الـــبيــئــة بـيـن الديناميكية الاستهلاكية والـمــوروثــات الثـــقــافــيــة (الجزء2)
باحثة في القانون العام والعلاقات الدولية
تحت وطأة تصاعد حدّة الأزمة البيئية التي تجتاح الكوكب الأزرق من أدناه إلى أقصاه، وما تشكّله هذه الأزمة من تهديد حقيقي للبشرية ولمظاهر الحياة المختلفة على الأرض، تطورت نقاشات حول ضرورة صياغة أخلاق بيئية تراعي حقوق الكائنات الأخرى. فهذه النقاشات أخذت شكل اتهامات موجهة للخطابات الدينية خاصة المسيحية، الذي رفعت لواءه التيارات الإيكولوجية الراديكالية كما جاء في الجزء الأول لهذا الموضوع.
فرغم التأثير القوي للأديان والتقاليد الروحية في سلوك البشر، إلا أنه لا يمكن تحميلها مسؤولية سلوك الإنسان المدمر؛ فعدم تقديس الطبيعة في النصوص المسيحية نجده أيضا في الموروثات الثقافية والديانات القديمة، بل هناك من يعتبر المركزية البشرية التي انطبعت بها المسيحية قد تلقتها من الفلسفة الرواقية، التي جاء في تعاليمها أن الإنسان هو الغاية القصوى للطبيعة. إضافة إلى هذا، فهناك عوامل أخرى تخرج من دائرة الموروث الثقافي، عوامل لها ارتباط بالاقتصاد والاستهلاك اللامتناهي للموارد الطبيعية لإشباع الحاجات... بمعنى التسابق المخيف لتحقيق النمو فيما بين الدول، دون الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الموارد تحتاج إلى وقت مستقطع لإعادة التجدد.
هذه العوامل نجد من حددها في نظرية اتحاد العلم والنظام الرأسمالي والتكنولوجيا ليخلق ما يعرف بـ "مركَّب STC" "الاستهلاك الغربي اللامتناهي"، التي اقترحها إتيان فيرميرش، وهي تجسد العلاقة بين النموذج الاقتصادي النيوكلاسيكي والثقافة الاستهلاكية اللذين كان لهما الأثر الكبير في تخريب كوكب الأرض....
وهناك من أرجع السبب فقط للتطور العلمي، حيث ينظرون إلى العلم من أكثر الأشياء التي عملت على فصل أجسادنا عن الطبيعة؛ فقد كان الدافع وراء الفكر العلمي في أوله هو الأمل في فهم الله، فعلماء اليونان القدماء أحرزوا درجة عالية من التقدم، وحافظ علماء الإمبراطورية البيزنطية في أوروبا الشرقية والعلماء العرب في شمال أفريقيا وأسبانيا على هذه المعرفة دون أن يدخلوا عليها أي تغيير تقريبا، لكن في المقابل نجد أعمال العلماء المحدثين الأوائل-مثل كوبرنيكوس وجاليليو وسير فرنسيس بيكون وديكارت والسير إسحق نيوتن... قد أفضت إلى الإِدراك المتزايد للفرق بين العالم الطبيعي والبشر، وأصبح الأوربيون الذين أدركوا ذلك الاختلاف واعين بإِمكانيات تسخير الطبيعة أو التحكم فيها.
فعلا إنه الجدال الذي يصعب على المرء الخروج منه بحل، لهذا فقبل الحديث عن الحلول والبدائل، فلا بد بدايةً من التطرق للمقاربات المضادة للتيارات الإيكولوجية الراديكالية، ثم النظر إلى أكثر الحلول مجدية فعلا لحماية البيئة ورعايتها.
- المقاربات والنظريات المادية: الاستهلاك اللامتناهي
نجد هناك شبه إجماع على أن ظهور العلم الحديث سلب للطبيعة حياتها، وشوهت القرارات التي كانت تتخذ لصالح الأرباح الخاصة (الرأسمالية على الخصوص) صورة العالم الإيكولوجي؛ كيف ذلك؟؟؟ هل المشكلة تكمن في الآلة أم في الطريقة التي ينظم بها الاقتصاد الرأسمالي الآلات ويستخدمها؟؟؟ للإجابة عن هذا السؤال، دعونا نأخذ أهم المقاربات والدراسات المدرجة في هذا الإطار :
- نظرية مركَّب STC : وهي نظرية أرجع من خلالها تيان فيرميرش أسباب الأزمة الايكولوجية إلى ثلاثة عناصر مجتمعة هي: العلم(Science)، والتكنولوجيا (Technologie) ، والاقتصاد الرأسمالي (Capitalisme). إن كل واحد من هذه العناصر يمتلك، حسب فيرميرش، ديناميكية أو فاعلية خاصة، فالعلم تتمثل فاعليته في اكتشاف قوانين الطبيعة وإنتاج المعلومات، وتتمثل فاعلية التقنية في إنتاج الطاقة والوسائل، أما الاقتصاد ففاعليته تتمثل في إنتاج السلع؛ واجتماع هذه العناصر معًا يخلق ديناميكية إضافية، فتتنوّع الموارد الأولية، وتتعدّد وسائل الإنتاج، وتتضاعف التكنولوجيات، ومع هذا الاجتماع وهذا التفاعل يتطور المركَّب المذكور بدون حدود، فلا يحدّه هدف، ولا توجّهه بصيرة، حتى تؤدي به بنيته التي تدفعه إلى النماء بدون حدّ إلى الهلاك والدمار.
إننا نواجه إذن، وحسب فيرميرش، نظامًا تمنع دينامكيته الخاصة أو الداخلية من التوقف، بينما تفرض علينا الحدود الخارجية (أي العالم المحدود) مواجهته وإيقافه، لأن جميع الموارد المحدودة ستنفذ خلال تطوره. وبالفعل، فقد نتج عن تطور مركَّب STC في الغرب تسابقاً خطيراً على الاستهلاك وإشباع الحاجات، تسابق سرعان ما دفع الدول السائرة في طريق النمو إلى إطلاق صيحات مطالبة بالإنصاف في الحصول على بعض المنافع الاستهلاكية. ونظرًا إلى أن سكان الدول الغنية لم يجدوا مبررات مقنعة للدفاع عن مكانتهم المميّزة وحقهم في"جودة الحياة "، فقد رفضوا تقاسم الثروات وترشيد الاستهلاك، وكان منه أن اتجهت الدول النامية، هي الأخرى، إلى زيادة الإنتاج بحجة المساواة في إشباع الحاجات. وأدى هذا التسابق على المنافع الاستهلاكية الذي جرى تأويله كحق في السعادة الشخصية، في نهاية المطاف، إلى الأزمة الإيكولوجية التي يعيشها البشر اليوم. وهكذا، فإن هذه الأزمة ليست سوى نتيجة للتسابق على الاستهلاك الذي نشأ عن تطور المركب المذكور.
- نظرية تقطيع العلم أوصال الطبيعة: بين لويس ممفورد كيف حاول العلماء الأوائل إخضاع كل الطبيعة العضوية للقوانين الميكانيكية، حيث يؤكد في تحليله على العلاقة التاريخية بين العلم الحديث وذريته(أي تكنولوجيا الآلات)، صحيح أن العلماء كانوا مهتمين بالمعرفة إلا أن التصنيع هو عملية تسخير المعرفة لإحراز نتائج عملية فالثورة الصناعية ما كانت لتكون لولا الفكرتان اللتان استرشد بهما العلم الحديث: فكرة انفصال الإنسان عن الطبيعة وقدرة الإنسان على السيطرة على هذا العالم الطبيعي المنفصل.
- كيف يمكن ذلك؟ فالعالم يفصل موضوع ملاحظته عن السياق العضوي الكلي الذي يحيا فيه هذا الموضوع، فمثلا لا بد لقياس الفراشة من فصلها عن بيئتها ولقياس طول جناحها، لا مناص من فصل الجناح عن الجسم، ولا بد لفهم أجزاء أي عملية طبيعية من التغاضي عن الكل. والمعرفة العلمية تتضاعف بقدر ما نستطيع تحليل الأشياء إلى أجزائها المركبة، ومن هنا فربما لم يكن من المستغرب أن يقوم التكنيك العلمي الذي يعامل الكائنات الحية وكأنها ميتة بخلق تكنولوجيا تفتك بهذه الكائنات... فكلما ازددنا انشغالا بالقياس والعد قلت رؤيتنا للأشياء الطبيعية في كليتها، إننا لا نتحدث إلا عن اتجاه واحد في العلم-لكنه اتجاه حقيقي للغاية والواقع هي شروط البحث المنهجي.
- دراسة الدائرة الآخذة في الانغلاق: دراسة ممتازة بقلم عالم الأمريكي الإيكولوجي بارى كومونر Barry Commoner حيث عمد على دراسة العلاقة المتداخلة بين بعض أسباب الكارثية لمستويات التلوث التي وصلت ما بين 200°/° و2000°/° في أميركا منذ عام 1946، واستهل تعليله للارتفاع المذهل، باستبعاد التفسيرات المألوفة أي الوفرة (الثروة أو النمو الإقتصادي) وزيادة السكانية؛ لأنها في نظره لم تساهم في النتيجة الكارثية، يقول أنه لو جمعنا الوفرة أو النمو الاقتصادي وتزايد السكان لبلغ أعلى تقدير للزيادة ما يعادل الارتفاع في إجمالي الناتج القومي وهو حوالي 125% فمن الواضح إذن أن من واجبنا البحث عن عوامل أخرى لتحديد أسباب زيادة مستويات التلوث إلى ما يتراوح ما بين 200% و 2000 % منذ الحرب العالمية الثانية.
- التي خرج بها كومونر هي أن الأسباب ترجع إلى أنواع التكنولوجيا التي ظهرت منذ الأربعينات. خاصة التكنولوجيا خاصة بالمنتجات والمعالجات التخليقية لتحل محل التكنولوجيا الطبيعية العضوية؛ ويضيف أن هذه التكنولوجيا هي فقط قامت بما طلب منها ولم تخفق بل كان نجاحها باهرا في زيادة غلة الفدان وتخليق مواد صناعية، لذلك لا نستطيع أن نلقي اللوم على التكنولوجيين ... بل من الواجب علينا العودة بأنظارنا مرة أخرى إلى النظام الاقتصادي الذي يعمل فيه العلماء والتكنولوجيون، حيث اهتدى كومونر في الأخير إلى استخلاص تلك العلاقة بين التلوث الذي أصابنا حديثا وبين التنظيم الرأسمالي للاقتصاد، فوجد أن القرارات التي تتخذ لصالح الأرباح الخاصة هي السبب المباشر بمعنى أن سعي صناع القرار داخل أي منشأة اقتصادية لتحقيق الأرباح دون الأخذ بالأبعاد البيئية وتكاليفها هي العوامل الرئيسية للتلوث.
فمن خلال هذه الدراسات نجد أن غالبية هؤلاء يرجعون أسباب الأزمة البيئية إلى عوامل لها علاقة بطريقة استغلالنا للعلم والتكنولوجيا من خلال خلق نظام يسعى فقط للربح وإشباع الحاجات المتنامية دون النظر للمخلفات الناتجة عن كثرة الاستهلاك المفرط.
- الـــرؤى البديــلـــة: التـــطلـع من منــظار البــيئة
بداية لا بد لنا أن نرد هنا على أهم الدفاعات التي وجهت ضد الغلو والتعسف الشديد تجاه الديانات السماوية في جعلها المسؤولة عن معانات البيئة، حيث اندفع العديد من رجال الدين لتصحيح التأويلات الخاطئة للنصوص المقدسة، نجد في مقدمة هؤلاء الكتاب الذي نشره البابا بولس عرض فيه المواقف الكاثوليكية عن الإيكولوجيا، وإطلاق خليفته بنديكت السادس سنة 2006 لنداء من أجل إيقاف التدهور البيئي الذي كان يهدد في رأيه وجود الفقراء في العالم، تبعه نداء ثانٍ في الأول من سبتمبر 2006 دعا فيه إلى احترام الطبيعة باعتبارها هِبَة الربّ، وهو اليوم أصبح رمزًا للدفاع عن الطبيعة.... و أيضا بادر علماء وفقهاء المسلمون كغيرهم، إلى تطوير رؤى وأفكار ونظريات مستوحاة من الإسلام لحماية البيئة والمحافظة عليها، لأن الأزمة البيئية أصبحت تعني جميع شعوب الأرض، ونظر أغلب المفكرين المسلمين إلى الأزمة البيئية من منظار فقهي، وتحديدًا من منظار نظرية المقاصد....
ومن المقترحات والبدائل التي صاغها إتيان فيرميرش من خلال نظرية مركَّبSTC للخروج من الأزمة الإيكولوجية، يرى أنه من الواجب إعادة هيكلة نموذج الاستهلاك الغربي، ووضع نموذج آخر للإنتاج لا يستنفد موارد الأرض المحدود. وهذا لا يعني العودة للأنظمة الاشتراكية كحل بديل، حيث نجد محاولة الروس والصينيين وغيرهم من اﻟﻤﺠتمعات التي تسمي نفسها اشتراكية التصنيع على أساس الملكية العامة لا الخاصة واتخاذ القرار الجماعي لا الفردي، إلا أن هذه المحاولات لم تسلم من تلوث البيئة أو تبديد المصادر الطبيعية أو غير ذلك من إساءة للبيئة.
في الحقيقة إيجاد حل أو بدبل أنسب، يتطلب منا أن نأخذ بجميع العوامل والجوانب لصياغة مقاربة تكاملية كنظرية الإقتصاد الإيكولوجي.
نجد هذا التيار يدعو إلى التقارب بين علوم الأحياء والعلوم الاجتماعية ومن ثم يتحول إلى مجال جديد لدراسات متعددة الاختصاصات للعلاقات المترابطة بين الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية، وحسب هذا التيار لا يمكن اعتبار النمو والاقتصاد أحادي الجانب بل يخضعان لعوائق تركز على ثلاثة مبادئ هي:
- إن حدود استيعاب الطبيعة محدودة وعلى النظام الاقتصادي أن يأخذها في الحسبان.
- يجب التنبؤ لإمكانيات التعويض بين المواد القابلة للتجدد والنابضة.
- يجب احترام ظروف إعادة تجديد المواد الطبيعية المتجددة
في الأخير قد يظن الجنس البشري أنه يفوز في معركته مع الطبيعة، لكن إذا استمر النزاع مدة طويلة، فمن المؤكد أنه سوف يخسر الحرب، وقبل أن ننجح في القضاء على الأنواع الأخرى التي تشاركنا هذا الكوكب، سيؤدي دمار النظم الطبيعية الهشة الداعمة لحياتها إلى زوال كل ما نعتبره اليوم حضارة... لهذا أرى أننا بحاجة إلى خلق نظام يعرف بالمفككات كما هو موجود في الأنظمة البيولوجية.
الهــوامــش :
- White, Lynn Jr, The Historical Roots Of Our Ecological Crisis, Science, Vol.155, No. 10, 1967
- Barry Commoner, The Closing Circle, New York: Knopf, 1972
- Lewis Mumford, Technics and Civilization, New York: Harcourt Brace Jovanovich, 1934, 1963
- Lynn White,s account is in “Continuing the Conversation” in Western Man and Environmental Ethics, ed. Ian Barbour (Reading, Mass: Addison Wesley,1973),
- Arnold Toynbee, The Religious Backgroud of the Present Environmental Crisis, International Journal of Environmental Studies 3 (1972) : 141-146. Reprinted in David and Eileen Spring, eds., Ecology and Religion in History (New York: Harper & Row, 1974),
- Hans Jonas, Le principe de responsabilité : Une éthique pour la civilisation technologique (Paris : CERF,1992(