الأديب المصري نجيب محفوظ
( البيئة مصدر الإلهام )
إن ما يحركني، حقيقة، عالم الحارة، هناك البعض يقع اختيارهم على مكان واقعي أو خيالي، أو فترة من التاريخ، لكن عالمي الأثير هو الحارة، أصبحت الحارة خلفية لمعظم أعمالي حتى أعيش في المنطقة التي أحبها، لماذا تدور الحرافيش في الحارة ؟ كان من الممكن أن تجري الأحداث في منطقة أخرى في مكان آخر له طبيعة مغايرة، إنما اختيار الحارة هنا لأنه عندما تكتب عملا روائيا طويلا، فإنك تحرص على اختيار البيئة التي تحبها، التي ترتاح إليها، حتى تصبح " القعدة حلوة ".
نجيب محفوظ – سيرة ذاتية وأدبية
( التنبؤ الطبيعي )
الثورة عند الأديب تبدأ في قلبه أولا، وفي تفاعله مع الناس ثانيا. تبدأ في إحساسه بالتنبؤ الطبيعي الذي لا أعتقد أن فنانا يستحق هذا الاسم خال منه، لأن الفنان الأصيل كالحيوان، كالعصافير والفيلة والنسور التي عندما تحس بخطر محدق تصدر بالغريزة أصواتا خاصة للملأ أن خطرا ما آت. والفنان إذا لم يكن عنده هذا القدر من الإحساس العام الذي يجعله ويجعل أدبه في مستوى النبوءة متضمنة دعوة إلى هذا الاتجاه أو ذاك، تكون أجهزته كلها معطلة أو مختلة. إن الفنان في الواقع لا يتنبأ وإنما يحس الرؤيا، رؤيا الواقع.
من كتاب " نجيب محفوظ يتذكر"
( البيئة الآسرة )
تسقط الأمطار فوق الأرض ولا تتلاشى في الفضاء، وتومض الشهب ثانية ثم تتهاوى. والأشجار تستقر في منابتها ولا تطير في الجو، والطيور تدوّم كيف شاءت ثم تأوي إلى أعشاشها بين الغصون. ثمة قوة تغري الجميع بالرقص في منظومة واحدة. لا يدري أحد ما تعانيه الأشياء في سبيل ذلك من أشواق وعناء، مثلما تتلاطم السحب فتنفجر السماء بالرعود.
( ملحمة الحرافيش )
( هي وهو )
تربعت فوق الحشائش، ووهبت حواسها وروحها للماء والخضرة والسماء المنقوشة بالسحائب المبعثرة، وهو ينظر إليها بإعجاب وافتتان، وتحدثه عن سحر الطبيعة فيجاملها بالموافقة، ويجول بنظره في الآفاق فيرى مناظر لم تجذبه من قبل ولا يشعر نحوها بسحر ما؛ أجل إنه منغمس دوما بالداخل، في أفكار محدودة وخيالات تنفثها الغرائز، في الله ومجده الدنيوي المقدس، وصراع الخير والشر والفساد، عدا ذلك فهو لا يرى من الدنيا شيئا.
( حضرة المحترم )
( البيئة والحرية )
أقصر حديثي الآن على القوى المتربصة بحريتنا... ثم يجيء دور قوى جديدة خارج المجتمع، منها البيئة، وأثرها معروف في النشاط والكسل، في القوة والضعف، الإيجابية والسلبية...
هناك الأرض نفسها، الكرة الأرضية، فهي بجاذبيتها وحركتها محدد له وزنا وأسلوبا في الحركة وحدودا لا يمكن تجاوزها؛ هناك أيضا الشمس وأشعتها وانفجاراتها الموسمية، بل هناك النظام الشمسي كله فيما نعرف من آثاره وما نجهل، ولك أن توسع تصورك حتى يشمل الكون كله ما ظهر منه وما غاب؛ الكون كله يؤثر في حريتنا، ويكون لذلك نتائجه في سلوكنا وتصوراتنا؛ أما الإنسان الغافل فقد يعتقد أنه حر حرية مطلقة، أو أنه لا يؤثر فيه إلا عقدة أوديب، أو عوامل اقتصادية، ثم تجيء بعد ذلك قوى غريبة خارجة عن التصنيف المنطقي، تبدو عارضة لا معقولة نسميها مصادفات أو ما شئت من أسماء، ولكنها مع ذلك تقلب الحساب رأسا على عقب في لحظة خاطفة، وهي لا حصر لها: مقابلة غير متوقعة، ضياع رسالة في البريد، حادث قطار أو سيارة، وسقوط جسم فجأة إلخ إلخ، فهل تستطيع أن تتجاهل القوى المؤثرة في حرية الإنسان، وبالتالي في مصيره ؟
( الشيطان يعظ )
( الحلم الوردي )
كان وما زال، حلمي الوردي أن أستقر بعد المعاش في بيت ذي حديقة صغيرة، وأن أكرس بقية العمر لفلاحة الأزهار والبساتين؛ ومن أجل تحقيق هذا الحلم رسمت لنفسي خطة طويلة الأمد: أن أبذل في عملي أقصى ما أملك من جهد كي أرقى في سلمه إلى درجة تضمن لي معاشا محترما، وأن أسيطر على سلوكي ونظام معيشتي كي أدخر من مرتبي ما ييسر لي بناء البيت المنشود بعد انضمامي إلى إحدى الجمعيات التعاونية، وأن أدرس دراسة متأنية فلاحة الأزهار والبساتين.
جرت الأقدار في مجاريها غير عابئة بحلمي الأثير ( فلم أوفر شيئا لبناء بيت أو حديقة أو غيرهما، ولكن في المقابل ) بلغت دراستي لفلاحة الأزهار والبساتين غاية يعتد بها، فسنحت لي فكرة مثيرة وهي أن أستثمر معلوماتي متطوعا بلا أجر. ألا يجعل ذلك من الحلم حقيقة ؟ ومن المستحيل ممكنا ؟ إن الحدائق الخاصة في حينا متوفرة بكثرة تفوق الحصر، وإذا عرضت على أصحابها خدماتي فلن يرفضوها، ولو على سبيل مجاملة الجار. بذلك لا يهدر عنائي الطويل المتواصل ولا يتلاشى سروري في الحياة، وها أنا أمضي البقية الباقية من حياتي في الخضرة، وبين الأزهار، دون حاجة إلى تدبير أو شراء أو بناء، وكأنني أملك بدل الحديقة الواحدة عشرا.
هكذا حققت حلمي متجاوزا كافة عقبات الطريق.
( التنظيم السري )
( البيئة الأولى )
عبثا أحاول تذكر حياتي في مجراها المفعم بالوجود قبل ساعة الميلاد. تلك النبضة المنبثقة من تلاقي جرثومة متوترة ببويضة متلهفة في أول مأوى آمن يتاح لي. في أي غيب كنت أهيم قبل ذلك منطلقا مع تيار متصل غير محدود من الذكور والإناث، تشارك في مهرجانه فرق عديدة من النبات والحيوان وعناصر الطبيعة من ماء وتراب وحرارة وبرودة، في تناغم مع دورة الأرض والقمر والشمس، في حضن درب التبانة العظيم الماضي في حوار دائم مع دروب لا نهاية لها.
( التنظيم السري )
(البيت أيضا )
رغم عنايتي الملحوظة بنظافة جسدي وصحتي العامة، فإن الإحساس بالقذارة والمرض يلح علي كفكرة ثابتة أو جو ثقيل جاثم، لست أقيم في جسد وأطراف فحسب، ولكن أيضا في شقة عتيقة بالية، وعطفة هرمة تغوص في النفايات. تعرى السقف من الطلاء، وتكشف في مواضع عن عروق لا لون لها، وتشققت الجدران في خطوط متوازية ومتقاطعة، وانفجرت الأرضية عن نتواءات وثغرات تلاطم باطن القدم تحت الأكلمة ( = البسط ) المتهرئة، والسقف والجدران تنضج صيفا بالحرارة وترشح شتاء بالرطوبة، أو برشاش المطر، ودرجة منه تصدعت فتهاوى نصفها، وأصبحت عثرة في طريق الصاعد والهابط، وخطرا لا يستهان به في ظلمة الليل.
( التنظيم السري )
( الأم المحبة للبيئة )
( كانت الأم ) تأبى إلا أن تشرف على كل صغيرة وكبيرة بالبيت، وإذا فرغت الفتاتان من عملهما ( البيتي ) نشطت هي بالمكنسة في يد والمنفضة في يد، وراحت تتفقد الحجرات والصالات والدهاليز، متفحصة الأركان والجدران والستائر وسائر العفش، عسى أن تزيل نقطة غبار منسية، واجدة لذة وارتياحا، كأنما تزيل قذى من عينيها.
أحبت الدجاج والحمام ( اللذين كانت تربيهما على السطح ) كما تحب مخلوقات الله جميعا، فهي تناغيها مناغاة رقيقة تحسب أنها تفهمها وتتأثر لها؛ ذلك أن خيالها يخلع الحياة الشاعرة العاقلة على الحيوان وأحيانا على الجماد نفسه، وعندها بمنزلة اليقين أن هذه الكائنات تسبح بحمد ربها، وتتصل بعالم الروح بأسباب، فعالمها بأرضه وسمائه، حيوانه ونباته، عالم حي عاقل. ثم لا تقتصر مزاياه على نعمة الحياة فيكملها بالعبادة. لم يكن غريبا بعد هذا أن تكثر معاتيقها من الديوك والدجاج معتلة بسبب أو آخر. هذه لأنها معمرة وتلك لأنها بياضة، وهذا لأنها تستيقظ على صياحه، ولعلها لو تركت وشأنها ما ارتضت أن تعمل سكينها في رقابها، وإذا دعتها الظروف إلى الذبح تخيرت الدجاج أو الحمام فيما يشبه الضيق، ثم تسقيها وتترحم عليها وتبسمل وتستغفر وتذبحها، وعزاؤها أنها تستمتع بحق منحه الله المنان، وأوسع به على عباده.
أما أعجب ما في السطح فكان نصفه الجنوبي المشرف على النحاسين حيث غرست يداها في الأعوام الخالية حديقة فريدة لا نظير لها في أسطح الحي كله، التي تغطى عادة بقاذورات الدواجن؛ بدأت أول ما بدأت بعدد قليل من أصص القرنفل والورد، وراحت تستكثر منها عاما بعد عام، حتى نضدت صفوفها بحذاء أجنحة السور، ونمت نموا بهيجا، وخطر لخيالها أن تقيم فوق حديقتها سقيفة، واستدعت نجارا فأقامها، ثم غرست شجرتي ياسمين ولبلاب، ثم أنشبت سيقانها في السقيفة حول قوائمها فاستطالت وانتشرت حتى استحال المكان بستانا معروشا ذا سماء خضراء ينبثق منها الياسمين، ويتضوع في أرجائها عرف طيب ساحر. هذا السطح سكانه من الدجاج والحمام، وبستانه المعروش هو دنيا الجميلة المحبوبة، وملهاها الأثير في هذا العالم.
( بين القصرين )
( جنة أدهم )
لم يكن يطيب له الجلوس إلا في الحديقة. كان عاشقا للحديقة منذ درج، وكان عاشقا للناي، ولازمته تلك العادة بعد اضطلاعه بشؤون الوقف، وإن لم تعد تستأثر بجل وقته. فكان إذا فرغ من عمله، في الوقف افترش سجادة على حافة جدول، وأسند ظهره إلى جذع نخلة أو جميزة، أو استلقى تحت عريشة الياسمين، وراح يرنو إلى العصافير، وما أكثر العصافير! أو يتابع اليمام، وما أحلى اليمام! ثم ينفخ في الناي محاكيا الزقزقة والهديل والتغريد، من أبدع المحاكاة، أو يمد الطرف نحو السماء خلال الغصون وما أجمل السماء!
قال أدهم لنفسه
الحديقة وسكانها المغردون، والماء، والسماء، ونفسي النشوى، هذه هي الحياة الحقة، كأني أجد في البحث عن شيء، ما هذا الشيء ؟ الناي أحيانا يكاد يجيب، ولكن السؤال يظل بلا جواب. لو تكلمت هذه العصفورة بلغتى لشفت قلبي باليقين. وللنجوم الزاهرة حديث كذلك. أما تحصيل الإيجار فنشاز بين الأنغام.
وقال أدهم لأميمة
إني أحب هذه الحديقة، لم يكن في حياتي الماضية أطيب من جلساتها، وتكاد أشجارها الباسقة ومياهها المفضضة وعصافيرها المزقزقة تعرفني كما أعرفها، وأود أن تقاسميني حبها، أرأيت إلى السماء كيف تبدو خلال الغصون ؟ فرفعت عيينها مقدار لحظة ثم نظرت إليه باسمة، وقالت:
- إنها جميلة حقا، وجديرة بأن تكون أطيب ما في حياتك؛ فآنس من قولها العتاب دون إفصاح وبادرها قائلا :
- بل كانت كذلك قبل أن أعرفك...
- والآن ؟
- فضغط على يدها بحنو قائلا:
- لا يتم جمالها إلا بك.
( أولاد حارتنا )
( قاسم وأغنامه )
لم يكن في الخلاء من مكان يستظل به من وقدة الشمس الغاضبة إلا صخرة هند. هناك اقتعد قاسم الأرض ولا أنيس له إلا الغنم.... كان يخلو إلى نفسه حينا، ويراقب النعاج والخرفان والمعز والحداء حينا آخر، وعصاه مطروحة إلى جانبه.. وكان إذا أضنته أفكاره وأحلامه ونوازع شبابه الفائر سرح الطرف في الغنم، ملاحظا لهوها وعبثها، وتخاصمها وتواددها ونشاطها وكسلها، وخاصة البهم والحملان منها التي تستدر عطفه ومحبته، وكانت تعجبه أعينها الكحلاوات وتهز فؤاده بنظراتها كأنما تخاطبه، وكان بدوره بخاطبها فيقارن ما تلقى في رعايته من عطف وما يلقى أولاد حارته تحت غطرسة الفتوات من هوان....
( أولاد حارتنا )
( الشيء بالشيء يذكر )
أرسل بصره من النافذة (نافذة القطار) فارّا من أفكاره، فرأى الحقول تترامى حتى الأفق، والخضرة يافعة ناضرة بهيجة، تميل رؤوسها مع الهواء في موجات متصلة، وهنا وهناك فلاحون وثيران تلوح كالدمى تكاد تبتلعها الأرض، وسوائم ترعى، وفوق هذا كله سماء الخريف متلفعة ببياض شاحب ينحسر في أكثر من موضع عن بحيرات من زرقة صافية.
مر القطار بجدول صاف، ذابت أشعة الشمس على سطحه زئبقا يبهر الأعين، ورأى أسلاك البرق في أمواجها المتواصلة تشملها حركة منتظمة كأنها تسبح في الفضاء على وقع طقطقة القاطرة الرتيبة، ثم مد بصره مرة أخرى إلى الأرض المنبسطة الصامتة المصابرة الخيرة، فذكر دون وعي أمه !.. كهذه الأرض الخضراء صبرا وجودا والدهر يحرثها بسنانه !.. لم يعد بوسعها أن تقوم بزيارة محترمة لأنها لا تجد الثياب اللائقة، وتغيمت عيناه فغابت عن ناظريه بهجة المنظر، ودعا الله أن يرزقه حتى يرفه عن أمه المتصبرة وأسرته المتجلدة.
( بداية ونهاية )