مساكين خبراء الأمم المتحدة. هم يجهدون منذ عشرات السنين لدراسة الأزمات والمشكلات العالمية وابتداع المفاهيم والخطط والتشاور مع الحكومات والقطاع الخاص لإيجاد اتفاقيات وآليات للمعالجة... حتى أصبحوا ميكانيكيين مطواعين مسالمين جاهزين لأية تسوية. يحملون لغة شبيهة بلغة أساتذة "مدرسة تحت السنديانة" لتعليم اللغات عبر تعليم التلاميذ على تكرار الكلمات نفسها. الفقر، التنمية، المؤشرات... كم تتكرر هذه الكلمات في النهار الواحد؟!
يعتقدون أنهم يعرفون المشاكل ويعرفون مصادرها ولا يملكون سوى التحاور مع المتسببين بها. نتيجة هذا الحوار، وبعد طول مفاوضات، تحصل تسويات. المشكلة أنهم على الممارسة، ما عادوا يعترفون أنهم أنتجوا "مفاهيم تسوية" ويريدون ان يقنعوا أنفسهم والآخرين ان مفاهيمهم هي الحل. أقنعوا أنفسهم بعد طول جدل مع الحكومات والقطاع الخاص وممثلي الشركات الكبرى التي تمول بعض دراساتهم، ان المفاهيم التي أنتجوها مثل التنمية والتنمية الإنسانية والتنمية المستدامة... هي فعلاً مفاهيم منقذة. او هي في أقل تقدير مفاهيم "واقعية". إلا أنهم مع طول الاستخدام، باتوا يريدون تسويق الوقائع كحقائق. وما عاد لهم قدرة على التمييز بين قوة الأمر الواقع وقوة المنطق والحقيقة. ما عاد يهمهم ان يتطابق الفكر مع الواقع، المهم عندهم أن يتطابق الواقع مع الواقع. المهم مصالحة الواقع مع واقع المصالح لا محاولة تغيير الواقع باتجاه مثال ما أكثر عدلاً وإنصافاً. غياب المثال مقصود. خوفا من اتهامهم بالمثاليين من الذين لديهم مصلحة بما هو واقع. غياب الخلفية الفكرية ايديولوجيا عندهم، بالرغم من تهرّبهم من التصنيفات الأيديولوجية والفكر الشمولي. يكتفون بما يسمى البرامج وبعض الأهداف وبعض المؤشرات للتحقق من مدى تحقيق تلك الأهداف. من أجل ذلك تتحجّم أهدافهم سنة بعد أخرى تحاشياً للفشل. وبالرغم من ذلك يفشلون. فأين شعارات التنمية؟ أين محاربة الفقر والجوع في ظل تضاعف هذه الحالات سنة بعد أخرى، بدلاً من أن تتراجع.
كل الشعارات والأهداف ترجمت بنقيضها، لا بل فتحت أسواقاً جديدة لأصحاب المصالح إياهم. فحق الوصول إلى المياه كهدف، زاد من تجارة المياه المعبأة وأوصل المياه الغازية للشركات الكبرى المعولمة الى كل مكان. والحق في الوصول الى مياه آمنة ونظيفة، فتح باباً للكثير من الشركات التي تعمل في إنشاء محطات لمعالجة الصرف الصحي. وحق الوصول الى المعلومات (الذي استحدث مؤخراً كهدف من أهداف التنمية) فتح سوقاً معلوماتياً جديداً لتسويق التكنولوجيا الحديثة من كمبيوتر الى الهواتف الذكية النقالة... وكانت النتيجة، كثرة في المعلومات وقلة في المعرفة، وقد زاد الإنسان الحديث جهلاً... الخ.
فشلت التجارب الفكرية. والمفاهيم المنقذة والواقعية باتت عوائق أمام الحلول الجذرية التي تتطلبها القضايا، إن لناحية قضية الفقر او قضايا الاقتصاد او قضايا البيئة. أتى من يقول لهم ان هناك علّة في المفاهيم. وان هذه المفاهيم التي يروجون لها، في طليعتها مفهوم "التنمية"، هي مفاهيم جماعات تاريخية معينة، معقدة، مريضة، مهووسة بحب التملك والسيطرة والتفوق والاحتكار والاستغلال... تسببت بكوارث وخلقت مشاكل أكثر تعقيداً من تلك التي ادعت معالجتها... كان يجب التخلي عنها بدل السعي الىتعميمها عالمياً. إلا أنهم أبقوا عليها وتمسكوا بها حتى الفشل. يعترفون ضمنياً اليوم بالفشل. فالفقر قد زاد وعدد الجياع أيضاً. الاقتصاد زادت أزماته، لا بل دمرت "التنمية" أسس الحياة واستنزفت الموارد، ويتصرف الذين عاشوا في الفترة الأخيرة كأنهم آخر جيل من الكائنات الإنسانية على الأرض!
وبدل إعادة النظر في كل شيء، لاسيما في مفهوم "التنمية" نفسه، يبحثون اليوم في مشاريع وخطط جديدة للتنمية لما بعد العام 2015 ويتشاورون مع الجميع وفي طليعتهم "المجتمع المدني"، لبلورة هذه الخطط... وكأن "التنمية" قد باتت قدراً كالكوارث نفسها! او كان هناك من يتقصّد تنمية الكوارث والاستثمار فيها، كجزء من اقتصاد السوق المسيطر الذي كان يفترض ضبطه بدل التصالح معه.