صهاريج المياه في الأغوار التي لم تنج من عدوان جيش الاحتلال
خاص بآفاق البيئة والتنمية
تنطلق حافلة الصحافيات الصغيرات في يوم ربيعي حار صوب الأغوار الشمالية. على حواف الطريق يمكن التقاط مفارقات عديدة: خيام فلسطينية محاطة بصهاريج لجمع المياه، ومستعمرات ومعسكرات للاحتلال يغلب عليها اللون الأخضر، أما أنابيب المياه فتمر نحو المستوطنات متجاوزة البيوت المتنقلة.
المياه عملة نادرة جدا في الأغوار الفلسطينية
أمضت سديل ووعد وفاطمة دراغمة، وبيلسان ضبابات، وضحى خراز، وأماني عطية، وأحلام وإكرام صوافطة، ويمنى محمود، وتمرهان بيكاوي، ورحيق محمد، وهالة وهامة فواز، ومرام الطيطي يومًا طويلًا في الأغوار الشمالية، وعكفت الزهرات اللواتي يشكلن فريق "الصحفيات الصغيرات" على إنتاج فيلم وثائقي يلاحق نهب الاحتلال الإسرائيلي للمياه.
وتجولن في ينابيع: المالح، والحمة، وجمعن شهادات حيّة من مواطني التجمعات البدوية في المالح، وخلة حمد، والحمة، الذين تمر المياه من تحت أقدامهم، ويعجزون عن شربها، فيما تقابلهم مستوطنات وحقول إسرائيلية خضراء.
صحافية صغيرة تساهم في الفيلم الوثائقي الصغير حول سرقة إسرائيل لمياه الأغوار
ماء مُحتل
تدشن سديل دراغمة الفيلم الوثائقي القصير، وتقول وخلفها بقايا عين جافة: "هنا الأغوار المنهوبة، الماء محتل تماماً كالأرض. نرسم لكم في هذا الفيلم صورة للعطش الفلسطيني بالتزامن مع يوم المياه العالمي."
وتبدو المؤثرات الصوتية للصغيرات حزينة، وتنسجم مع عين الحمة الذي يوشك على الجفاف، فيما يمنع الاحتلال محاولة تأهيله.
وقال مسؤول ملف الأغوار في المحافظة معتز بشارات: "عين الحمة موجودة قبل الاحتلال، وكانت هناك عشرات العائلات الفلسطينية فيها، وحالياً يسيطر الاحتلال على هذه النبعة."
وأفاد منسق المشاريع في مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين كنعان السودة: "قبل الاحتلال كانت عين المالح مليئة بالماء، وكان المواطنون يشربون، ويزرعون، ويسوقون أغنامهم، ولا زالت أشجار النخيل شاهدة على الحياة، وكانت نباتات النعناع، والحويرنة، ونباتات مائية أخرى، لكن حاليًا لم نعد نجد قطرة ماء واحدة، والناس يعانون قلة المياه."
صحافية صغيرة من طوباس تجري مقابلات مع أهالي الأغوار الفلسطينية
مطاردة ساخنة
وأشار رئيس مجلس المالح والمضارب البدوية عارف دراغمة إلى أن الاحتلال عام 1967 بدأ بحفر آبار بعمق 400 متر في الأغوار الشمالية، وجفف في العام الماضي 26 نبعة في المنطقة.
والمفارقة التي قدمها دراغمة أن المتر المكعب الواحد من المياه في الأغوار يصل المستوطنة بمبلغ زهيد، ويحتاج مواطنو خربة حمصة إلى 40 شيقل لتأمينه!
ومما قاله السودة، فإن الاحتلال الإسرائيلي جفف ينابيع الأغوار بعد وقت قصير من احتلال الأغوار عام 1967، وبات يسيطر على 97% من الحوض الغربي، و85% من الشمالي الشرقي، و50% من الحوض الشرقي، ويُحرم أبناء شعبنا من مياه نهر الأردن، التي كانت تضخ 200 مليون متر مكعب سنويًا، في وقت أصبح المواطن في الأغوار يستهلك بالمتوسط 30 لترًا يوميًا، و10 لترات في تجمعات أخرى، مقابل سبعة أضعاف ينهبها المستوطنون والجنود، وأحيانًا 10 أضعاف.
وأشار إلى أن ثمن الكوب الواحد يكلف المواطنين مبالغ كبيرة تصل أحيانًا الى 50 شيقلاً، موضحًا أن جنود الاحتلال يستهلكون 370 لتر ماء في اليوم، بسبب التدريبات العسكرية وطبيعة المنطقة الحارة صيفًا، أما المواطنون فيعطشون أو يشربون بالقطّارة.
وبيّن بشارات أن الأغوار الشمالية تضم 23 تجمعا فلسطينيًا، وبدأ نهب مياهها بعد وقت قصير من الاحتلال، الذي يشن حربا ضد المزارعين والمواطنين الذين يحفرون آبارا لجمع مياه الأمطار، كما تلاحق الصهاريج الساعية إلى مد التجمعات بالمياه، وتفرض غرامات باهظة على أصحابها، وتصادرها في بعض الأحيان، ولا ترحم الخطوط الناقلة من المصادرة والتخريب.
وأضاف: "كان وادي المالح يشبه حمامات "ماعين" الأردنية، وظل يتدفق حتى جف تماما عام 2013، فيما أكدت أرقام "الهيدرولوجيين" أن تدفقه وصل إلى 25 متراً مكعباً في الساعة الواحدة عام 1996، ثم تراجع إلى أن اختفى.
من الفيلم الوثائقي حول عطش الأهالي في الأغوار الفسطينية
عيون مُلاحقة
وأفاد بأن عين الحمة لم تسلم من ملاحقة أوامر الاحتلال الإسرائيلي بمنع ترميمه، وهو نبع كان مشهورًا بمياهه المعدنية العلاجية، يقع في الجنوب الغربي لقرية عين البيضاء، ويبتعد عنها نحو كيلو متر واحد، ويجاور التل الذي يحمل الاسم ذاته، ويحاط بكردلا وخلة حمد والفارسية وبئر الزعبي وقرية جباريس المُدمرة، فيما كان تدفقه يتجاوز كل ساعة العشرين مترا مكعبا، لكنه اليوم فقد نحو 60% من قدرته؛ بفعل نهب الاحتلال لجوف الأرض في الأغوار، وحفره لبئر بردلا، مشيرا إلى أن ما يزرع في بردلا اليوم انخفض من 1600 دونم قبل الاحتلال، إلى 700.
وقال عارف دراغمة: "يسمع أطفال التجمعات هنا صوت المياه في الأنابيب التي تمر من جانب خيامهم، ولا يستطيعون الحصول عليها، ويشاهدون ملاحقة الاحتلال للصهاريج، التي تحتجز وتفرض غرامات باهظة على أصحابها."
وأظهر صورة لأحدث أمر عسكري لما تسمى "الإدارة المدنية" التي تلاحق بركة ماء، وتصدر قراراها بوقف العمل فيها، وسرد: يمارس الاحتلال حرب العطش في الأغوار، ويستهدف تجفيف الينابيع، ويمنع حفر الآبار، وهو اليوم يوجه إنذارا بوقف العمل في بركة زراعية، وفي كل مرة يأتي بسياسة جديدة.
ومما جمعته الصغيرات أن آبار الأغوار وينابيعها كانت تنتج قرابة 22 مليون متر مكعب في العام، انخفضت اليوم إلى نحو 1,8 مليون، أما عين الحمة فكانت تُوزع على 52 حصة، لتروي عطش 650 دونمًا، تراجعت اليوم إلى 280 فقط.
صحافية صغيرة من طوباس تساهم في التغطية عن النهب الإسرائيلي لمياه الأغوار في الفيلم الوثائقي القصير
"حمة" مستهدفة
ورصدت الصحافيات اليافعات بفيلمهن شهادة تقول إن مياه الحمة الملاحقة اليوم، كانت تسير في قنوات تقليدية تخترق الحقول بمسافة 1200 متر، وتروي خلال مرورها الخضروات والبطيخ والشمام، وانتشرت فيها أسماك السردين، قبل أن يتغير الحال.
ووفق ما قدمنه، فإن الحمة لم تفقد فقط نبعها، بل تعرضت منازلها لهدم كامل بعد الاحتلال بوقت قصير وشردت 20 أسرة كانت تعيش على الزراعة، وتتنقل بحرية إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن، التي لا تبتعد عنها غير 3 كيلومترات، مثلما سرقت آثارها الرومانية.
وتسرد المشاهد حكايات يقدمها المواطن محمود عوّاد، والسبعينية أم رشدي، ومهيوب فقهاء، وأطفال يسكنون خلة حمد والحمة، ويذوقون الأمرين لتأمين مياه الشرب وسقاية الأغنام، التي يحتاج الرأس الواحد منها كل يوم 10 لترات.
وتختتم الصغيرات فيلمهن في عين الساكوت، التي كانت محرمة على أصحابها منذ بداية الاحتلال وحتى العام الماضي، حين استرد بعض مالكيها أراضيهم المتاخمة للحدود الأردنية. تقول أماني دراغمة:" كنا نكتب عن العطش، لكننا اليوم ننقله لمن يريد مشاهدته في فيلم قصير يشرح حكاية نهب طويلة.
وذكرت رئيسة جمعية طوباس الخيرية مها دراغمة، أن الصحفيات الصغيرات إطار ترعاه وزارة الإعلام والجمعية، بالشراكة مع مركز التعليم البيئي، وقد قدمن الفيلم بمناسبة يوم المياه العالمي بالتعاون مع مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين.
وأضافت: "قدّمت الصغيرات مبادرات مجتمعية وبيئية عديدة، وحاورن الصيف الماضي مدير عام شركة الكهرباء حول الانقطاع الذي تكرر كثيرًا للتيار في المدينة، كما زرن مركز التعليم البيئي، الذي يدعم إدماج الصغيرات في القضايا الخضراء، وأنتجن فيلمًا ناقش الواقع الزراعي، وجمعن مقابلات قصيرة حول سبب تراجع الوعي البيئي، وانتشار النفايات الصلبة في كل مكان تقريبًا.