عندما تعطش غزة...
كمية المياه التي يتم سحبها من المخزون الجوفي في قطاع غزة أكثر من ضعف حجم التغذية المائية الراجعة للمياه الجوفية والناتجة عن تسرب مياه الأمطار إلى باطن الأرض. كما أن التغذية المائية الراجعة آخذة في الانكماش بسبب التوسع العمراني في قطاع غزة الناجم عن التكاثر السكاني في منطقة جغرافية صغيرة جدا. الخرائط الهيدرولوجية لتركيز أملاح الكلورايد والنِترات (التي تشير إلى وجود تلوث كيميائي) في المياه الجوفية بقطاع غزة، تبين بأن الوضع المائي مرعب؛ ففي الغالبية العظمى لآبار المياه يتجاوز تركيز تلك الأملاح كثيرا المستويات المسموح بها في مياه الشرب. استخدام الاحتلال الإسرائيلي المياه سلاحاً للتلذذ المنهجي بتعطيش الفلسطينيين وإذلالهم، يهدف أساسا إلى تخليد تبعيتهم له، ليس فقط في لقمة عيشهم، بل أيضا في قطرة مياههم. بل، ويستخدم سلاح التعطيش أيضا لإخضاع الفلسطينيين وإرغامهم على الرضوخ للاحتلال ومشاريعه.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
 |
أطفال في جنوب قطاع غزة يعبئون مياه الشرب لمنازلهم من صنابير عامة في الشارع |
تفاقمت خلال الأشهر الأخيرة في قطاع غزة أزمة مياه الشرب والمياه العادمة المتفاقمة أصلا، وذلك لأسباب سياسية وأخلاقية تتعلق بالاحتلال الإسرائيلي بالدرجة الأولى، وبالسلطة الفلسطينية في رام الله بالدرجة الثانية. ويمكننا القول بأن عملية التعطيش المنظمة للناس هناك تسير على قدم وساق.
تقليص كمية الكهرباء المزودة لقطاع غزة لا يزال ساري المفعول منذ بضعة أشهر. وإحدى النتائج الكارثية لذلك هي إصابة محطات تنقية المياه العادمة هناك في مقتل، وبالتالي توقفها التام عن العمل. لذا، فإن أكثر من 110 مليون لترا (110 ألف م3) من المياه العادمة غير المعالجة تتدفق يوميا إلى شواطئ قطاع غزة، ما يلوث مياه البحر تلويثا رهيبا. كما تجري المياه العادمة في الوديان بالقطاع، وبالتالي تخترق الأرض لتصل إلى مياه الخزان الجوفي الساحلي الفلسطيني الذي يمر جزئه الجنوبي في قطاع غزة؛ علما أن هذا الخزان يعتبر مصدر مياه الشرب الأساسي لأهالي قطاع غزة.
التدفق اليومي لكميات ضخمة من المياه العادمة نحو بحر غزة يعد من أعراض أزمة متواصلة أكبر وأخطر في قطاع غزة، تتمثل أساسا في الحصار الإسرائيلي التجويعي المفروض على الأهالي هناك منذ أكثر من عشر سنوات، وبتواطؤٍ مصري رسمي. هذا الحصار الوحشي أرغم الغزيين على الاعتماد بقوة أكبر على الزراعة كمصدر للرزق والغذاء. ولضمان استمرارية زراعة المحاصيل تضخمت كثيرا عمليات ضخ المياه الجوفية، ما أدى إلى هبوط منسوب الأخيرة وبالتالي تدفق مياه البحر المالحة؛ وفي المحصلة ارتفاع تركيز الأملاح في مياه الشرب. كما أن العجز عن معالجة البنى التحتية لمياه الصرف الصحي، فاقمَ كثيرا تلويث المياه الجوفية.
وحاليا، كمية المياه التي يتم سحبها من المخزون الجوفي أكثر من ضعف حجم التغذية المائية الراجعة للمياه الجوفية (أي التغذية الناتجة عن تسرب مياه الأمطار إلى باطن الأرض). يضاف إلى ذلك، أن التغذية المائية الراجعة آخذة في الانكماش بسبب التوسع العمراني في قطاع غزة الناجم عن التكاثر السكاني في منطقة جغرافية صغيرة جدا (365 كم2)، ما يتسبب في تقلص المساحة التي تستطيع مياه الأمطار من خلالها التسرب نحو باطن الأرض.
الخرائط الهيدرولوجية لتركيز أملاح الكلورايد (Cl) والنِترات/NO3 (مركبات النيتروجين وبخاصة NO3 التي تشير إلى وجود تلوث كيميائي) في المياه الجوفية بقطاع غزة، تبين بأن الوضع المائي مرعب؛ ففي الغالبية العظمى لآبار المياه يتجاوز تركيز تلك الأملاح كثيرا المستويات المسموح بها في مياه الشرب (الخرائط منشورة مع هذا التقرير).
وكما يتضح من الخرائط الهيدرولوجية، فإن تركيز النترات في معظم مناطق القطاع أعلى من 50 ملغم/لتر، وفي مناطق عديدة يتجاوز التركيز 150 ملغم/لتر؛ بل يصل إلى ما بين 200 و500 ملغم/لتر فأعلى! معايير منظمة الصحة العالمية تحدد الحد الأقصى المسموح به لتركيز النترات بأقل من 50 ملغم/لتر.
أيضا تركيز الكلورايد، فهو في معظم مناطق القطاع أعلى من 250 ملغم/لتر؛ بل وفي مناطق عديدة يفوق أل 1500 ملغم/لتر ويصل إلى ما فوق 2000 ملغم/لتر! معايير منظمة الصحة العالمية تحدد الحد الأقصى المسموح به لتركيز الكلورايد بأقل من 250 ملغم/لتر.
للأسف، المواطنون في قطاع غزة لا يملكون خيارا سوى شرب المياه الملوثة التي ازدادت تلوثا مع تفاقم تدفق كميات هائلة من المياه العادمة خلال الأشهر الأخيرة. ومع استمرار الوضع الحالي سيتفاقم حتما تفشي الأمراض الناجمة عن شرب وملامسة المياه الملوثة.
ومما لا ريب فيه أن الاحتلال الإسرائيلي يتحمل المسؤولية الكبرى عن تدهور الوضع المائي الكارثي في قطاع غزة، باعتباره المزود الرئيسي للمياه والكهرباء ويملك السيطرة المطلقة على المعابر البرية والمساحات البحرية. لكن، ما لا يقل خطورة عن دور الاحتلال في الوضع المائي الحالي بقطاع غزة، هو العجز الفلسطيني الرسمي في رام الله وغزة عن إدارة البنى التحتية القائمة؛ فالانقسام والخلاف بين سلطتي رام الله وغزة حول مراكز القوة والسيطرة في القطاع يزيدان المشهد تعقيدا وخطورة. فقد بات معروفا أن الأزمة الكهربائية وبالتالي المائية الحالية في قطاع غزة، تفاقمت خلال الأشهر الأخيرة بسبب تقليص كمية الكهرباء التي تزودها إسرائيل لقطاع غزة، إثر طلب السلطة الفلسطينية برام الله ذلك، بهدف الضغط على سلطة حماس؛ وقد تجلى ذلك من خلال تخفيض سلطة رام الله لحجم الدفعات المالية التي تدفعها لإسرائيل مقابل تزويدها للكهرباء.
يضاف إلى ذلك، أن سلطات الاحتلال أعاقت طيلة السنوات الأخيرة، ولا تزال تعيق عمدا، اتخاذ قرار بالموافقة على إنشاء خط إضافي لتزويد الكهرباء، وتحديدا لغرض تمكين محطة التنقية في شمال قطاع غزة بالعمل. والحقيقة أن أزمة المياه العذبة والمياه العادمة تشكل تهديدا وجوديا لجميع سكان قطاع غزة.
 |
 |
تركيز النترات في المياه الجوفية بالمناطق المختلفة في قطاع غزة |
تركيز الكلورايد في المياه الجوفية بالمناطق المختلفة في قطاع غزة |
"الفضيحة" الأخطر
لقد حذرنا سابقا أكثر من مرة، من "الفضائح" الكثيرة التي تضمنتها الاتفاقات الإسرائيلية-الفلسطينية، والمتصلة تحديدا بقطاع المياه، إلا أن "الفضيحة" الأخطر تمثلت في ترك قطاع غزة يواجه لوحده الظلم والتعطيش المائيين الرهيبين المفروضين عليه؛ إذ "يجب" على القطاع، وفقا للاتفاقيات، أن يتدبر شأنه المائي لوحده وأن يعتمد فقط على المياه الجوفية الشحيحة داخل حدوده؛ ما أجبر الغزيين على الضخ المفرط للمياه؛ الأمر الذي تسبب في تسرب متواصل لمياه البحر ومياه الصرف الصحي إلى المياه الجوفية، وبالتالي، أصبح أكثر من 95% من المياه العذبة غير صالحة للشرب.
ما فعلته الاتفاقات الإسرائيلية-الفلسطينية هو شرعنة ما كان قائما من نهب إسرائيلي لمياه الأمطار المتدفقة في وادي غزة من جهة الأرض المحتلة عام 1948، من خلال الأحواض والمصائد المائية التي نصبتها إسرائيل على حدود قطاع غزة لمنع تسرب مياه الضفة إلى هناك.
استخدام الاحتلال المياه سلاحاً للتنكيل المنهجي والمنظم بالفلسطينيين والتلذذ بتعطيشهم وإذلالهم، يهدف أساسا إلى تخليد تبعيتهم له، ليس فقط في لقمة عيشهم، بل أيضا في قطرة مياههم. بل، ويستخدم سلاح التعطيش أيضا لإخضاع الفلسطينيين وإرغامهم على الرضوخ للاحتلال ومشاريعه. وفي هذا السياق، من المفيد التذكير بأنه أثناء حصار الجيش الإسرائيلي لبيروت عام 1982 نصح يتسحاق رابين زميله أريئيل شارون وزير الحرب الصهيوني آنذاك، بأن يبادر الأخير إلى قطع الماء والكهرباء عن بيروت الغربية وتعطيشها، بهدف إخضاع المقاومة الفلسطينية المحاصرة هناك. وهكذا كان، إذ تم قطع الماء والكهرباء لبضعة أسابيع أثناء الحصار.
أزمة المياه في غزة يمكن حلها، إلى حد بعيد، من خلال تطوير بنية تحتية مائية تربط غزة بسائر أنحاء فلسطين، أو على الأقل بالآبار الجوفية الغنية في الضفة الغربية، بحيث يتم تمديد خط مياه بين الضفة وغزة لتزويد الأخيرة بكميات كبيرة من المياه اللازمة لتغطية العجز المائي الخطير والمتزايد مع زيادة النمو السكاني.