يا حارس الأرض والروح، وداعًا...
الحاج المرحوم محمد يوسف خلف
تبدو المهمة الأصعب في حياتك رثاء والدك الحبيب، فالأمر خطب، واليد مرتجفة، والقلب يبكي. كاستهلال، تقاوم تصديق فكرة رحيله عن الدنيا، وتتحايل على الحقيقة المرة بغير طريقة. بعد أسبوع واحد من الرحيل العلقم، تسترد آلاف الصور للأب الذي أحب الأرض بجنون، وعشق الزيتون لأبعد حد.
تكتب كلمات مبللة بالدموع، وتحرق قلبك وكبدك. تتخلى عن قواعد النصوص وألوانها، فالمعلم، وخط الدفاع الأول، وحارس الأرض يستحق ذلك الخروج، وقبلها الاعتراف بأن الوفاء له لن يتحقق بكلمات جوفاء، وحروف لا طعم لها.
كل شيء يفتح وجعك: الأمكنة التي تنقل بها والدك، الأوقات التي رافقته بها، الحصاد وطرائفه، الشتاء ووصفه، الصيف وحره وتعليقاته، القصص العديدة، الوجع الثقيل، القهر المستدام، الابتسامة، الإصرار، التماسك، سرعة الغضب، أزهار الأرض البرية، الدروب المعهودة التي سار بها، الأسئلة المتكررة لك عن مواعيد الشتاء، وعملك، وأطفالك، تشبيهاته الجميلة، ضحكاته، كل شيء.
في الخامسة من مساء الخميس الأسود، السابع والعشرين من نيسان الثقيل، وفي اليوم 117 من العام القاتل، توقف قلب العاشق عن العزف. كان انقطاعًا مؤلمًا، والبداية التي تجعل فؤادك يخرج من مكانه، استعصاء فهمك لفيزياء والدك وحركته نحو الأرض، ومدى مقاومته للوجع: فالأب ابن العقد التاسع يعاني أوجاعًا قاهرة، وانتصر قبل إحدى عشرة سنة على سرطان أراد التسلسل من بوابة الأوتار الصوتية، التي صدحت خلال سبعين عامًا من العمل لناظم الغزالي، ولفرقة العاشقين.
الحاج المرحوم محمد يوسف خلف في شبابه
في الطفولة، كنت أظن أن والدي يبالغ في الارتباط بالنجمة، وبلعمة، والورادنية، ووطاة أبو غازي، وجبل أبو ظهير، والعمارة الشرقية، وزيتونات أسعد، والبياضة، والمرج التحتاني، وزيتونات الختيارة، والبيدر، وحاكورة أبو صالح.
عجزت عن فهم ذهاب وإياب الحبيب إليها، وإسرافه في العناية بها. كان يعتبرها كالروح، ويطيل التنقل بينها، ويكرر حراثتها، ولا يعجبه عملنا في نقشها، وإزالة أعشابها، فرغبته الجارفة أن لا يرى الأعشاب البرية والشائكة في الحقول، وأن نزيل الصخور والحجارة، كان بغضب المحب يأخذ الفأس منا، ويعلمنا الصواب.
قبلها، تنفتح أبواب الذكرى على مصراعيها، فمن روايته، وقصص أمي، وما شاهدنا بعضه بعيوننا، عمّر الحاج محمد يوسف خلف معظم الأرض بيديه، وكثّر غراسها بجمع الفسائل، وفتت صخورها، وقهر أشواكها، ومهد طرقاتها، ودفع الكثير من المال للجرافات لما عجز عن تفتيته، فقد كان يطيل تشغيلها، ويشعر بالمتعة في سماع صوتها وهي تطحن الصوّان.
أما أدوات المحب للأرض: فأس، ومطرقة كبيرة (مهدّة)، وعتلة (كان يسميها بينسة)، وأزميل، وحمار، وعربة، ومحراث، وقبل ذلك كله إرادة تعلو الفولاذ، وفي قلبه حب جارف.
وفي إحدى المرات، لم أستوعب أول الأمر رغبته في نحت درج بالصخر للوصول إلى "الصفحة" المنطقة الوعرة، فالمكان عام بمعظمه، ولا يقود إلى أرضنا وحدنا، لكنها أرادة التطوع لإنعاش المنطقة برمتها، ثم سرعان ما دأب على شق طريق للجبل كله، وكان يحذر الرعاة من الرعي الجائر.
تتلون دلائل انصهار عمدة أرواحنا بالأرض، فقد أمضى فيها معظم عمره. كان يسرد لنا، ونحن نتحلق كانون النار القصص الجميلة، ويحدثنا عن البيادر، والجرار الآلي الذي اشتراه وأعمامي، وصفقات شراء الأراضي، ومئات المواقف التي لا تخلو من حكمة وقوة، ووثقت أيضًا للنكبة والنكسة وللجيش العراقي، والحرس الوطني.
مما يلتصق بجدران ذاكرتنا، كيف بدأ والدنا –رحمه الله- في كتابة علاقته بالأرض في سن مبكرة، فقد آثرها على التعليم، فترك مقاعد الدراسة في الصف الرابع الابتدائي، وتعلم فنون حراثتها، وتعميرها، وكان يمضي العام كله فيها، فيهجر البيت منذ مطلع الربيع ليعود مع نهايات الخريف وبدايات الشتاء.
الحاج المرحوم محمد يوسف خلف امتلك حبا جارفا للأرض التي أمضى فيها معظم عمره
حرث والدي حقوله وزرعها ونام فيها آلاف المرات، وغرس الزيتون، ولم يفضل اللوز والتين والعنب، واعتاد زراعة البطيخ، والسمسم، والقمح، والحمص، والذرة البيضاء. واشترى العديد من الأراضي، ورفض بيع شبر منها، واعتبر التفريط بها خيانة، وانتقد البناء فيها، وتعامل مع غياب زراعة القمح، وتخزينه، وعجنه، وخبزه تحولاً قاتلاً.
امتلك والدي فكره الزراعي الخاص، وفرح كثيراً حين خرجت الماء من جوف أرضه، ورفض شراء الأراضي القريبة من المدينة أو الطرقات الرئيسة، وفتش عن الخصبة والزراعية الهادئة، ولم يهضم حقوق من عمل معه.
وكان له قاموسه الخاص، وتقاليده الجميلة، أما شغفه المحبب فالعمل المتواصل في الحقول، وسؤاله الدائم عن الزيتون، وحتى حين تسلل إليه المرض، كان يبتسم إن أعلمناه أننا نشتغل في الأرض.
في يوميات والدي المكتوبة توثيق لمواعيد الزراعة، والحراثة، وقطاف الزيتون وعصره، ورصد لحالة الطقس، وإشارة للراحلين عن الدنيا. أما في تاريخه الشفوي قصص عذبة معظمها تتصل بالأرض، أو وصلت إليها من رفاق المحراث.
حفر والدي آبارا عديدة لجمع المياه، ولم تكن زراعة الأشجار غير المثمرة تروق له، وكرر لنا" شجرة بلا ثمرة حلال قطعها"، وكان يسألني دائماً عن الحالة الجوية القادمة، وحينما يشاهد مُقدّم التوقعات الجوية في التلفزيون الأردني يحمل مؤشرًا ويلاحق خريطة تشير لمنخفض مطري يفرح، أو يقول: "العصاة اليوم مش نافعة"..
في مشيته الأخيرة، أحب الذهاب إلى مسكن حفيده علي، فعاد متعبًا، كان وجعه يختلط بالفرح، فها هو حفيد جده سيتزوج في الصيف.
غاب أبي قبل أن تأتي ليلة النصف من شعبان، المحطة التي كان يتذكرها كل عام، ويقول:" الليلة ستسقط أوراق البشر، وسيكتب الله من سيموت أو سيبقى للعام القادم". بعد هذا الرحيل، ستمضي في مهمتين: المشي في طريقه، والترحم على روحه الطاهرة. لكنك لا تنكر دموعك التي لا تتوقف مع كل مرور في دروبه، أو استحضار سيرة كفاحه.
aabdkh@yahoo.com