عندما تتحول "التنمية" الفلسطينية إلى غلاف لأمن الاحتلال...
خاص بآفاق البيئة والتنمية
لا ندري ما جدوى مواصلة التلهي بالحديث عن "السوق الحرة" و"تحرير التجارة" و"تنمية" الاقتصاد الفلسطيني التصديري، في ظل تواصل الحصار والاغلاق وتعميق تجزئة الضفة والقطاع الى "بانتوستانات" (معازل) إسرائيلية، وبالتالي انعدام الشروط الأولية والبديهية لاقتصاد السوق وتحرير التجارة والمتمثلة بالتكافؤ التبادلي والتنافسي وبحرية حركة قوة العمل والمنتجات الفلسطينية بين مناطق الضفة والقطاع أولا، وبين الأخيرة وإسرائيل والعالم الخارجي ثانيا.
والمسألة الأساسية هنا، أن إسرائيل نجحت في اعتقالنا جماعيا بداخل معازل سمح لنا فيها بممارسة النشاطات الشرطية ورفع العلم ومحاولة حل مشاكلنا المستعصية في مجالات العمالة والصحة والتعليم وغيرها، ضمن الموارد المالية الشحيحة، في الوقت الذي نحاصر به من كل الجهات بالجنود الإسرائيليين وآلياتهم العسكرية وبالمستعمرات والطرق "الالتفافية"، والجدار العنصري، وبالنتيجة فإن سلطة الاحتلال تسيطر علينا اقتصاديا وسياسيا وأمنيا وتحدد لنا الحرام والحلال.
أمام هذا المشهد الجيوسياسي – العسكري – الاقتصادي الكولونيالي، ماذا بقي لنا من التنمية الاقتصادية؟
في الحقيقة، من وجهة النظر الإسرائيلية، فإن "الأمن" الإسرائيلي والدور الوظيفي الأمني المنوط بالسلطة الفلسطينية، يعتبران الأصل والجوهر، وفيما عدا ذلك، فان "الصلاحيات" المدنية والاجتماعية و"الامتيازات" الوجاهية الممنوحة للسلطة، تعتبر هامشية وغير ذات أهمية، وتهدف إسرائيل استخدامها كحلوى تقدم للأخيرة لتتذوقها كلما أنجزت المهام الأمنية المنوطة بها، لدرجة أن إسرائيل تتحكم حتى في الرواتب الحكومية الفلسطينية التي تعتمد، أساسا، على إيرادات المقاصة التي تحولها إسرائيل للسلطة الفلسطينية. من هنا، تعتبر مسألة التعاون الأمني-المخابراتي بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية وأجهزة الأمن والمخابرات الإسرائيلية جوهرية ومصيرية بالنسبة للاحتلال، بل إنها مبرر وجود السلطة ذاتها. لذا، من الطبيعي أن تتكرر الزيارات واللقاءات المتبادلة بين القيادات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية وبعض مسؤولي الأجهزة الأمنية الفلسطينية. بمعنى أنه، ضمن الواقع الجيوسياسي الكولونيالي الحالي، من المستحيل صياغة وتطبيق استراتيجية تنموية (فلسطينية) علمية شاملة ومتكاملة، لأن الاقتصاد الفلسطيني الصناعي أو الزراعي أو الخدماتي يزال وسيبقى في المستقبل المنظور غير منعزل عن الرؤى والممارسات السياسية-الأمنية والاقتصادية لإسرائيل التي يمكنها التحكم بأية "خطة" تنموية "فلسطينية" أو أي مشروع صناعي أو "قرار" تنموي. إذ أن التصنيع، مثلا، مرتبط بالمواد الأولية والأطر الفنية والتسويق وآفاق تطوير المشاريع الصناعية والتأثير على التوازن السكاني والاجتماعي وغير ذلك من الجوانب التي تتحكم بها إسرائيل.
وفي الواقع، يكمن الحل الإسرائيلي الاستراتيجي للضفة والقطاع، في ما قامت وتقوم به إسرائيل على الأرض، من تحويل المناطق الفلسطينية، عمليا، الى محميات إسرائيلية، قد تتخذ لاحقا اسم "دولة" تجسد نظاما استعماريا داخليا، بدلا من النظام الاستعماري الخارجي، على نمط "البانتوستانات" التي اصطنعها في حينه النظام العنصري في جنوب إفريقيا، حيث تستمر إسرائيل في الاستفادة اقتصاديا من المحمية وفي التوفيق، أيضا، بين حاجتها للعمل العربي الرخيص من تلك المناطق (عند الحاجة)، وبين عدم مصلحتها في إلحاق فلسطينيي الضفة والقطاع سياسيا بها، وفي الوقت نفسه، تتخلص (إسرائيل) من مسؤوليتها السياسية والاجتماعية تجاه سكان المناطق الفلسطينية.
وتعمل إسرائيل على خنق مناطق الحكم الذاتي في ما يشبه المحمية الإسرائيلية التي لا تمتلك مقومات الوجود الذاتي المستقل، لدرجة ان الاستمرارية المالية لأجهزة السلطة الفلسطينية مرتبطة الى حد كبير بما تحوله إسرائيل والدول "المانحة" للأخيرة من أموال. ودون هذه التحويلات فإن السلطة الفلسطينية معرضة للإنهيار بمجرد وقف إسرائيل و"المانحين" تحويل الأموال اليها؛ إذ تشكل هذه التحويلات المالية نحو 70% من ايراداتها، وهي تغطي رواتب أكثر من 80% من موظفي السلطة.
وتتجسد هذه البنية الاستعمارية الداخلية في أرخبيل من الجزر المتناثرة والمنعزلة عن بعضها البعض والمحاصرة بأكثر من 150 مستعمرة وطرق التفافية وجدران عنصرية، بحيث لا يمكن التنقل بين هذه الجزر إلا بإذن من الاحتلال. بمعنى أنه لا يوجد أي تكامل جغرافي واقتصادي بين مختلف الأجزاء، ناهيك عن سلخ مدينة القدس عن سائر أنحاء الضفة الغربية التي تشكل القدس بالنسبة لها الرابط الطبيعي والاقتصادي بين شمالها وجنوبها. كما أن قطاع غزة تحول إلى معزل منفصل تماما، جغرافيا وبشريا واقتصاديا، عن الضفة الغربية، بحيث أن الارتباط الاقتصادي والجغرافي لكل منهما على حدة بإسرائيل أقوى من ارتباطهما ببعضهما البعض، الأمر الذي يجعل من المستحيل تكاملهما جغرافيا واقتصاديا وبشريا؛ ما يحولهما عمليا إلى محميتين إسرائيليتين منعزلتين تماما عن بعضهما.
دور الوكيل
في ظل هذا المشهد الجيوسياسي الفسيفسائي الرهيب، وفي ظل غياب كامل للسيادة السياسية والجغرافية على الأرض والموارد المائية والحدود غير المرسومة أصلا، وتحكم إسرائيل المطلق في حركة قوة العمل والسلع والصادرات والواردات ورأس المال، فمن السخافة بمكان الحديث عن اقتصاد موحد للضفة والقطاع، بل ومن المثير للشفقة مجرد القول بأن هناك تنمية أو اقتصاد "دولة".
وإزاء هذه العلاقات التي فرضتها الكولونيالية الصهيونية، فإن الدور الوحيد الذي تركته الأخيرة للسلطة الفلسطينية (أو لاحقا سلطة "الدولة" الفلسطينية) والذي يضمن لها أرباحا سريعة ولا يتطلب استثمارات مكثفة وكبيرة، هو دور الوكيل التجاري المباشر للسلع الإسرائيلية والأجنبية الأخرى.
اذن، تتعامل إسرائيل مع الاقتصاد الفلسطيني ليس فقط باعتباره مسخرا لخدمة اقتصادها، بل، والأهم من ذلك، لخدمة أمنها أيضا. من هنا يمكننا فهم إعلان بنيامين نتنياهو، في حينه، بأنه "اذا تمت تقوية الاقتصاد الفلسطيني فأمننا سيعزز" وبأن إسرائيل معنية بتسهيل نجاح بعض المشاريع الفلسطينية، كميناء غزة ومطارها، التي "يجب أن تنسجم مع أمن إسرائيل" (صحيفة "معاريف، 1997/2/2). ومن هنا يمكننا أيضا رؤية التطابق في جوهر الفكر والممارسة الأمنية -الاقتصادية لكل من "الليكود" و"العمل" و"كاديما" وسائر الأحزاب الصهيونية؛ الأمر الذي يتجسد في حديث شمعون بيرس عن "التكامل" الاقتصادي الإسرائيلي – الفلسطيني وعن مصلحة إسرائيل في أن ترى الاقتصاد الفلسطيني "عصريا وناجحا" (صحيفة القدس، 1998/4/27). لهذا أنشأ بيرس ما أسماه "صندوق تكنولوجيا السلام" الذي يهدف الى "تنمية الاقتصاد الفلسطيني" وإقامة المشاريع الإسرائيلية-الفلسطينية المشتركة (الرأسمال الأولي للصندوق 100 مليون دولار ويديره، بشكل أساسي، كل من إسرائيل والبنك الدولي). كما ينسجم جوهر هذه الفلسفة الأمنية-الاقتصادية الإسرائيلية، تماما، مع التوجه الأميركي الذي تجسد، في حينه، بقول "ايزنستات" (مساعد وزير الخارجية الأميركي) لدى زيارته نابلس، بأن أفضل طريقة لتحقيق "الأمن" للإسرائيليين هي "رؤية جيرانهم بمستوى اقتصادي أفضل وهذا وجه آخر للأمن" (صحيفة القدس، 1998/6/15). وفي ذات الوقت، كان وفد عسكري أميركي يبحث مع قيادة الجيش الإسرائيلي مسألة المعارك المستقبلية والتكنولوجيات والوسائل القتالية الحديثة ("يديعوت أحرونوت"، 1998/6/1).
ورغم القرار الاميركي بوقف تقديم المساعدات التي كانت تقدم للسلطة، وذلك اثر سعي "الرئيس" الفلسطيني محمود عباس لتنفيذ اتفاق "المصالحة" مع حركة حماس وتقديمه طلب العضوية "لدولة فلسطين" للأمم المتحدة (عام 2012)، واصلت الإدارة الأميركية في ذات العام تقديم المساعدات للأجهزة الأمنية الفلسطينية بأنواعها المختلفة ("هآرتس" (21/12/2011). وفي الوقت الذي أوقفت فيه الإدارة الأميركية تمويل اية مشاريع جديدة "لمساعدة" الفلسطينيين في القطاعات الأخرى، فهي تواصل تقديم مساعداتها للأجهزة الامنية الفلسطينية في الضفة الغربية سواء من ناحية إقامة المقرات او تقديم التجهيزات والدعم اللوجستي اضافة للأموال (المصدر السابق). وفي ظل مواصلة واشنطن دعم الأجهزة الأمنية الفلسطينية وتفقد عملها والتعرف إلى صورة الأوضاع الأمنية في الأراضي الفلسطينية ومدى التقدم الذي حققته الأجهزة الامنية الفلسطينية والمشاكل التي تعترضها، يعكف المراقبون الأمريكيون العسكريون على زيارة الأراضي الفلسطينية وتفقد أوضاع الأجهزة الأمنية وتطورها؛ فيلتقون القادة الأمنيين الفلسطينيين (المصدر السابق). واللافت أن نحو 40% من الميزانية العامة للسلطة الفلسطينية تنفق على الأمن (تقرير مركز بيسان للبحوث والإنماء حول المساعدات الخارجية، أيلول 2011).
وبناء عليه، وانسجاما مع محتوى هذه السياسة الأميركية ومسارها، اشترط الكونغرس الأميركي مرارا، لمتابعة ضخه الدولارات للسلطة الفلسطينية، بأن تصعد الأخيرة جهودها في ما يسمى "مكافحة الإرهاب". ومن الملاحظ أن هذا المنطق الأمني –الاقتصادي نفسه يحكم أيضا الاتحاد الاوروبي الذي ربط، منذ العام 1998، تمديد "المساعدة" الاقتصادية للفلسطينيين بتشكيل "لجنة فلسطينية-أوروبية للتعاون الأمني"، فضلا عن تقديم عشرات ملايين الدولارات لتمويل تدريب الأجهزة الأمنية الفلسطينية (الصحف الفلسطينية المحلية، 1998/3/18).
علاوة على ذلك، وبعد انقضاء أكثر من عقدين على اتفاق أسلو وما لحقه من بالونات اقتصادية - تنموية كبيرة أطلقت في الهواء، من الملاحظ، وبشكل صارخ، أن الأرباح الاقتصادية الكبيرة كانت أساسا من نصيب الدولة العبرية التي ارتفع إجمالي "ناتجها القومي" الى أعلى مستوياته منذ أكثر من أربعين عاما، وبلغ نحو 40% من إجمالي الناتج القومي لاثنين وعشرين دولة عربية مجتمعة؛ يضاف إلى ذلك الأرباح الهائلة التي راكمها أغنياء أوسلو الجدد ووكلاء الشركات الإسرائيلية والأجنبية الأخرى في الضفة الغربية وقطاع غزة.