إغراق شرق غزة بالمياه والمبيدات... سلاح إسرائيل الجديد ضد الفلسطينيين ومزروعاتهم
تؤكد مؤسسات حقوقية أن رش المبيدات الإسرائيلية من الجو يؤدي إلى انتهاك حقوق إنسان أساسية ومخالف للقانونين الإسرائيلي والدولي، ولا يوجد أي مبرر أو أي أساس قانوني للاستمرار بهذه الممارسة الهدامة التي تلحق أضرارا بالغة وغير معيارية بسكان القطاع والمحاصيل الزراعية. إن رش المبيدات حقيقة معلومة لا يغطيها كذب المواقع الإسرائيلية ولا يحجبها أو يبررها عاقل، وهي تحدث كل عام بمعدل ثلاث مرات على أقل تقدير سنوياً، وتتم في الخريف والشتاء والصيف؛ فوق الأراضي الفلسطينية المزروعة؛ وقبل حصادها بفترات قليلة. ويعتبرُ إغراق الأراضي بالمياه أو رش المحاصيل بالمبيدات سياسة متكررة من قبل الاحتلال، تهدف بالدرجة الأولى إلى تدمير البنية الزراعية، وإحداث خلل في "الأمن الغذائي" في قطاع غزة، لاسيما وأن المنطقة الشرقية تعد بمثابة السلة الغذائية للقطاع.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية / غزة
 |
ثمار شرق قطاع غزة ملوثة بالمبيدات الكيميائية التي رشها الاحتلال عمدا |
قبل بضعة أيام من المنخفض الجوي في أواسط كانون ثاني الماضي، وعد المزارع عبد الكريم حبيب أطفاله بتنظيم رحله ترفيهية عندما يجني محصول البقوليات من أرضه، لكن فتح السلطات الإسرائيلية لسدود تجميع مياه الأمطار؛ أغرق أرضه ودمر المحصول الذي يعد مصدر الدخل الوحيد له ولأسرته، فأحبطت كل الآمال بموسم مربحٍ.
وخلال أواسط كانون ثاني الأخير، فتحت السلطات الإسرائيلية ثلاث مرات سدود وعبارات مياه الأمطار قرب الحدود شرقي غزة، ما تسبب في تدمير محصول المزارع حبيب، وعشرات المزارعين من أقرانه بحسب ما ذكرت وزارة الزراعة في القطاع الساحلي المكتظ بالسكان.
يمتلك حبيب 12 دونماً شرق مدينة غزة وكان على وشك قطف محاصيل الزهرة والملفوف والفول واللفت، لكن المحصول أصبح أثرًا بعد عين؛ بعدما تحول حقله إلى بركة مياه. وحتى محصول القمح والشعير الذي بذرة حبيب (52 عاماً) قبل بضعة أسابيع؛ فقد جرفته المياه ولم يتبقَ منه شيء.
يقول الرجل الخمسيني لـ"افاق البيئة والتنمية": "الاحتلال دمر كل شيء هنا وحوّل حياتي إلى جحيم .. ".

حقول شرق قطاع غزة ملوثة بالكيماويات الإسرائيلية
يضيف الرجل الذي كان يغوص بأقدامه وسط الحقل "حتى عائلتي ستعيش خلال الأشهر المقبلة ظروفاً صعبة، لأن هذا الحقل هو مصدر دخلها الوحيد؛ ومنه كنت أوفر لعائلتي كل شيء".
دأبت السلطات الإسرائيلية على مدى العقدين الأخيرين التخلص من فائض مياه الأمطار من خلال تصريفها إلى قطاع غزة دون تنسيق مسبق؛ في خطوة تهدف إلى تصحر المنطقة الحدودية مع القطاع. ليس ذلك فحسب بل دأبت تلك السلطات إلى رش الحقول قرب الحدود بمبيدات قاتلة من الجو.
اتهمت ثلاث منظمات حقوقية تنشط في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وإسرائيل؛ السلطات الإسرائيلية بالعمل على تدمير المحاصيل الفلسطينية بشكل متعمد وتسميمها، الأمر الذي من شأنه تهديد حياة مليوني فلسطيني يعيشون في القطاع الذي تبلغ مساحته 360 كيلومترا مربعاً.
ووفق تلك المنظمات الثلاثة فإنه قبل العام 2000، كانت تضم الأراضي عبّارات للتحكم بمياه الأمطار، إلا أنه بعد تجريفها من قبل الاحتلال؛ فقدَ القطاع مجرى المياه؛ وباتت الأراضي مكشوفة للغرق بفعل فتح السدود التي بناها الإسرائيليون لمنع وصول المياه إلى أراضي القطاع.
 |
 |
محاصيل ورقية شرق قطاع غزة أتلفها الاحتلال بالمبيدات الكيميائية |
محاصيل تالفة شرق قطاع غزة اثر تعرضها للرش الكيماوي من قبل الاحتلال |
وسائل مدمرة
يقول المزارع غسان خليل الذي دُمرت مزرعته بفعل غمرها بمياه الأمطار من قبل السلطات الإسرائيلية: إنهم يحاربون المزارعين بمختلف الوسائل المدمرة والقاتلة".
ويوضح خليل (49 عاماً) أن حقله الذي تبلغ مساحته 17 دونماً، تعرض للرش بالمبيدات من قبل طائرات إسرائيلية يومي (14-15) يناير / كانون ثان الجاري، وذلك قبيل غمره بسيول مياه الأمطار.
ووفق حبيب، فإن عملية الرش يسبقها إشعال جنود الاحتلال إطارات تصدر دخاناً أسود لمعرفة اتجاه الرياح.
مشيراً الى انه تكبّد خسائر تجاوزت الـ17 ألف شيقل إسرائيلي (نحو 5 آلاف دولار أمريكي).
يقول الخبير الزراعي م. نزار الوحيدي، إن رش المبيدات حقيقة معلومة لا يغطيها كذب المواقع الإسرائيلية ولا يحجبها أو يبررها عاقل، وهي تحدث كل عام بمعدل ثلاث مرات على أقل تقدير سنوياً، وتتم في الخريف والشتاء والصيف، وذلك فوق الأراضي الفلسطينية المزروعة وقبل حصادها بفترات قليلة.
ويشير الوحيدي إن عملية الرش بالمبيدات تسبب حالات تسمم وخسارةً للمحصول، وهذا الأمر موثّق في وزارات الصحة والزراعة والاقتصاد، ولدى سلطة البيئة، وتعلم عنه مؤسسات دولية.
وتساءل المختص الزراعي: "لماذا يتم رش المبيدات بينما المحاصيل مزروعة في أرضنا؟... أعني داخل السياج الذي يحاصر غزة. ولماذا يتم رش المبيدات فقط في الصباح وحين تكون الرياح متجهة من الشرق إلى الغرب؟ الجواب طبعا هو لضمان وصول جميع المبيدات إلى أرضنا ومنازلنا... وعدم وصولها إلى مزارعهم".

غرق الأراضي الزراعية شرق قطاع غزة إثر فتح سدود المياه من قبل الاحتلال الإسرائيلي وتكبيد المزارعين خسائر موسم بأكمله
مخاوف من أمراض مستعصية
وعزا الوحيدي ارتفاع نسب إصابة السكان بمرض السرطان في مناطق التماس؛ إلى استمرار الرش بالمبيدات السامة من قبل الاحتلال، لاسيما وأن المنطقة المستهدفة تزيد مساحتها عن 25% من مساحة الأراضي الزراعية في القطاع.
وقال: "هذا يشكّل تهديدا مباشراً وخطيرا على "الأمن الغذائي" برمته، فهل هذا مسموح به أو تقبله الأعراف والأخلاق أو القوانين العالمية والقيم الإنسانية التي أقرتها الأمم المتحدة، إن جاز لنا أن نستعين بها، فمواقفها ونتائج تقاريرها لا تشجعنا على الوثوق بها فيما يتعلق بإدانة الاحتلال؟"
ويؤكد تقرير حقوقي أصدره مركز الميزان لحقوق الإنسان "غزة" وﭼيشاه – مسلك" "وعدالة" في الداخل المحتل"، أن عمليات رش المبيدات التي تقوم بها قوات الاحتلال على حدود قطاع غزة؛ ألحقت أضراراً بالغة بالحقول والمزروعات، وقد رصد المركز قيام (إسرائيل) خلال الخمس سنوات الماضية؛ بثلاثين عملية رش من الجو بالقرب من السياج الفاصل مع قطاع غزة.
ووفق تقرير المؤسسات الحقوقية، فقد شرعت الطائرات الإسرائيلية صباح الثلاثاء 14 كانون ثاني الماضي، برش المبيدات الكيميائية من الجو في المناطق القريبة من السياج الفاصل شرقي قطاع غزة".
وذكر التقرير أن عمليات الرش تواصلت لمدة 3 ساعات ونصف الساعة تقريباً، في اليوم الأول، وطالت الأراضي الزراعية في المناطق الشرقية الممتدة من شمال شرق البريج في محافظة الوسطى، وشرق محافظة غزة، وشرق مدينة بيت حانون في محافظة شمال غزة.
وعاودت الطائرات الإسرائيلية صباح الأربعاء الـ 15 كانون ثاني عمليات الرش، وطالت المناطق التي كانت قد رشتها صباح الثلاثاء. كما أنها وسعت رقعة الرش في المحافظة الوسطى حتى شرقي مدينة دير البلح، واستمرت عمليات الرش حتى الساعة 11:00 من صباح ذلك اليوم بحسب المؤسسات الحقوقية .
وبحسب مزارعين فلسطينيين كانوا يعملون في أراضيهم الزراعية يوم الـ 14 من كانون ثاني الماضي؛ فإن قوات الاحتلال أشعلت عند نحو الساعة الـ 7:20 من صباح اليوم نفسه ناراً كانت تصدر دخاناً أسود في الجانب الإسرائيلي شرق السياج الفاصل لمعرفة اتجاه الرياح، وهي عملية تقوم بها قوات الاحتلال دائماً وتسبق عمليات الرش.

وزارة الزراعة تتلف مزروعات شرق قطاع غزة اثر تعرضها للرش الكيماوي من قبل الاحتلال
أضرار الرش
يؤدي الرش بحسب مزارعين فلسطينيين وتقرير مركز الميزان لحقوق الإنسان "غزة" وﭼيشاه – مسلك" و"عدالة"، إلى أضرار عشوائية وغير محسوبة، حيث لا تستخدم إسرائيل تقنيات للرقابة على تأثير الرياح، وأنه بسبب ذلك لا يمكن السيطرة على انتشار المواد أو التنبؤ بحجم الضرر الناجم عن عمليات الرش للمحاصيل على مناطق رعي المواشي، وعلى الأرض، وعلى المزارعين وسكان المنطقة بشكل عام.
وتؤكد المؤسسات الحقوقية أن رش المبيدات من الجو يؤدي إلى انتهاك حقوق إنسان أساسية تخالف القانونين الإسرائيلي والدولي، مضيفًا إنه لا يوجد أي مبرر أو أي أساس قانوني للاستمرار بهذه الممارسة الهدامة، التي تلحق أضراراً بالغة وغير معيارية بسكان القطاع والمحاصيل الزراعية.

غرق الأراضي الزراعية شرق قطاع غزة إثر فتح سدود المياه من قبل الاحتلال الإسرائيلي
سياسة متكررة
يقول المختص في الشأن الزراعي م. محمد أبو عودة إن اغراق الأراضي بالمياه أو رش المحاصيل بالمبيدات سياسية متكررة من قبل الاحتلال، هدفها بالدرجة الأولى تدمير البنية الزراعية وإحداث خلل في "الأمن الغذائي" في قطاع غزة، لاسيما وأن المنطقة الشرقية تعد بمثابة السلة الغذائية للقطاع.
ويوضح أبو عودة أن عمليات الرش تجرى بشكل مفاجئ ودون تحذير أو إنذار مسبق، وتكون في الغالب في الجانب الإسرائيلي من السياج الشرقي الفاصل، وفي بعض الأحيان تقوم بعمليات الرش داخل أراضي القطاع.
ويبين أن كلاً من عمليات الرش أو إغراق الأراضي بالمياه خطر كبير يلحق الضرر بالمزارعين وبالثروة الحيوانية و"الأمن الغذائي" كما أنها تتسبب بضياع مواسم زراعية بأكملها، لافتاً إلى أن السلطات الإسرائيلية تستخدم في كل عملية رش مبيدات خطرة مغايرة في تركيبتها عن سابقتها، مما يصعّب عملية مواجهة تلك المبيدات من قبل المؤسسات ذات العلاقة، حيث يصعب عليها توفير المصل المجابِه لها.
ويتكبد المزارعون الفلسطينيون خسائر كبيرة جراء هذه الممارسات، من خلال ما تخلفه عمليات الرش من تدمير للمحاصيل، سيما وأن ما يتم زراعته على الحدود هو الخضروات الموسمية؛ اذ منع الاحتلال زراعة الأشجار بحجة الحالة الأمنية، يقول أبو عودة.
وتابع قائلاً: "حتى الاشجار إن وجدت فإنه نتيجة إغراق الأراضي بالمياه فتختنق الجذور بعد فترة زمنية، وتتلف الأوراق نتيجة الرش".
ويضيف المختص أبو عودة: إن الاراضي التي تعرضت للغرق تحتاج إلى فترة زمنية (كي تتعافى جزئيا) قد تمتد حتى منتصف شهر آذار القادم ويعمل المزارعون على ترميم ما يمكن من أراضيهم، مبيناً أن آثار بعض المبيدات سريع الظهور، وبعضها الآخر يستمر على فترات؛ ما يشكل خطراً حقيقياً على التربة وعلى الثروة الحيوانية.
ووفق إفادات جمعها معدُّ التقرير؛ فإن طائرات الرش الإسرائيلية تكون على ارتفاعات منخفضة، وتصل في بعض الأحيان إلى مستوى 20 متراً فوق سطح الأرض، ويصل رذاذ رش المبيدات إلى عمق يتراوح ما بين (700 -1200) متر داخل أراضي قطاع غزة. وتتكرر عمليات الرش خلال فترتين سنوياً (نهاية كانون الأول أو بداية كانون الثاني- وشهر نيسان)، وهي بداية زراعة المحاصيل الشتوية والصيفية.
وبحسب تقرير مركز الميزان لحقوق الإنسان "غزة" وﭼيشاه – مسلك" و"عدالة" تشير عمليات الرصد والتوثيق إلى أن قوات الاحتلال شرعت في عمليات الرش منذ العام 2014. وأن الأضرار الناتجة عن عمليات الرش طالت 7620 دونما من الأراضي الزراعية في قطاع غزة.
مخالفة القوانين
يؤكد مدير شبكة المنظمات الأهلية في غزة أمجد الشوا أن ما تقوم به قوات الاحتلال من عمليات رش للمزروعات وإغراق للأراضي الزراعية مخالف للقوانين، مطالباً المنظمات الدولية بالضغط على الاحتلال لوقف اعتداءاته على المزارعين، كما دعا كافة الأطراف من أجل التحرك الفوري لتوفير الدعم العاجل للمزارعين وتعويضهم عن الخسائر التي تعرضوا لها.
ونشرت وكالة الأبحاث اللندنيّة "فورنسيك أركيتكتشر" (بنية الأدلة الجنائيّة)، في تموز من العام 2019، تقريرًا جديدًا يقدم تحليلاً لعمليات الرش الجويّ لمبيدات الأعشاب التي قامت بها إسرائيل بين الأعوام 2014 حتى 2018.
ويعتمد التقرير بشكل كبير على أبحاث ميدانيّة ومعلومات نشرت في إطار جهود قانونيّة، قامت بها المؤسسات الحقوقيّة "ﭼيشاه – مسلك" ومركز الميزان لحقوق الإنسان ومركز عدالة على مدار سنوات. ويدعم البحث استنتاجات الجمعيات، ويقر أن عمليات الرش ألحقت أضرارًا بالغة بالحقول والمزروعات داخل أراضي القطاع، في حين كشفت وزارة الحرب الإسرائيلية في عام 2016 أن المواد المستخدمة في الرش الجوي هي: "جليفوسات، "أوكسيجال"، و"ديوريكس" (مبيدات عشبية). وبحسب الخبير البيئي جورج كرزم، فإن مبيدات الأعشاب التي يرشها الجيش الإسرائيلي على أراضي المزارعين في غزة، قد تبقى في التربة دون تحلل لبضع سنوات، كما أن استنشاق تلك المواد الكيميائية أو تناول المحاصيل الملوثة بها قد يتسبب بأمراض خطيرة. وبشكل عام، تعد مبيدات الأعشاب مسرطنة وقد تتسبب بتشوهات جينية وخلقية وتناسلية. وبحسب الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) التابعة لمنظمة الصحة العالمية، تعتبر مادة "الغلايفوسات" (المادة الفعالة في العديد من مبيدات الأعشاب المستخدمة من قبل الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين) تعتبر مسببة للأورام السرطانية لدى البشر؛ ومن الناحية الإحصائية الطبية الأميركية شكلت سرطانات الدم والعظام النسبة الأكبر من الإصابات الناتجة عن مبيد "الغلايفوسات.