعد ساعة، حتى لا يرفع مشهد أسواق نابلس وسواها احتمالات الإصابة بداء الكاف..
(12)
من الجوانب الإيجابية لحظر الحركة، والبقاء في البيوت، عودة قطاعات لا بأس بها إلى الأرض والحديقة المنزلية، والبدء في ممارسات الاكتفاء الذاتي والاعتماد على الذات، بإعداد الخبز، والأطباق التراثية من البقوليات والنباتات البرية. نأمل الإبقاء على العلاقة مع الأرض وعدم هجرها في كل الظروف.
aabdkh@yahoo.com