خاص بآفاق البيئة والتنمية
يعد انتشار محلات طلاء الأثاث أو التي تعرف بـ"المداهن" بين التجمعات السكنية الفلسطينية خاصة المحاذية لما يسمى الخط الأخضر من الظواهر المقلقة من ناحية آثارها السلبية البيئية والصحية، بل تعدى أثرها ليطال التنوع الزراعي.
فعلى الرغم من أن تلك "المداهن" تشكل مصدر دخلٍ للعديد من العائلات الفلسطينية لما توفره من فرص عمل تدفع عجلة الاقتصاد المحلي قُدما، إلا أن لها اثرها السلبي البالغ والذي يطال جميع جوانب الحياة في حال الاستمرار في عدم توفر القوانين والأنظمة الرادعة التي تراقب عملها وتنظمها بشكل فعال ومحكم.
مداهن بين البيوت في قرية مسحة ينبعث منها أبخرة سامة
مسحه نموذجا
تركز مجلة آفاق البيئة والتنمية الضوء في هذا التقرير على قرية مسحه غرب محافظة سلفيت على سبيل المثال لا الحصر، كنموذج للعديد من القرى والأرياف الفلسطينية التي تنتشر بها هده الحرفة غير المنظمة، حيث سنوضح طبيعتها والأبعاد المحيطة بها، وتأثيراتها على صحة الإنسان وقطاع الزراعة والوضع البيئي في المنطقة.
فإلى الغرب من محافظة سلفيت تحديدا على بعد 15 كيلومترا، تقع قرية مسحه المحاذية للخط الأخضر، وبسبب قربها من الداخل المحتل باتت محط أنظارٍ للكثير من المستثمرين خاصة في مجال صناعة الأثاث "المناجر" و"مشاغل الخياطة" كذلك "مداهن الأثاث"، لدرجة أن تلك الحرف باتت تنتشر بطريقة عشوائية غير منظمة مع الإشارة إلى أن غالبيتها يقع خارج المخطط الهيكلي للقرية ضمن ما يعرف بالمناطق المصنفة "جـ" من اتفاق أوسلو.
فحسب معطيات المجلس القروي في قرية مسحه يوجد فيها ما لا يقل عن 55 مدهنة للأثاث يقع السواد الأعظم منها خارج المخطط الهيكلي للقرية وتعتبر تلك المداهن مصدر دخل ما لا يقل عن 200 أسرة من داخل القرية وخارجها.
وتكمن المعضلة الكبرى في الواقع المرير من الانتشار غير المنظم لتلك المداهن التي تفتقر غالبيتها لأدنى شروط السلامة العامة وشروط الترخيص، لدرجة أن قسما كبيرا منها بات يقع بالقرب من المنازل السكنية، ومنها ما يقع في مناطق تصنف بأنها زراعية ومزروعة بمختلف أنواع الأشجار من زيتون وتين ولوزيات.
فالزائر لمسحه يصطدم بالروائح المزعجة الحادة التي تحوي مواد كيمائية خاصة مادة "التنر" بالإضافة إلى مواد متطايرة أخرى مثل "فورمالدهيد" و"الغراء"، عدا عن النفايات السائلة المشبعة بالمواد الكيمائية الخطرة التي يتم تجميعها بواسطة أحواض الماء ويتم التخلص منها في الأماكن العامة والطرق.
مداهن عشوائية في قرية مسحة
أضرار فادحة
وكذلك فالبيئة المحيطة بهذه المداهن تتعرض هي الأخرى لآثار سلبية تطال الإنسان أو الحيوان وحتى النبات، في وقت تفتقر فيه القرية من الأراضي بسبب غول الاستيطان والجدار العنصري المحيط بها من كافة الجهات.
أما تأثيرها على الغطاء النباتي، فيبرز من خلال تراكم الأوساخ والأتربة التي تملأ الأشجار المثمرة المحيطة ببعض تلك "المداهن" التي كان لها الوقع السلبي على إنتاجية تلك الأشجار وعلى التنوع الحيوي نفسه في محيطها. كما لا تراعى المداهن أدنى مقومات السلامة المهنية المتعلقة بالعمال أنفسهم وفي المحيط بشكل عام.
السيد هاني احمد عامر (39عاما) تحدث لمجلة "آفاق" عن الواقع الأليم الذي تعيشه نسبة كبيرة من سكان قرية مسحه جراء وجود "المداهن العشوائية" وانبعاث الروائح المزعجة منها، والتي لا تفارق منازلهم ليل نهار، مسببةً انتشار أمراض الجهاز التنفسي خاصة لدى زوجته وأولاده، مبرزاً تقريراً طبيا من وزارة الصحة الفلسطينية، مؤكدا أن هذا الحال بات مألوفاً لكثير من العائلات في القرية.
يشار إلى أن العمال أنفسهم ممن يعملون في المداهن العشوائية غير المرخصة يمارسون عملهم في ظروف تفتقر لأدنى مقومات السلامة المهنية الخاصة بقطاع العمال، فصعوبة وظروف الحياة دفعت السواد الأعظم منهم للعمل فيها بطريقة غير منظمة وبدون ملابس خاصة وكمامات واقية تحميهم من أي أعراض جانبية جراء استنشاق الغازات المنبعثة، ما يجعلهم عرضة للأمراض وأخطرها الإصابة بالسرطان، وفوق هذا فإن هؤلاء العمال لا يشملهم أي تأمين صحي لحمايتهم من الإصابات المختلفة، وسط دعوات لوزارة العمل كجهة اختصاص في الرقابة على العمال لأخد موقعها الريادي والصحيح نحو المزيد من المتابعة في حماية هؤلاء العمال الذين باتت حياتهم عرضة للخطر الحقيقي.
نفايات المداهن العشوائية في قرية مسحة
حلول مطروحة
رئيس المجلس القروي في قرية مسحة وائل عامر أكد أن المجلس يتابع مع الجهات الرسمية إمكانية إنشاء منطقة صناعية تخضع للمعايير والشروط الصحية يكون لها تبعات إيجابية على اقتصاد المنطقة من جانب، وعلى البيئة والصحة من جانب آخر، لكن هذا المشروع اصطدم بمعوقات كبيرة حالت دون تنفيذه لليوم.
وعن تلك المعوقات، أوضح منسق لجنة السلامة العامة في محافظة سلفيت نعيم حرب قائلاً: "نحن في البداية نعيش في مجتمع قروي بالدرجة الأولى، نهدف فيه إلى دعم عجلة اقتصاد المنطقة بشكل كبير وتشغيل ايدي عاملة من القرية، لكن مع عدم إهمال الجانب البيئي، وبالنسبة " للمداهن" التي تنتشر في المنطقة فتخضع لرقابة الجهات ذات الاختصاص خاصة لجنة السلامة العامة، لكن لا نمتلك أي حل سحري في الوقت الحاضر لمعالجة مشاكلها بشكل نهائي بسبب عدة عوامل من أبرزها عدم وجود منطقة صناعية منظمة، وكذلك تحكم الاحتلال بمساحات كبيرة في المنطقة خاصة المنطقة المصنفة "جـ" من اتفاق أوسلو، ولكن رغم هدا نسعى بجهد كبير لمعالجة مشاكل تلك المحلات حسب الإمكانيات المتوفرة".
وفي معرض الإجابة عن أسباب عدم اتخاذ عقوبات رادعة بحق المخالفين والمتسببين في انتشار الضرر والكوارث البيئية، أجاب حرب قائلا: "نحن في لجنة السلامة العامة في محافظة سلفيت نعتبر جهة رقابية وليست تنفيذية، والتنفيذ من اختصاص القضاء، وهناك ضعف واضح في القوانين وتأخير في البت في الكثير من القضايا في المحاكم".
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل سيبقى الاحتلال شماعة لإضرار الفلسطيني ببيئته؟؟ ومتى سيتحرك المسؤولون للبت في القضايا المتعلقة بالبيئة والصحة العامة؟؟؟