خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصوير محمد ضبابات
ولد محمد ضبابات في طوباس خلال شتاء 1983، وكان المرافق الدائم لجده الراحل جميل يوسف الحصني. وبحكم قربه من الجد المحب لأرضه، فقد تعرف في وقت مبكر على تفاصيل الأغوار الشمالية، وأقام فيها أوقاتًا طويلة، وقضى ليله ونهاره، وصار ملمًا بوديانها، وعرف أزهارها، وينابيعها، وكل أسرارها.
كبر محمد وزاد شغفه بالأغوار، حتى بعد رحيل جده عن الدنيا، وزياده التزامات أعباء شاب تزوج وعمل شرطيًا، وصار أبًا لثلاثة أطفال.
وقال، وهو يلاحق بعدسته مشاهد الربيع المبكر، إنه يحرص على التنقل الأسبوعي في جبال الأغوار ووديانها وخربها، فهذه المنطقة "تسري في دمه"، ويكفيه أن يكحل عيونه بشجرة رتم صغيرة، أو جدول صغير من عين الحلوة، أو إطلالة على تل الحمة، أو مسير إلى وادي الفيران، أو صعود إلى خربة المزوقح.

حجل فلسطيني-تصوير صور ضبابات
وصية وتوثيق
رهن محمد نفسه للأغوار، وطور شغفه من وصفها والتنقل فيها، وحفظ وصية جده بعدم هجرتها إلى توثيق الحياة البرية فيها، فبدأ بكاميرا متواضعه يلاحق ربيع المنطقة، ويوثق ألوانها الساحرة، ثم صار اليوم محترفًا بعين مهنية ترصد رشاقة غزال الجبل، وتنقل بدقة أهداب شجرة الرتم المغرم بها، وتتبع جريان وادي اللصم، وتراقب أسماك عين الساكوت.
ووصف ضبابات أقصى نقطة استطاع الوصول إليها من خربة المزوقح، وقال إنه جنة على الأرض، لكنها منسية، وفي كل عام يزداد تصييق الخناق عليها أكثر. و"أخشى أن يمنعونا منها".
وأفاد بأنه يذكر جيدًا وصية جده، الذي كان يسكن في المزوقح قبل عشرين عامًا، بأن لا يهجر هذه الأرض. وأول ما يذكره حينما يسمع بالمنطقة جده وشجرة الرتم، التي تتحول إلى شيء مذهل في آذار ونيسان. "إنها منطقة خُرافية".

غزال فلسطيني- تصوير محمد ضبابات
"محميات طبيعية"
وتفاخر ضبابات بكونه "الساعد الأيمن" لجده، الذي كان يرعى قطيع أبقار من نحو 500 رأس، ويشد الرحال من سكنه في المزوقح إلى أن يصل الحدود الأردنية، فهناك العشب الوفير والماء والخبايا. وخلال التجوال كان يسبر غور تلال الخربة، ويشاهد أرضها الملونة، ويتعرف على حيواناتها وطيورها، فصار يميز الضبع والذئب، ويعرف الجوارح، ويلم بتفاصيل غزال الجبل الفلسطيني، وبات يعرف موقع أزهار العكوب والزعتر .
والمفارقة المحزنة التي قدمها ضبابات، أن الخربة "صارت محرمة، ويدخلها خلسة؛ بفعل مستوطن واحد يمنعه ويحرم الآلاف من الوصول إلى المنطقة"، أما رواية الاحتلال الرسمية فإنها "محمية طبيعية"، ومع ذلك يضع لافتة تشير إلى أنها منطقة تدريب عسكري وحقول ألغام".
وبخلاف معظم الرعاة والشبان، صار محمد صديقًا للطيور والحياة البرية، وبدلًا من تعلم طرق صيدها والإيقاع بها في شراكه، بدأ يصطداها بعدسته، ويوثق اسمها العلمي، وينشر صورتها عبر الإعلام الاجتماعي، ويساهم في الدعوة إلى تنظيم مسارات بيئية لاكتشاف المنطقة، والتمتع بزخرفها: طيورها ونباتها وشجرها وإطلالتها على نهر الأردن.

فريق محمد ضبابات
حرب وعكوب
وانتقل محمد إلى خربة السويدة، التي كانت تجمعًا ظل لسنوات في الشريط الشرقي للضفة الغربية، إلى أن صار جزءًا من محمية طبيعية مفترى عليها، وتشهد ملاحقة الاحتلال لكل من يصلها من رعاة ومستجمين، والفرية الوحيدة: حماية العكوب وغزال الجبل والحجل من الصيد والقطف، أما هو فيدمر المنطقة، ويحولها إلى "ساحة حرب"!
وتنتشر شجرة الرتم، التي وقع ضابات في حبها، في مناطق السفوح الشرقية والأغوار والبحر الميت وغزة. وهي متساقطة الأوراق تزهر في شهر تموز، تنمو في جميع أنواع الترب، وتتحمل الجفاف، وتمتاز برائحة زهر ساحرة، تميزها عن غيرها كما قال.
التحق محمد بالعمل في جهاز الشرطة، قبلها نال الدبلوم المهني المتخصص في العلوم الشرطية من جامعة الاستقلال. ولا تكتمل سيرته الذاتية إلا بمحب الأغوار ومصور تنوعها الحيوي. وتعلم من تصوير الحياة البرية، الصبر وطول النفس، إذ يمضي قرابة ساعتين أو أكثر لالتقاط مشهد طائر واحد، يوثقه بعدسته، ويميزه من صوته، ثم ينقله وينشره باسم علمي وإنجليزي وشعبي على الشبكة العنكبوتية.
وواجه محمد عقبات كثيرة في توثيق بيئة الأغوار وتنوعها الخلاب، والسبب الاحتلال فالتصوير في المنطقة مترامية الأطراف تشوبه مخاطر الاعتداء من الجيش والمستوطنين المسيطرين على العديد من المناطق البرية.

محمد ضبابات يصور مواقع أمنية حساسة ومدمرة للبيئة الفلسطينية
"مزوقح" و"السويدة"
وأكثر ما يسر ضبابات التقاط صورة لغزال الجبل والحجل، والوصول إلى خربتي المزوقح والسويدة، والتوغل في وادي الفيران، ويؤكد أن بيئة الأغوار اختلفت بشكل كلي بفعل التوسع الاستيطاني، وانقرضت أعداد كبيرة من الطيور، خصوصًا المهاجرة منها، وأصبح غزال الجبل الفلسطيني مهددًا بسبب حقول التدريب ومعسكرات الرماية الحية، كما جفف الاحتلال غالبية ينابيع المياه.
وقال: أنشر ما أرصده على "فيس بوك"، و"إنستغرام" وثلاثة مواقع عالمية عبر الإنترنت متخصصة بالطبيعة والطيور، ولا أسعى إلى أي عائد مادي، و"همي الوحيد إيصال صورة الأغوار وجمالها إلى كل عين."

محمد ضبابات
وكان محمد أحد الشهود على ما واجه الأغوار طوال عقود من تهويد، فرصد عطشه، ونهب أرضه، وواسترد تدمير قراه بأكملها كالساكوت، والدير، وقاعون، وميحان السمن، وجباريس، وشاهد تحويل جباله وسهوله إلى معسكرات رماية دائمة، واستمع إلى إدعاءات تحويل مساحات شاسعة منه إلى "محميات طبيعية"، ويعيش اليوم مساعي ضمه، بعد ما يسمى بـ "صفقة القرن".
وأسدل الستار على حديثه: "دقيقة واحدة في قمة المزوقح، أو تحت شجرة رتم مزهرة في السويدة، ترد الروح، وتساوي العيش في أي مكان جميل في الدنيا."
aabdkh@yahoo.com