منذ بدايات القرن العشرين، اهتم المفكر والصحفي نجيب نصار مؤسس صحيفة "الكرمل" عام 1908، بعمليات شراء الأراضي في فلسطين وفي سنجق عكا بالتحديد من قبل اليهود، وبالسيادة الصهيونية على فلسطين. بنفس الوقت، كان يقدم حلاً متمثلاً بإنشاء منظمات عربية لشراء الأراضي واعتقد بضرورة هذا الأمر، وإلا سيأتي يومٌ ما تصبح فيه الكلمة الحاسمة للصهاينة. يقول نصار لو أن لنا فقط نصف الشغف وحس الاعتزاز والشرف الذي كان لأجدادنا بمجتمعنا العثماني، لما كان حلم الصهاينة بأخذ أرض أجدادنا ممكناً ولو بالمال. ولاحظ أيضاً أن أكثر أراضي فلسطين خصوبة كان يتم بيعها، وقام بانتقاد قصرِ النظر لدى وجهاء الدولة. كمالاحظ أن تركيز الصهاينة كان على أكثر مناطق فلسطين خصوبة كمرج ابن عامر ومنطقة وادي الأردن، وقال إن السيطرة على هذه المناطق سوف تسبب الاختناق للفلسطينيين، وسيتركون دون مصادر اقتصادية. وأدرك نصار مبكرا، أن الفلسطينيين لا يستطيعون أن يعتمدوا لا على الحكومة ولا على الممثلين الغير فلسطينيين، وأن بإمكانهم الاعتماد فقط على أنفسهم، واعتقد أن السيطرة على الأرض هي العامل المقرر في الصراع العربي الصهيوني، وأنه إذا توقف بيع الأراضي، فلن يكون للصهاينة مجال للتوسع، وسيكون مصير مشروعهم الفشل، واعتبر الذين يبيعون أراضيهم للصهاينة خونة. واعتبر نصار أن الأرض هي ملك لأولئك الذين يزرعونها ويعمرونها وليست للذين يعيشون عليها ولا يهتمون بها. وكان متأكداً أنه في حال أصبح إنتاج الفلاحين الفلسطينيين أكثر ازدهاراً، فإن هذا سيقلل من احتمالات بيع الأراضي، أو على الأقل جعل هذه العملية أصعب. وكان مصراً على توثيق حقيقة "أن القوة كانت تبنى من خلال الجمع بين المعرفة التقنية والحياة الزراعية البيئية".
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
هناك العديد من الشخصيات الفلسطينية التي أثرت الأيديولوجية الفلسطينية التحررية وأضافت لها الكثير، وهذه الشخصيات تستحق دراستنا ويجب تعريف الجيل الحالي وتوعيته بها. إحدى هذه الشخصيات هو المفكر والصحفي نجيب نصار (١٨٦٢-١٩٤٨) الذي ولد في قرية عين عنوب في لبنان، واشتهر بكتاباته المناهضة للصهيونية. بعد إنهاء دراسته الثانوية، انتقل نصار إلى مدينة صفد الفلسطينية حيث عمل في صيدلية لأخيه هناك، ومن ثم عمل في مستشفى الإرسالية الاسكتلندية في مدينة طبريا، كمساعد صيدلي. لاحقاً وبعد ١٥ سنة، ترك عمله في المشفى وقام بشراء قطعة أرض وكرس نفسه للزراعة.
مع تغير الوضع السياسي تأثراً بثورة تركيا الفتاة، باع نجيب نصار أرضه وقام بشراء طابعة صحفية وأصدر عبرها صحيفة الكرمل عام ١٩٠٨. تبلور موقف نجيب نصار السياسي بعد ملاحظته لعمليات شراء الأراضي التي كانت تتم قضاء طبريا، إضافة إلى أنه من خلال قراءته لدراسة عن الصهيونية؛ استطاع أن يضع مسار الظروف المحلية في سياق أوسع. مع الوقت، توصل لمفاد أنه إذا استمر الوضع على ما كان عليه؛ وإذا استمرت التطورات على حالها، فسيتم بالنهاية الإستيلاء على فلسطين من قبل الصهاينة.
 |
الزراعات الفلسطينية الثرية والمنوعة قبل احتلال عام 1948 |
الأرض والهوية والصهيونية
كانت صحيفة الكرمل تصدر مرتين بالأسبوع في حيفا، ومعظم المقالات التي تم نشرها في السنين الأولى غير موجودة حالياً، ولكن تم حفظ العديد من مقالات صحيفة الكرمل التي تم نشرها في صحف أخرى. اهتمام نصار الأساسي لم يكن بالهجرة اليهودية بالتحديد، بل كان بعمليات شراء الأراضي في فلسطين وفي سنجق عكا بالتحديد من قبل اليهود، وبالسيادة الصهيونية على فلسطين. بنفس الوقت، كان يقدم حلاً متمثلاً بإنشاء منظمات عربية لشراء الأراضي واعتقد بضرورة هذا الأمر، وإلا سيأتي يومٌ ما تصبح فيه الكلمة الحاسمة للصهاينة.
في إحدى مقالاته، انتقد نصار قلّة اهتمام العرب بتاريخهم وعدم افتخارهم بالأحداث والشخصيات المهمة. بالمقابل، فإن موقف المهاجرين اليهود من ماضيهم كان يختلف تماماً. يقول نصار لو أن لنا فقط نصف الشغف وحس الاعتزاز والشرف الذي كان لأجدادنا بمجتمعنا العثماني، لما كان حلم الصهاينة بأخذ أرض أجدادنا ممكناً ولو بالمال.
في صيف ١٩١٢، وصل المتصرف الجديد "مهدي بك" إلى القدس وفي وقت لاحق زار مستوطنة ريشون ليتسيون بحيث قام بإلقاء خطاب مدح به المستوطنين اليهود ووصفهم بنموذج للقرى العربية يحتذى بهم. صحيفتي الكرمل وفلسطين هاجمتا هذا التصريح بشدة، وقال نصار أنه لأمر مؤلم أن يصرّح ممثل من الحكومة بهذه الأقوال التي يتوقع بها من أعداء الوطن أن يكونوا أساتذة وملهمين للسكان الأصليين والفلاحين.
توجه نجيب نصار للفلاحين العرب ونصحهم بأخذ حذو الصهاينة الذين سعوا لإحياء أمتهم ووحدتها على أرض هؤلاء الفلاحين وعلى حسابهم. لاحظ أيضاً أن أكثر أراضي فلسطين خصوبة كان يتم بيعها، وقام بانتقاد قصرِ النظر لدى وجهاء الدولة، وقارن مستقبل فلسطين بليبيا ومقدونيا. كان نصار خائفاً على الفلاحين العرب وعلى مستقبلهم ومن أثر الهجرة اليهودية والاستعمار على السكان الأصليين، وكان أيضاً مخلصاً للإمبراطورية العثمانية وخائفاً من انشقاق فلسطين عنها.
لاحظ صاحب صحيفة الكرمل أن تركيز الصهاينة كان على أكثر مناطق فلسطين خصوبة كمرج ابن عامر ومنطقة وادي الأردن، وقال أن السيطرة على هذه المناطق سوف تسبب الاختناق للفلسطينيين، وسيتركون دون مصادر اقتصادية. مع الوقت، أدرك نصار أن الفلسطينيين لا يستطيعون أن يعتمدوا لا على الحكومة ولا على الممثلين الغير فلسطينيين، وأن بإمكانهم الاعتماد فقط على أنفسهم، وأنه إذا أرادوا أن ينظر العرب إلى مصالحهم ويروجوا لها فعليهم دمج القوات مع بعضهم البعض، وإنشاء منظمة وطنية مناهضة للصهيونية لحماية الوطن وحفظه لسكانه الأصليين من خلال تطوير الزراعة، الاقتصاد والعلم، وتحقيق التناغم الاجتماعي. برأيه، أنه في حال تم تحقيق ذلك، فإن الأحزاب السياسية لن تكون قادرة على تهميش فلسطين ومشاكلها، بل سيسعون للحصول على دعم المنظمة. كما دعا نصّار لإقامة مؤتمر في نابلس تنبثق عنه المنظمة الوطنية، واستمرت جهوده على مدى شهور لتحقيق هذه الغاية.

زراعات البرتقال الفلسطيني في يافا قبل احتلال عام 1948- المصدر -وليد الخالدي
دعم الزراعة والفلاحين
في مقالة له صدرت في بداية عام ١٩١٤، قال نجيب نصار أن مصير السكان المحليين معرض للخطر، ولمواجهة ذلك بنجاح يجب ألا يبيع العرب أراضيهم، ويجب أن يطوروا أنفسهم اقتصادياً، واقترح عدة حلول منها تحديث الزراعة، إعطاء قروض للفلاحين بشروط معينة، وتطوير التعليم. واعتقد أن السيطرة على الأرض هي العامل المقرر في الصراع العربي الصهيوني، وأنه إذا توقف بيع الأراضي، فلن يكون للصهاينة مجال للتوسع، وسيكون مصير مشروعهم الفشل، واعتبر الذين يبيعون أراضيهم للصهاينة خونة. اعتقد نصار أيضاً أن المنظمة الصهيونية بدأت حرباً اقتصادية من غير مسدسات، وأن نواياها وأهدافها كانت واضحة.
مع اعتراف نصّار بأن المال مهم في المعركة الفلسطينية وإقراره بالصعوبة التي يواجهها الفلاحون لاقتراض الأموال، لكنه أصّر على أن بيع الأراضي ليس الطريقة الصحيحة للحصول على المال، وأن هناك طرقاً بديلة لذلك، واقترح تأسيس مؤسسات مالية تستطيع أن توفر قروضاً للفلاحين بفوائد قليلة. اعتقد نصار أن الأمة إذا كانت ناشطة وواعية ومتعلمة، فإنها لن تسمح بحدوث كل ما يناقض مصلحة السكان المحليين.
وقد أبدى نجيب نصار رأيه في مقالة للكاتب شبلي شميل والتي يقول فيها أن الأرض هي ملك لأولئك الذين يزرعونها ويعمرونها وليست للذين يعيشون عليها ولا يهتمون بها، فيقول نصار أن العرب لا يجب أن يشتكوا من الصهاينة، بل يجب أن ينافسوهم بتعمير الأرض وزراعتها، ويقول أنه يمكن للفلسطينيين حفظ كرامتهم فقط من خلال المقاومة بالمنطق والهدف، ويشبّه الشكوى من منافسة الصهاينة كبكاء طفل، أي لا جدوى منها.
لاحظ نصار الأثر السلبي لشراء الأراضي من قبل الصهاينة، ولاحظ أنهم نادراً ما يتعاملون مع السكان المحليين تجارياً، بحيث أنهم يبيعونهم السلع من أجل الحصول على المال، ويقاطعون الإنتاج المحلي بنفس الوقت، إلا عندما لا تتوافر سلع معينة لدى إخوانهم، وهذا لأنهم لا يريدون للفلسطينيين أن يكسبوا الأموال لأنها مصدر قوة، وممكن أن يستخدمه الفلسطينيون للحفاظ على وجودهم.
في الأشهر الأخيرة قبل إغلاق صحيفة الكرمل، كان نجيب نصار متفائلاً، وأعطى اهتماماً كبيراً للمؤسسات والمجتمعات الفلسطينية الشبابية التي كانت ما تزال في بداياتها في فلسطين والمناطق المجاورة. كان في مقالاته يشجع الشباب لأن يكون لهم رأيٌ عام ونشاط واضح ضد الاضطهاد، وأن يكونوا على استعداد لتحسين وتطوير الأراضي الزراعية. اعتقد نصّار أيضاً أن الفلسطينيين بحاجة لثلاثة أنواع من المؤسسات، مدارس تقنية، بنوك أراضي، وشركات زراعية.
الزراعة التقليدية الفلسطينية
كما نعلم، فإن الزراعة الجافة أو البعلية كانت تمارس بشكل كبير في فلسطين، وتشكل إحدى معالم الزراعة التقليدية لدى السكان الأصليين. في مقال للأستاذ عمر تسدال، يناقش فيه الزراعة الجافة وأهميتها بتاريخ كل من المنطقة العربية وأمريكا الجنوبية وكيفية ربطها بأشكال القوى الحديثة والسيادة، يقترح أن الاهتمام الأمريكي في علوم الزراعة الجافة كان نتاج لحاجة عملية تهدف للحفاظ على استعمار السهول العظمى في أمريكا والذي أصبح لاحقاً جهداً مشتركاً لعدد من المؤسسات الاستيطانية مثل أستراليا، كندا والحركة الصهيونية. يعتقد تسدال أن الاهتمام بعلم الزراعة الجافة من قبل هذه المؤسسات هو بالأساس يخدم هدف تكنو -سياسي يسعى لتوطين السيطرة الحديثة. قدّم تسدال في مقالته "المفكر نجيب نصار" والأيديولوجية الفكرية التي كان يدعو لها بما يتعلق بالزراعة، بحيث أن نجيب نصار كان يعتقد أن أساليب الزراعة الجافة الحديثة وبالأخص ما يتعلق بتحسين التربة وزراعة الأشجار سيكون لها أثر إيجابي كبير على القضية الفلسطينية.
كان نجيب نصار متأكداً أنه في حال أصبح إنتاج الفلاحين الفلسطينيين أكثر ازدهاراً، فإن هذا سيقلل من احتمالات بيع الأراضي، أو على الأقل جعل هذه العملية أصعب. ظهر الاهتمام بالزراعة الجافة كجزء من مشروع أوروبي- أمريكي استيطاني في القرن العشرين، يهدف لإحداث تغيير بالسهول العظمى غرب الولايات المتحدة والتي كان يُعتقد أنها غير صالحة للزراعة، من خلال زراعتها بالمحاصيل، كجزء من إعادة تشكيل الأرض لتحقيق زراعة استيطانية منتجة.
في فلسطين، الزراعة البعلية هي شكل من أشكال الزراعة الغير مروية، التي تعتمد على مياه الأمطار والتي مورست في فلسطين لأجيال عديدة وما زالت تمارس في العديد من المناطق. نجيب نصار اعتبر الزراعة الجافة الحديثة شكلاً من أشكال الزراعة البعلية والتي يتم فيها أقلمة المحاصيل أو الفواكه للاعتماد على مياه الأمطار فقط من أجل النمو، وعلى الأغلب فإن هذه الكلمة تعود لّلقب الكنعاني للإله بعل الذي ارتبط بحداد، الإله الكنعاني للزراعة والمطر.
في فترة الحكم البريطاني الاستعماري، تحول تركيز البحث العلمي الصهيوني لنموذج استيطاني جديد يعتمد على تربية الحيوانات بهدف إنتاج الألبان، وهذا يتطلب زراعة مروية للمحاصيل المنتجة للأعلاف. بنفس الوقت كان نصار يدعو الفلاحين لزراعة المزيد من الأراضي زراعة بعلية، بحيث أن الزراعة البعلية تتطلب مساحة أرضية كبيرة مقارنة بالزراعة المروية، التي بدورها تتطلب مساحة أرضية صغيرة للحصول على نفس كمية الإنتاج.
الزراعة لمنع تسريب الأراضي
باختصار، نجيب نصار رأى في الأراضي الجافة والعلوم الزراعية ميداناً مناسب يستطيع من خلاله الفلسطينيون أخذ موقف سياسيٍ لإثبات وجودهم. إضافة إلى ذلك، كان ينصح الفلاحين القريبين على مدينة الناصرة ببناء التربة وزراعتها وبالأخص زراعة الأشجار. ورأى بأنها الطريقة الوحيدة للخروج من الخطر المحيط بهم. النصوص المترجمة من قبل نصار كان من الصعب الحصول عليها من قبل الفلاحين في ذلك الوقت، ولكن نصار كان مصراً على توثيق حقيقة "أن القوة كانت تبنى من خلال الجمع بين المعرفة التقنية والحياة الزراعية البيئية".
كما نرى، فإن جلّ تركيز نجيب نصار قبل مائة عام في أيديولوجيته الفكرية تلّخص في أمرين. الأمر الأول هو اعتقاده بأهمية الوحدة العربية وضرورة التفكير بعمق في مجريات الأحداث السياسية، والأمر الثاني هو إيمانه بأهمية الأرض كمصدر قوة وإثبات وجود، وبضرورة تعمير الأرض تبعاً للإرث الزراعي في فلسطين والمتمثل جزئياً بتقنيات الزراعة الجافة.
في يومنا هذا، يفتقد الفلسطينيون هذه الأسس التي اعتقد نصار بأهميتها في معركتهم ضد الاضطهاد وفي سبيل الحرية، بحيث أن الوحدة العربية، بل والفلسطينية أصبحت حلماً وطنياً ابتعد كثيراً عن مساره. أما بالنسبة للأرض، فعمليات السيطرة الصهيونية على الأراضي وعمليات بيع الأراضي في تزايد مستمر، وبالتالي فإن مصدر قوة الفلسطيني الأصلي يتم نزعها تدريجياً وبشكل ممنهج لمحو أي أثر يثبت أحقيته بأرضه.
ما دعا إليه نجيب نصار يعدُّ كنزاً معرفياً ومفتاحاً من مفاتيح الحفاظ على الأرض الفلسطينية، ويُستخلص منه؛ ضرورة توعية الجيل الحالي بأهمية الأرض والإرث الزراعي الفلسطيني، والتفكير بعمق فيما يتعلق بالأحداث المحيطة بنا.
المصادر:
Beska, E. 2011. Anti-Zionist journalistic works of Najib Al-Khuri Nassar in the newspaper Al-Karmel in 1914. Asian and African studies.
Tesdell, O. 2015. Territoriality and the technics of drylands science in Palestine and North America. Intl.J.Middle east Stud. 47. Doi:10.1017/S0020743815000586