خاص بآفاق البيئة والتنمية
اصطبغت قاعات جمعية الهلال الأحمر في رام الله بفنون خضراء أبدعتها نساء، وراحت صاحباتها يسردن حكاياتها من بابها إلى محرابها، وفي الخلفية ملامح وملصقات ما أطلقته سلطة جودة البيئة حول الخطة الوطنية للإنتاج والاستهلاك المستدامين.
تقف سندس سلمان وراء مبادرة (عُمار الأرض)، وتبدو خريجة برمجة الكمبيوتر ابنة السابعة والعشرين في كامل السعادة، وهي تتباهى بما حققته فكرتها المشتركة مع زوجها حسام الطويل (32 عاماً) من إنجاز.
تروي:" أقمنا في الولايات المتحدة عدة سنوات، وبدأت القصة حين عدنا من هناك، وكان ابننا مجاهد في بداية طفولته ووعيه، حين راح يقول لنا إنه لا يحب وطنه لأنه غير نظيف، فالنفايات في كل مكان، والشوارع لا تسر."
تطوّع وتدوير
كانت ردة فعل الصغير مجاهد كفيلة بتحويل مسار الزوجين، فشرعا في أعمال تطوعية لتنظيف البيئة، كجمع النفايات المتراكمة في الحدائق العامة برام الله والبيرة، والانتقال إلى المدارس لنشر مفاهيم التوعية، والتحول من المفاهيم النظرية إلى التطبيق في تدوير النفايات وتغيير حالتها إلى تحف فنية، والتف حول فكرتهما أصدقاء.
تضيف سندس: " انطلقنا من حيز صغير، وكبر حلمنا اليوم، ونجحنا في إقناع مؤسسات عديدة في تدوير الورق، وأطلقنا حملة (إحم شجرة بتدويرك لورقة)، التي تسعى إلى نشر الوعي البيئي بتعميم الثقافة البيئية، وتغيير السلوك عبر ورش عمل تغرس حب الحفاظ على البيئة، وتنشر ثقافة فصل النفايات وممارستها ليشعر المجتمع بالفرق، وتمكنا من توفير فرص عمل لأربعة خريجين، ونشارك في تحكيم مسابقات مدارس بلدية رام الله الصديقة للبيئة، ولدينا الكثير من الطموح."
ووفق سلمان، فإن توزيع النفايات الصلبة عام 2014 كما أكدته الوكالة الألمانية للتنمية": 59,1% للعضوية، و14,2% للبلاستيك، و 10,1% للنفايات الورقية والكرتون، 2,7% للحديد، و 2,4 للزجاج 2,4%، و11,5% للنفايات الأخرى. ما يعني عملياً أهمية بذل جهود لتدوير النفايات، وبخاصة أن القسم الأكبر لمعظم نفايات المنشآت الاقتصادية هو الورق والكرتون بواقع 91.5%."
تؤكد سندس وهي تعرض مجسمات من بقايا علب معدنية وبلاستيكية وكرتون، تحولت إلى تحف فنية، أن "عُمّار الأرض" تمكنت من إقناع 400 مؤسسة بتدوير الورق، ووزعت حاويات خاصة عليها، حيث يتم القيام بجمعها وإرسالها إلى مصنع في طولكرم".
وبحسب ما تنشره المؤسسة من أرقام، فإن إعادة تدوير طن واحد من الورق "يحمي 17 شجرة، و360 غالون مياه، و10,401 كيلو واط كهرباء، و60 باوند من ملوثات الهواء، و11 غالون غاز، و3.3 كوب من أرض المكب."
وتدور سندس وأطفالها: مجاهد وتسنيم وعمر كل شيء تقريباً في المنزل، وتعمل الأسرة كخلية نحل، وتفكر في ابتكار المزيد من النماذج لحماية البيئة، وتنقل ذلك للجيران.
التشتيل من خلال إعادة الاستعمال والتدوير
توأم أخضر
في زاوية أخرى، تتجاور الأختان التوأم هبة وهيا أبو ليلى (22 عامًا) في ركن جمعية (عباد الشمس) وتضعان بصماتهما على فنون تدوير قماش الجينز التالف، ودمج التطريز على بقايا القماش، وإعادة الاستفادة من أكواب الزجاج المكسور، وعلب الكرتون الفارغة، وبقايا الأخشاب التي تذهب إلى الحرق غالبًا.
تقولان: "ننحدر من الخليل، ونسكن في ضاحية البريد بالقدس، ودرسنا الخزف والحرف اليدوية، وبدأنا مع جمعية عباد الشمس التي تهتم بالبيئة، وأنهينا الدراسة قبل إكمال الثانوية العامة، ودخلنا الاتحاد اللوثري في بيت حنينا، وحصلنا على المركز الأول في دورات الفنون اليدوية والخزف، وقبل أربع سنوات بدأنا العمل مع الجمعية، ونضيف في كل يوم تصميمات جديدة، تراعي الإستفادة من المواد التي تسخدم مرة واحدة، ونقلل من النفايات."
كتبت التوأم أبو ليلى سيرتهما الذاتية، وفيها الكثير من المعاناة والتحدي والأمل وحب البيئة، وتنتظران تمويل نشرها في كتاب، وفي رصيدهما دورات عديدة في مجال الأزياء والتطريز وإدارة المشاريع وحقوق الإنسان وغيرها.
تضيفان: "توصلنا لتصاميم كثيرة من القماش الذي يلقي الناس به في القمامة، وقدمنا مجموعة من الحقائب النسوية، والإكسسوارات، والتحف، وانتقلنا لتدريب طلبة المدارس على مهارات التدوير، ولدينا الكثير من الأمل والتطوع."
سلع فلسطينية مدورة
قشور بيض!
وتقدم الفنانة التشكيلية إيمان كليب إبداعات أخرى تنتصر للبيئة، فهي التي تخرجت من كلية الفنون بجامعة النجاح قبل 9 سنوات، لكن الحظ لم بتسم لها بعد، في الحصول على وظيفة تحلم بها.
واللافت أن كليب التي تقيم في بلدة حارس بمحافظة سلفيت، والتي أبصرت النور عام 1984، استطاعت بناء معرضها في زمن قياسي، فرسمت 7 لوحات بطريقة رش الطلاء ومسحه بورق الجرائد، وانتجت مجموعة أخرى من فنون شكلتها بقشور البيض، وفردت قطعًا من القماش التالف، والفناجين المكسورة، واستخدمت الأواني البلاستيكية التي تستعمل مرة واحدة في إنتاج تحف فنية وزهور صناعية، واستعملت علبًا معدنية في تقديم مجسم لرجل آلي.
تقول:" البيئة ليست عدوًا، هي تحتاج إلينا ولإبداعاتنا، وبوسعنا أن نقلل من إنتاج أكوام القمامة، وتحويلها إلى فنون جميلة، لو أطلقنا العنان لإبداعنا."
لا تجد كليب تشجيعًا حقيقياً في معرضها الأول، فهي كما تؤكد، تسمع بعض الدعم المعنوي، ولكن لا يهتم الزائرون بشراء تصاميم عصرية ولوحات جميلة من خامات كانت ستصير نفايات.
تتابع:" أرسم بالمكوى، وأضع عليه ألوان باستيل وأنقلها إلى لوحات فنية، وأعيد استعمال بقايا الخشب التالف، وأقدم تصاميم جميلة من ملاعق بلاستيكية تلقى في النفايات، ولكنني انتظر أن أنقل هذه الفنون على الأقل لطالبات المدارس، فلم أجد بعد مكانًا في سلك تعليم الفنون الجميلة."
تقول والدتها المربية المتقاعدة لطيفة كليب: "منذ طفولة ابنتي بدأت ألاحظ اهتمامها بعدم رمي الأشياء، وكانت تبذل جهودًا لإصلاحها، واليوم لا ترمي إيمان أي شيء مما تستعمله في المطبخ، بدءًا من عبوات مواد التنظيف، ومرورًا بالمعدن والبلاستيك والكرتون، وانتهاءً بأي قطع زجاج مكسورة، وحتى قشور البيض تصير مع ايمان لوحة جميلة."
زيت فلسطيني عضوي
إبداع وصبّار
وتجمع إيمان عميرة من بلدة بيتونيا بين الفن والزراعة وحب البيئة، مثلما تهوى تسلق الجبال وتعمل منقذة سباحة، لكنها تقدم في المعرض ربطًا بين الأزهار والتدوير بطرقة جديدة.
تروي:" صممت مشتلاً خاصًا، واستعطت تكثير 400 نوع من الصبّار، وصرت أزرعها في علب معدنية وبلاستيكية تالفة، وكاسات زجاجية مكسورة، ولا ألقي بالمنزل أي شيء في الحاوية."
يجد الناظر علب سردين فارغة، وبقايا أواني زجاجية تستضيف أزهاراً بطريقة فنية، ويتوقف عند فلسفة عميرة في ضرورة التفكير بعدم التوجه إلى شراء الأشياء الجديدة، وترميم القديمة، والإبداع في توفير وجوه استعمال عديدة للخامات التالفة أو التي تسبب عبئاً على البيئة.
تضيف عميرة التي انضمت حديثا لمنتدى نسوي بيتونيا الذي أطلقه مركز التعليم البيئي:" عملت في معهد الفنون الجميلة، ودرست بمنتدى الفنانين الصغار، وتأثرت بطفولتي حين كنت أشاهد والدتي وجدتي وهما تزرعان الأزهار بعلب معدنية وبلاستيكية، وأعمل منذ 8 سنوات في تكثير أزهار الصّبار، وفي رصيدي 400 نوع منه، واستغل كل حيز من منزلي الصغير الممتد على مساحة 140 متراً، وأتمنى لو يهتم الناس أكثر بمحيطهم."
معرض مشغولات ايمان كليب
قماش وخروب
في ردهة ثانية، تنثر سارة اشتية معروضات ( مناجل فاشن) وقد انتقت الاسم من إحدى أجزاء الملابس، التي تطوعها في أعمال فنية بدل رميها.
تقول:" تخرجت عام 2012 في الإدارة العامة، وبدأت أهتم بموهبتي الفنية، وأقدم اليوم إكسسوارات معظمها من مواد مستعملة وشبه تالفة."
لا تشعر اشتية بالإحباط من ردود فعل الزائرين غير المشجعة لفنها، لكن الانتصار للبيئة ومحاولة إيجاد عمل وسط سوق مكتظ بالبطالة، وتعبئة وقت الفراغ مسائل مهمة لصاحبتها.
وتتباهى دلال شاكر عسّاف بما تقدمه جمعية كفر لاقف في محافظة قلقيلية، فتروّج لدبس الخروب والزعتر الذي تنتجهما الجمعية، واللافت كما تقول أن الأجيال الجديدة لا تعرف بمعظمها شجرة الخروب، ولا تميزها عن أشجار أخرى.
تروي:" تبدأ رحلة إعداد الدبس بقطف الثمار من أراضي قلقيلية وكفر ثلث وعزون، ثم تجفيفه في الشمس عدة أيام، وبعدها غسله، وطحنه، فنقعه بالماء ليوم كامل، ليوضع على النار يومًا بطوله، بعدها تتم تعبئته في عبوات زجاجية، ثم يطرق باب الزبائن."
ويذهب مستخلص الخروب للعلاج وخاصة التهابات اللثة والإمساك، فيما يزين أطباق الحلوى الشعبية كالخبيصة، ويخفف بماء بارد ليصير شرابًا يشيع تقديمه في مواسم الصيف وشهر الصوم.
ويقدم الزوجان الستينيان شاهر وبسمة حميد من بلدة عابود بمحافظة رام الله ما ينتجانه من وصفات غذائية جديدة، يحفظانها بزيت الزيتون ويزينانها بالتوابل.
يقولان:" نقدم سلطات الفاصولياء، واللوبياء، والكوسا، والفلفل، والنعناع البري، وعصير الخشخاش، وقهوة الشعير، ومعظم ما نضيف لمنتجاتنا من مزرعتنا وأراضي عابود، ولا نتعامل بالمواد الحافظة، والسر فيما ننتجه: الزيت والفلفل."
منتجات غذائية بلدية
إنتاج واستدامة
وكانت "جودة البيئة" قدمت 14 مشروعًا ومبادرة بيئية من مؤسسات حكومية وأكاديمية وقطاع خاص، ومبادرات فردية تهدف وفق تصريحات صحفية إلى تعزيز مفهوم الإنتاج والاستهلاك المستدامين في فلسطين.
فيما أكد مدير عام السياسات والتخطيط في سلطة جودة البيئة زغلول سمحان، لوكالة الأنباء الرسمية (وفا)، أهمية هذا المشروع الذي يهدف بشكل عام إلى تحول منطقة البحر المتوسط إلى منطقة ذات أنماط إنتاج واستهلاك مستدامين حفاظا على بيئة البحر المتوسط، وأن فلسطين استفادت منه كونها واحدة من الدول المشاطئة للبحر المتوسط.
وقال: "الإنتاج والاستهلاك المستدامين أحد أهداف التنمية المستدامة وإطلاق هذه الخطة في فلسطين، يؤكد أنها خطت الخطوة الأولى في تحقيق أهداف التنمية المستدامة والتي بدأت فيها فلسطين فعليًا."
وأوضح أن الخطة الإستراتيجية تناولت ثلاثة قطاعات رئيسة وحيوية ذات ارتباط مباشر بالبيئة وتحقق المعايير التي تم على أساسها اختيار تلك القطاعات، والتي أخذت بالاعتبار البعد البيئي والبعد الاقتصادي والاجتماعي والبعد المؤسسي والسياسي.
وأكد سمحان: "يمكن لهذه القطاعات تحقيق نتائج مهمة من منظور مفهوم الإنتاج والاستهلاك المستدامين وهي: الزراعة والغذاء، والسياحة، والإنشاءات والإسكان".
aabdkh@yahoo.com