آثار دير القديس هيلاريون في غزة - تصوير AP
خاص بآفاق البيئة والتنمية
أنقاض الموقع الأثري القديم تحدق من بين الكثبان الرملية المجاورة للشاطئ، في عالم هادئ، بعيدا عن صخب مدينة غزة. الطيور تتنافس مع "طائرات" الأطفال الورقية للسيطرة على رقعة السماء فوق مزرعة مجاورة. دير القديس هيلاريون- واحد من بين العديد من المواقع الأثرية المنتشرة على طول ساحل قطاع غزة، كما سائر أنحاء الساحل الفلسطيني المحتل- لا يزال راسخا هنا منذ العصور القديمة؛ حينما كانت الديانة المسيحية هي السائدة في المنطقة.
تعتبر مدينة غزة واحدة من أكثر مناطق العالم كثافة سكانية، وبالتالي فإن الزحف العمراني السريع يهدد الكنوز الأثرية التي تراكمت في المنطقة خلال 4,500 سنة الأخيرة- ابتداء من تحصينات العصر البرونزي وانتهاء بالفسيفساء البيزنطية الملونة. خبراء الآثار في قطاع غزة يبذلون جهودا كبيرة لتحديد الموجودات الأثرية والحفاظ عليها، إلا أن الموازنات التي تحت تصرفهم هزيلة، كما أنهم يجدون صعوبة في العثور على عمال مهرة في هذا الحقل بين الأهالي الغزيين. العديد من المواقع الأثرية تقع تحت رحمة أحوال الطقس، ومواقع أخرى تحاصرها مشاريع البناء الجديدة. العارفون بالأمر يقولون بأن كنوزاً أثرية جديدة يمكن اكتشافها في كل زاوية بغزة.
أعمال التنقيب عن الآثار العربية المسيحية في منطقة دير القديس هيلاريون في غزة- تصوير AP
ويؤكد علماء الآثار بأن قطاع غزة كان في الماضي واحة خصبة مزدهرة؛ المدن والقلاع والحدائق امتدت في المنطقة بأسرها. وشكلت غزة مفترق طرق مزدحم ومزدهر، يربط بين إفريقيا، بلاد الشام وآسيا.
المشكلة في غزة أن الطلب على الإسكان أكثر إلحاحا بكثير من الحاجة للمحافظة على المكتشفات الأثرية والتاريخية.
أطلال القديس هيلاريون التي تبعد نحو 15 كيلومترا جنوب غرب مدينة غزة وتحديدا في محيط مخيم النصيرات، تبين التحديات التي تواجه أولئك الذين يكافحون من أجل إنقاذ كنوز الماضي الحضاري-الثقافي العريق.
مجمع دير هيلاريون المعروف بإسم تل أم عامر، يعود إلى أوائل القرن الرابع الميلادي، ويمتد على مساحة نحو عشرين دونما؛ وقد بني في المكان الذي يعتقد بأنه مسقط رأس القديس هيلاريون، وهو راهب عربي نصراني من سكان غزة عاش في القرن الرابع الميلادي، ويعتبر أحد مؤسسي الحياة الرهبانية في الأرض العربية المقدسة، وتحديدا في فترة احتلال الإمبراطورية الرومانية لبلاد الشام، حيث كانت الإمبراطورية آنذاك معادية للديانة المسيحية؛ فلاحقت أتباعها لأكثر من ثلاثة قرون. وفي الموقع، يمكننا رؤية جدران وأسس كنيستين، إضافة إلى مقبرة وحمامات، وغرفة العماد وأرضيات فسيفسائية.
آثار دير هيلاريون اكتشفت في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، إلا أن السلطة المحلية تواجه صعوبة في الحفاظ عليها، نظرا لافتقارها إلى القدرات والدعم والمعدات اللازمة، بسبب الحصار الإسرائيلي الهمجي المفروض على قطاع غزة.
واللافت أن طلاباً من الجامعة الإسلامية في غزة، ومؤسسة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة، و"الإيكول بيبليك" (المؤسسة الأكاديمية الفرنسية الناشطة في القدس) تجندوا في السنوات الأخيرة للمساعدة في ترميم وصيانة الموقع الأثري. وتنطوي أعمال الصيانة على تغطية الأرضيات الفسيفسائية بطبقة من الرمل، وإسناد الجدران المتداعية بأكياس الرمل بهدف تثبيتها، وإزالة الأعشاب الضارة. وتكمن المشكلة الحقيقية في نقص القوى البشرية الماهرة؛ إذ لا يمتلك الفريق الذي انضم إلى العمل بعد عام 2007 ما يكفي من الخبرة. وبشكل عام، يمكننا القول بأن حالة بعض المواقع الأثرية في غزة مهددة بشكل جدي.
وبحسب المعطيات التي لدى مجلة آفاق البيئة والتنمية، يقدر المبلغ السنوي اللازم للحفاظ على موقع القديس هيلاريون الأثري وصيانته بنحو خمسين ألف دولار سنويا. وبالرغم من تبرع اليونسكو التي تشرف على أعمال صيانة الآثار في غزة، إلا أنه ينقص التمويل الضروري لاتخاذ إجراءات الطوارئ اللازمة للحفاظ على الموقع الأثري.
وفي موقع أثري آخر يبعد نحو مائة متر من مخيم جباليا أكبر مخيمات اللاجئين في قطاع غزة، نجد أرضية من الفسيفساء من القرن السادس الميلادي وقد تم نسبيا الحفاظ عليها؛ ولكنها، قد تحتاج إلى ساتر خرساني لحمايتها من أحوال الطقس. وتعتبر الأرضية جزءاً من كنيسة بيزنطية أقيمت على الطريق من غزة إلى القدس.
أعمال الكشف عن الأرضيات الفسيفسائية في دير القديس هيلاريون في غزة - تصوير AP
ويقدر الخبراء بأن عشرات المواقع الأثرية مدفونة تحت رمال غزة. ويتكشف العديد منها أثناء أعمال البناء المكثفة في المنطقة، إلا أن الأهالي لا يبالون بإبلاغ السلطات عن التحف الأثرية التي عثروا عليها.
لا يوجد في غزة سوى عدد قليل من المتاحف المتواضعة التي تربط المواطنين بتراثهم؛ فوزارة السياحة والآثار تشرف على متحف قصر الباشا، كما أن جودت الخضري صاحب شركة بناء أقام متحفا خاصا. وفي الوقت نفسه، يتراكض خبراء الآثار في غزة كالمجانين في كل اتجاه، في محاولة منهم لوقف الدمار الزاحف على تراثنا الأثري والحضاري الذي لا يقدر بثمن.