خاص بآفاق البيئة والتنمية
عاد حامد محمد عنبوسي إلى عين الساكوت في الأغوار الشمالية، بعد غياب 49 عامًا عن القرية الصغيرة التي ارتبطت بنبع ماء لا يفصله عن نهر الأردن سوى عشرات الأمتار، وأول ما فعله عنبوسي النزول إلى قلب النبع، وتحقيق أمنية طال انتظارها، فغسل يديه بالماء، وعادت إليه مقاطع من طفولته، فيما خالطته مشاعر الفرح والحزن في آن.
يقول: "ولدت في عين الساكوت عام 1948، وهجّرنا الاحتلال منها عام 1967، وهدم بيتنا على التلة المجاورة للعين، وبعد ست سنوات من النكسة قرر العدو مصادرة كل أرضنا، وأقام مستعمرة (ميخولا) سنة 1969، وهي أول مستوطنة زراعية في الأغوار، ونهب أكثر من ثلاثين ألف دونم من أراضينا في الساكوت."
أهالي عين الساكوت يحتجون
عودة
ويضيف عنبوسي:" عادت إلينا أرضنا بقرار محكمة الاحتلال ( ما تسمى العدل العليا)، ولكن حتى اليوم لم نستلمها، وحين عدنا لمشاهدتها، وجدنا الجنود يحيطون بنا، ورأينا المستوطنين يسبحون في العين."
يستظل رئيس مجلس المالح والمضارب البدوية عارف دراغمة شجرة دوم قرب النبع، ويقص لعشرات الصحافيين خلال الجولة الإعلامية التي نظمتها وزارة الإعلام ومحافظة طوباس والأغوار الشمالية حكاية المكان، ويقول: "أعلن الاحتلال عن الساكوت منطقة عسكرية، وزرعها بالألغام، ودمر الآبار التي كانت تضخ المياه قبل النكسة، ووضع يده على نحو 35 ألف دونم. ولكن في آخر عشر سنوات فكك الاحتلال الألغام، واستولى المستوطنون على الأراضي وراحوا يزرعونها بالأعشاب الطبية."
ووفق دراغمة، فإن "صحوة فلسطينية قانونية" بدأت منذ فترة، تكللت بقرار قضائي أعاد 3500 دونم لأصحابها، وهو ما يحتاج لإجراءات استكمالية، ومواصلة "المعركة القانونية" مع الاحتلال لاستعادة البقية.
حامد عنبوسي من مهجري عين الساكوت
قصص
عند حواف النهر يقف أيضًا المزارع عزات محمد فارس، وفتحي محمد عنبوسي، ومأمون أحمد محمد، ولطفي قاسم عنبوسي، ومع كل واحد قصة تختلف في بعض تفاصيلها، لكن العنوان المشترك واحد: العودة والحنين واستعادة جزء من الحق.
يقول عزات: "ولدت عام 1953 هنا، واليوم عادت نصف أرضي، وكنا نزرعها بالخضروات، وكانت الأرض مشهورة بالبطيخ والشمام، ومنعنا من الوصول إليها نحو نصف قرن، وفيها ذكريات أبي وأمي، وبقايا منزل عائلتنا، وأطلال ماتور (مولد) الماء."
والمهم بالنسبة لمزارعي الساكوت، كما يؤكد عزات، عودة الحق إلى أصحابه، وتحقيق جزء من وصايا الآباء بزراعة الأرض، وعدم بيعها مهما كانت الظروف.
وبحسب مسؤول ملف الأغوار في محافظة طوباس معتز بشارات، فإنه رغم قرار محكمة الاحتلال إعادة الأراضي لأصحابها، يواصل جيش الاحتلال ومعه عشرات المستوطنين المضايقة اليومية بحقهم، فتمنعهم من الوصول، أو تدعي أن القضية لا زالت في المحكمة، أو تختلق حجة (اقتحام منطقة عسكرية وحدودية حساسة)، مثلما تحتجز الصحافيين الذين يحاولون الوصول إلى المنطقة.
عين الساكوت في الأغوار الشماية
سرطان
ويضيف بشارات: "لا نعرف عدد أصحاب الأراضي المستردة، وحتى اليوم وصلتنا وثائق من 300 مزارع تفيد بملكيتهم لأراضي الساكوت، الواقعة على الشريط الشرقي وبجانب مستوطنتي "ميخولا"، و"شدموت ميخولا"، التي تنهب الأرض وتتنعم بمياه العين، وتشبه السرطان الذي يتفشى في الجسد."
ينهي حامد عنبوسي كلامه وهو يعتمر كوفية تقيه شمس الغور الحارقة: "بلمح البصر، قررت إسرائيل تدمير حياة الساكوت بأكملها، فهدمت منازلها وكل شيء فيها، لكن ذكرياتنا باقية، ولن نرحل."
وعادت نوال دراغمة إلى بيتها ومسقط رأسها في الساكوت، فشربت من عين الماء التي كانت تلهو فيها خلال طفولتها، وفتشت بدموعها عن أطلال منزلها، ومعالم قريتها، وذكرياتها السليبة، ووجدت المستوطنين "يتنزهون" فوق ركام بيتها!
عين الساكوت
ذكريات
تقول نوال (75) عاماً ومعها الدموع: "من سنين ما وصلت بيتنا، واليوم شفته كوم حجار، ومزروع بالألغام، وعرّفت أولا ابني وبنتي عليه، ووصيت حفيدتي زينب تظل حاملة الكوشان."
وتقابل العين الأراضي الأردنية، وتفشل الأسلاك الشائكة في حجب امتداد واد اليابس شرق النهر، وتبدو في الأفق مقاطع من بيوت ومزارع ومسجد ومواقع في أرض الأردن، التي كان عنبوسي ودراغمة يذهبان إليها كلما أردا قبل النكسة، دون جواز سفر أو تفتيش أو إذن، ويبحثان عن مخاضات ( مناطق في النهر قليلة العرض) للعبور والعودة، كمخاضة (أم السوس)، لكن كل شيء تغير، إلا الإرادة.
aabdkh@yahoo.com