-1-
( شاعروسمكة تحتضر )
سمع مصطفى ما يشبه الشهقة. لقد اصطادت صنارة الرجل سمكة. أخرجها من الماء. انتزع الصنارة من فمها وأمسك بها في ضوء " اللوكس ". رأى السمكة تفتح فمها بيأس كأنها تريد أن تقول شيئا، كطفل محتضر، والرجل يرمي بها إلى صندوق الغلة.. سمعها تشهق. مصطفى واثق من أنه سمعها تشهق. غرق في حزن حقيقي كأنه شهد احتضار إنسان. لم يبد على الصيادين المتعبين أنهم سمعوا أو لاحظوا شيئا. ( يا لها من جريمة! لن أعمل صيادا. من وجهة نظر البحر والشاعر، ليس هنالك فرق بين مصرع سمكة ومصرع إنسان. كلاهما روح حية أزهقت! من اليوم فصاعدا سأعجز عن أكل السمك. وإذا أصرّت أمّي قائلة إنها طازجة سأقول لها: تعنين أنها حديثة الاحتضار وأن الجريمة لا تزال حارة؟.. وإذا دعاني صديقي الغني إلى المطعم، وأرغموني على قراءة أنواع المسك المطبوخة في قائمة الطعام، فسأقرأها كما لو كنت أقرأ جدولا بأسماء الوفيات والقتلى في صفحة الجرائم!!).
( الجريمة في نظر الناس هي فقط قتل كائن من فصيلتنا البشرية. لم نتطور إنسانيا وكونيا بعد لتصبح الجريمة هي أي إزهاق لروح حية! كم أشتاق إلى الفلسفات الهندية والآسيوية التي تحرم قتل أي شيء حي، حتى البعوضة! وكم يشتاق عصرنا البشري الوحشي إلى إنسانية غاندي النباتي الذي يفيض منه الحب حتى ليغسل كل مخلوقات الكون الحية !).
( بيروت 75 ، ص ص 32 ، 33 ).
-2-
( لا لقطف الأزهار )
مأساتي أني أعتبر أي حادثة قتل مأساه كونية... قطف زهرة هو بالنسبة إليّ حادثة قتل... وحينما يهديني أي انسان باقة من الزهور أشعر بحزن عظيم لأنهم اغتالوها لأجلي... وإذا أحاط أحدهم رقبتي بعقد من الياسمين فإن بدني يقشعر، كما لو أحاطوه بحبل ربطت إليه عشرات الجثث.
أجل إن مصرع أية حياة هي كارثة كونية لا بالنسبة لكوكبنا فحسب، بل لبقية الكواكب الأخرى أيضا. فالكون بمجمله يصح تشبيهه ببحر من الحياة، وكل منا نقطة في هذا البحرالشاسع، وموتها يؤثر على نحو ما بكل شيء، والقتل جريمة بحق الحياة، لا بحق القتيل فقط.
( كوابيس بيروت ، ص ص 29 ، 30 ).
-3-
( البيت ليس الوطن )
قال بصوت مرتجف: ستذهبين ؟
قلت: طبعا. لماذا لا تخرج معي من هذا الجحيم [الحرب ] ؟
- والبيت، سينهبونه...
- سينهبونه سواء خرجتُ أم بقيت ...
- هذا بيتي، وسوف أموت فيه، لن أعيش لاجئا متشردا..
- ولكنك لاجىء ومتشرد حتى وأنت فيه، لا استقرار في وطن متشرد
- تتكلمين هكذا لأن بيتك احترق وانتهى الأمر.
- حتى ولو لم يحترق فأنا لست على استعداد لأن أموت من أجل جدران أستطيع استبدالها بجدران أخرى، كل ما يستطيع المال شراءه لا يستحق الموت لأجله. إنك تستطيع شراء بيت لكنك لا تستطيع شراء وطن!. يجب أن تظل حيا كي تناضل لأجل امتلاك وطن لا قبر.
- تتكلمين هكذا لأن بيتك احترق وانتهى الأمر.
- هذا غير صحيح ... مكتبتي التي تعتبرها تُحَفي لا تستطيع أن تعوضني عن البحر والغابات والسماء والعشب وشروق الشمس وبريق النجوم وأسراب الطيور والمطر والثلج والسفر والدهشة والحب والحياة والدفء والسباحة وكوب القهوة الحار في المطر والموسيقى والتفكير والبكاء وركوب الدراجة والعمل وإنجاز كتاب جديد... إن الحياة شيء ثمين ورائع، وكي أتخلى عنها لأجل شيء ما، يجب أن يكون ذلك شيئا يستحق هذا العطاء العظيم.. وأنت تعرض حياتك للخطر من أجل تحفك، وتسميها خطأ بالوطن.
( كوابيس بيروت ، ص ص 454 ، 455 ).
-4-
(أين الرصيف؟)
كل ما في شوارعنا مكرس لننسى الفارق بين الحديقة و( المزبلة ).
وهم لا يسرقون السيارات فحسب بل ويسرقون الأرصفة من تحت أقدام المارة. ولم يعد في يبروت ( فتيات رصيف ) لأنه لم يعد فيها أرصفة!! وإن وجدت فالسيارات تحتلها، أو بسطات الباعة، أو ورشات البناء. ولكن جابي البلدية يقرع بابك طالبا منك دفع ضربية أرصفة (!)، حتى إذا كنت تسكن شارعا بلا أرصفة مثلي!.. وقد تتذكر بحسرة زمنا كنت تؤمن فيه بحرارة ان النظافة في الأماكن العامة هي في جوهرها تعبير عن الحس بالانتماء إلى الوطن، ولكن معظم الذين يقيمون على أرض هذا الوطن يعاملونه كـ ( سلة زبالة كبيرة) او كـ ( وعاء للقمامة) يمتد بين البحر والجبال.
( غربة تحت الصفر، ص 62 ).
-5-
( الأديبة والتشريح)
[طلب مني الأستاذ الممتحن تشريح حمامة]. أمسكت ( بالسؤال ) بين يدي.. حمامة سلام نصف بيضاء، حية، دافئة، تتطلع إليّ بعينيها الممتلئتين دهشة مثل طفل عذب... ثم ترتجف بين يدي وتنبض ذعرا، وكأنها حدست بالتخاطر ما نعده لها من ميتة بين المشارط والكلوروفورم.. وصارت تحرك جناحيها كصرخة استغاثة... وفكرتُ: هذه الأجنحة لن تلامس المطر بعد اليوم.. لن تحلق فوق البحر.. لن تلتقط الحب عن العشب.. ولن تنوح أمام سجن أبي فراس الحمداني.. وقلت لها: " أيا جارتا لو تعلمين بحالي" .. وتسللت بها نحو النافذة، وتركتها تطير صوب جبل قاسيون لتغازل القمر ليلا بمنقارها العذب...
وجاء الاستاذ يسالني: ماذا فعلت بالحمامة ؟ وقلت له ببساطة: " السؤال " طار يا أستاذ.
قال : ومستقبلك أيضا طار..
( غربة تحت الصفر، ص 169 ).
-6-
( في حديقة الحيوانات)
دوما يداهمني حس عميق بالاختناق في حدائق الحيوانات...
ملامسة الذل في أي مكان توجع قلبي... ومشهد استلاب الحرية يخنقني... والمشي على حافة الاقفاص الحديدية للسجون يرمي بي إلى حافة الاختناق والبكاء، حتى ولو كان سكان الأقفاص من الحيوانات...
الذين داروا [ زاروا] نصف حدائق الحيوانات على هذا الكوكب يتوهمون أنهم شاهدوا مخلوقات الله... ولكن، ماذا يتبقى حقا من النمر حين يسرقون منه خطوات الريح وقفزة الأشجار؟ وماذا يتبقى من الليث بعد تدجين صرخته، ومن الفهود بعد تقليم أظافرها، ومن الأحصنة الوحشية بعد سرقة الركض من حوافرها،... ماذا يتبقى من الذئب حين نسرق الصيد الليلي من صدره، والوعل حين نغتال فرحة الانطلاق من قرنيه، والغزال حين نصادر الصحاري والحقول من تحت قوائمه؟ ماذا يتبقى من كائنات الله حين نسرق منها الحرية؟
( غربة تحت الصفر، ص ص 290 – 291 ).
-7-
(علاج الطبيعة)
رغم رقي العلم، يظل الاستلقاء على تراب المرعى والتحدث إلى ضفادع الغدير خيرا من الاستلقاء على أريكة أمهر طبيب نفساني في المدينة!... والاستسلام قبل النوم لأصوات الليل في الغابة المبهمة، ذلك المزيج الوجودي من همهمات الينابيع والصراصير والأشجار أفضل من ابتلاع أنبوب من الفاليوم وبقية العقاقير المهدئة والمنومة.
فالطبيعة إذ تعيد الإنسان إلى ذاته، تعطيه مجاناً السلام والأمن والراحة.. أما العقاقير بنت المدينة ( فإنها تعطيك هدوءا مؤقتا كدين، ثم تسترده منك ومع "الفائدة" دفعة واحدة بشكل انهيار عصبي)...
وهكذا، فالإنسان يسعى إلى المصيف، كي ينقص درجة حرارة أعصابه وغليان حالته النفسية قبل درجة حرارته الجسدية الخارجية.
فالمصيف تكييف هواء لحالة الإنسان النفسية والفكرية، قبل أن يكون تكييف هواء كتلته الجسدية.. وإذا كان المصيف فيما مضى نوعا من الكماليات فهو اليوم من ضروريات الحياة المعاصرة الوحشية الضغوط لأن طمأننية الإنسان لا تتوافر له إلا بالعودة إلى الطبيعة الأم، وفي الغابات الشاسعة، وأمام السماء الرحبة مع الصفاء والبساطة وأمام اتساع الكون وجلال الوجود، يسترد إنسان العصر ذاته الضائعة.. ويعي مأساة انجرافه في أكثر من دوامة لا تمت إلى أعماقه الحقيقية بصلة! ثم إنها ليست مصادفة أن الأدوية المستخلصة من الأعشاب والنباتات ليست مؤذية ولا تسبب إدمانا، وأفضل بملايين المرات من العقاقير المركبة كيميائيا!
( ع غ تتفرس ، ص 205 ).
-8-
(بيئتنا وبيئتهم)
كهل تسلل مع الكلاب الجائعة إلى كومة من القاذورات بحثا عن شيء يأكله، عندما وصلت سيارة البلدية وألقت بحملها فوقه دون أن يلمحه سائقها، فمات مطمورا بالنفايات، وبالدم النازف من رأسه...
هذا خبر من عندنا من محلة المسلخ في بيروت.
والخبر الثاني من عندهم من شتوتغارت في ألمانيا الغربية: تقرر اتخاذ إجراء سريع من أجل صحة أسماك البحيرات والأنهار، وهو بث الأوكسجين في المياه (عن طريق خراطيم من النايلون لها مسامّ دقيقة يرسل بداخلها غاز الأوكسجين بقوة ضغط عالية، وذلك للحيلولة دون اختناق الأسماك)، وربما للحيلولة دون انحراف مزاجها أو إصابتها بحالات نفسية من جراء ضيق التنفس!
والخبران تصادف أن نشرا في جريدة واحدة، وتصدرت الصفحة صورة الرأس الدامي لذلك العربي الباحث عن اللقمة، ولم تنشر أية صورة للأسماك السعيدة ربما حرصا على مزاجها من أضواء لمبات التصوير.
( صفارة إنذار داخل رأسي، ص 250 ).
-9-
( مصافحة الاشجار المتحفظة )
وإذا كنت مثلي تكره ذلك الهول الملقب بالتلفزيون الأميركي وصوته العالي الذي ينادي بجنون إعلاني على البضائع الاستهلاكية، فإنك ستحب "صوت العشب" في صيحة الحرص على البيئة. وكثيرون مثلي يفضلون "صوت العشب" على "صوت التلفزيون" الذي يمثل عبودية إدمان الامتلاك أو عبودية جسد الذين يمتلكون. والتلوث بأنواعه كلها بما فيها الثلوث الصوتي بنباح إعلانات التلفزيون حرم المرء من نعمة الصمت والتامل، وخسر بذلك حكاية حبه مع المدى والعشب والأشجار... أضحت الأشجار تبدو خائفة في الحقول، مكهربة بالنفور من البشر ( أو هكذا يخيل إليّ)... لا أذيع سرا إذا قلت إن الأشجار تحس وتحزن وتخاف ( فهذه حقائق أثبتها العلم) وهي بالتالي يمكن أن تحب وتكره... وتبدو لي أشجار زماننا مذعورة من الناس ومتحفظة حين نلاطفها، تحن إلى جيل العشاق الذين كانوا يكتفون بجرح جسدها لتوقيع الحروف الاولى من أسمائهم داخل قلب في وشم يبقى. فهل يتعلم عصرنا ببلدانه المتخلفة والمتطوره عقد صلح مع الأشجار قد يتطور إلى حب... أو يكتفي على الأقل بمد يد الوعي لمصافحة الأشجار المتحفظة في زماننا العدواني.
( شهوة الأجنحة ).
-10-
(البومة ليست مسؤولة عن كوارثنا)
أنشد الحرية في شؤون حياتي الفكرية كلها، صغيرها وكبيرها.. وأعني بالحرية، حرية ألا تقتل إذا كان رأيك مغايرا... ولحسن الحظ أن حرية حب البوم ليست من تلك الحريات القاتلة... لكنها أيضا حرية رمزية ... أؤكد من جديد: كره الناس البوم ناتج عن أفكار متوارثة لا عن موقف عقلاني. وأنا أرفض النظرة السلفية التي لا مبرر لها غير انتقالها إلينا بشكل آلي تقليدي.
ببساطة: إنني أكره الهرب من مواجهة أسباب الشر الحقيقية في هذا العالم، ولا أرمي بها على قوى ما وراء الطبيعة ورموزها التي يفترض أنها شريرة كالبوم.
حين يجوع الفلاح فهذا معناه أنه لا يتقن أساليب الزراعة أو أن (الإقطاعي) يسرقه، ولكن البومة التي مرت بحقله ليست هي المسؤولة عن كوارثه. من مصلحة الإقطاعي أو المستغل أن يستمر الفلاح في صبّ نقمته على البومة والشؤم... إلى آخره... وهذا ينسحب على معتقداتنا كلها، وعلى الذين لديهم مصلحة من (تغطيسنا) في بحر الغيبيات كالتشاؤم والتفاؤل، وتخديرنا عن مواجهة واقعية لجوهر كوارثنا.. أنا اتفاءل بالعمل، وأتشاءم من شر الناس والكسل... لكنني لا أتفاءل بالبومة ولا أتشاءم منها.. إنني ببساطة أحبها حبي لبقية الطيور وكائنات الطبيعة كلها ومخلوقات الله المذهلة.
وبصراحة، أنا أعتقد أن من حق البوم أن يتشاءم هو من البشر، ولديه أسبابه (الموضوعية) لذلك، فهم يكرهونه ويقتلونه ويبيدونه.
ولكن هل سمعت مرة أن بومة مسكينة انقضت على رجل وقتلته كما يفعل الرجال بها؟ البومة مكروهة لأن في عينيها الواسعتين مرآة لضمير الناظر إليها.. يتوهم نظرتها اتهامية، ويتذكر آثامه، و"يكاد المريب يقول خذوني"، فيأخذها بذنبه ويقتلها.. ولكن، متى كان كسر المرآة يجمّل سحنة الواقف أمامها؟
( تسكع داخل جرح ، ص 258 ).
-11-
( الصياد وعروس البحر )
[الصياد]: من يصطادها يصاب باللعنة، إنها تبكي كالنساء، واذا لم يفلتها، أصيب وذريته باللعنة... يوضح الأخ مصطفى بصوت واقعي: يقصد (الفقمة) التي تعارف الصيادون على عدم الإمساك بها... إنها من ذوات الثدي، ولها وجه إنساني يشبه العجل، وهي وديعة وأنيسة وحزينة، وإذا أمسك بها صياد، تهطل دموعها كالبشر فتعجز عن قتلها (بصمت ظللت أفكر، الفقمة لا يقتلونها لأنها حينما تبكي تذكّر بالإنسان! لا يقتلونها لأنها بشرية المنظر ومن ذوات الثدي! ما أغرب ذلك الحلف بين الحيوانات البشرية ضد بقية الكائنات الحية، ولا ينجو إلا مَن يستطيع أن يبدو ولو للحظات شبيها بالفصيلة البشرية).
( الرغيف ينبض كالقلب ، ص 18 ).
-12-
( المطر وأرض الجنوب ).
طوال الليل كان المطر يلتهم جسد الأرض، مع الصباح استيقظت الشمس، وفاحت رائحة التراب كما هي دائما بعد المطر: نفاذة شرسة مهيمنة.
على طول الطريق إلى الجنوب [اللبناني] فجر ذلك الأحد المشمس، كانت رائحة الأرض هي الإيقاع الأساسي لسيمفونية النهار. الأرض، أنفاس الأرض، همسات الأرض، عظمة حكايات الارض. وكلما أوغلت بنا السيارة جنوبا كلما تعالى صوت الأرض، واستحال زفرات حرّى، زفرات احتجاج وحزن وقهر ورفض وحرمان. وحين تصل السيارة إلى حدود لبنان الجنوبي وفلسطين تنحول الزفرات إلى صوت صارخ مهدد.
( الرغيف ينبض كالقلب ، ص 168 ).
-13 -
( الانقلاب البحري )
كان البحر رمزا لكل الاشياء الجميلة، وكان مسرحا لأجمل روايات الأدب الخالدة.
كان ذلك كله قبل أن يلفظ البحر العتيق انفاسه، ويتحول البحر المعاصر إلى قاتل محترف لا يشبع!
ففي اليابان اغتال البحر المجرم مدينة بأكملها هي مدينة ميناماتا. لقد تسمم أهلها جميعا. لماذا ؟ لأنهم أكلوا السمك، وكان السمك ملوثا بالزئبق. فالبحر قد تلوث لأن الملح قد فسد في عصرنا! فمدنيتنا الحديثة وآلاتنا المسعورة اختارت البحر ليكون سلة مهملات كبيرة، تلقي فيه بفضلاتها وسمومها وبقاياها المعدنية والتنكية والبترولية. ويتلوث البحر، وينتقم البحر، ويدفع الإنسان ثمن عبثه بالطبيعة واغتياله لتوازنها تحت ستار التمدن الصناعي.
وهكذا يواجه عصرنا مرضا خطير اسمه التلوث الذي جعل من البحر العتيق الشفاف مستنقعات شاسعة من الموت الغامض، بالضبط البحار الملاصقة للمناطق الصناعية والكثيفة السكان والمتحضرة جدا تكنولوجيا، فالتلوث هو مرض الأقوام المتمدنة جدا.
لكننا في لبنان استطعنا أن نمتلك من الحضارة أمراضها، ومن المدن الصناعية عللها ومحاذيرها من دون مزاياها.
واستطاع بحرنا في بيروت أن يتفوق بتلوثه وقذارته على أكثر بحار العالم تلوثا. إننا نعاني من امراض عصر الآلة من دون أن نمتلك بركاته ... والنتيجة ؟ النتيجة هي ببساطة أن بحرنا قاتل، أمواجه مطلقة السراح، والمطلوب القبض عليه فورا وإحالته إلى المحاكمة بتهمة التلوث. ماذا سيقول دفاعا عن نفسه؟ سيقول الكثير، وسيتهمنا بالكثير، وسيمد أصابعه الصخربة المالحة ليتهم المجرم الحقيقي، سيصرخ البحر في وجوهنا بحقائق كثيرة موجعة. سيضحك منا. سيذكرنا بأنه لو عاش همنغواي اليوم في بيروت لما استطاع أن يكتب روايته "الشيخ والبحر"، كما هي، بل لجعل الشيخ يموت بالتلوث قبل أن تتاح له مطاردة سمكته. ولو عاش ملفيل بيننا وكتب روايتة الخالدة "موبي ديك" لجعل الحوت المسكين يموت بالتلوث على سطح الماء، ويفوّت على الكابتن "أخاب" فرصة صيده! ولو عاش شتاينبيك في بيروت وكتب رائعته "اللؤلوة" لما اصطاد ذلك القروي الفقير لؤلؤة بل لاصطاد عوضا عنها علبة سردين فارغة من تلك العلب المعدنية التي تترسب في قاع البحر المتلوث وتقطع شباك الصيادين ورزق أطفالهم، وتحول أعماقه إلى قاع معدني يشع، وتحرم الأسماك والأصداف واللآلئ من القدرة على العيش فيه! ولكن أخطر أنواع التلوث التي يعاني منها بحرنا هو: التلوث بالاعتبارات الطبقية ...
( الرغيف ينبض كالقلب ، ص ص 250 ، 250 ).