خاص بآفاق البيئة والتنمية
حتى تصمد غزة قليلاً كان لا بد من وجود أناس يستمرون، بالرغم من العدوان الدموي الإسرائيلي المستعر، في العمل على خدمة من بقي فيها ولو بالحد الأدنى. ومن هؤلاء، العاملون في المؤسسات الخدماتية وبخاصة لجان الطوارئ، وبلدية غزة كانت مثالاً واضحاً، إذ جادَ عاملوها بأرواحهم، فمنهم الذين غامروا بالوصول إلى الأماكن الخطرة من أجل تقديم خدماتهم، بيدَ أن البلدية تعمل بإمكانيات شبه معدومة بعد انهيار البنية التحتية، وانعدام المعدات والآليات جراء تدميرها وحرقها. وقد كتب الله لبعضهم النجاة مع زملاء لهم في مرات متكررة لاستهداف مرافق البلدية، وكان منهم من استُشهد، وآخرون أصيبوا.
|
 |
بلدية غزة تجمع وترحل نحو 15 ألف طن من النفايات للتخفيف من الكارثة الصحية والبيئية |
صباح الخير لأدق التفاصيل
لوعاء الورد على شرفة الجار
لعربة النظافة ذات الجرس الخفيف عند الساعة السادسة
وصباح الخير للصياد الذي كان يحاول فك عقدة الكون الكبرى في شبكة صيدٍ، يفشل وينزعج، ويفشل ولا ينزعج، ثم ينجح، ويطهو على حرارة الشمس صبرًا بنكهة البحر ويستحم بصباح المدينة القديم
صباح الخير يا سيدة الأرض، يا غزة، ويا سيد الأرض، يا ميناءنا القديم، وصباح الخير يا وصيفة السيدة، يا نخلة دارنا الأولى..
اقتباس صغير جداً مما قاله الشاعر والروائي محمد العكشية عن "غزّته" التي يفتقدها بعد نزوحه، منتظراً على أحرّ من الشوق العودة إليها، ولكن مدينته عانت كثيراً إبّان السابع من أكتوبر، حيث لم تعد هي تلك التي يعرفها.
وحتى تصمد قليلاً كان لا بد من وجود أناس يستمرون، بالرغم من الحرب الإسرائيلية المستعرة، في العمل على خدمة من بقي فيها ولو بالحد الأدنى.
ومن هؤلاء، العاملون في المؤسسات الخدماتية وبخاصة لجان الطوارئ، وبلدية غزة كانت مثالاً واضحاً، إذ جادَ عاملوها بأرواحهم، فمنهم الذين غامروا بالوصول إلى الأماكن الخطرة من أجل تقديم خدماتهم، بيدَ أن البلدية تعمل بإمكانيات شبه معدومة بعد انهيار البنية التحتية، وانعدام المعدات والآليات جراء تدميرها وحرقها.

رشدي خلف مسؤول ملف المتابعة في لجنة الطوارئ في بلدية غزة
مستمر في الخدمة مهما كلّف الأمر
مراسلة "آفاق البيئة والتنمية" تحدثت مع موظف في بلدية غزة، صمد من أجل أداء واجبه على أفضل وجه ممكن، بالرغم من أنه كان عرضة لمرات عدة، ليس للخطر فحسب، بل للموت نفسه. يخبرنا رشدي خلف، مسؤول ملف المتابعة في لجنة الطوارئ، عن تجربته القاسية وبموجبها بقي في غزة وحيداً وشجاعًا، مع أنه كان يملك الخيار، وببساطة، أن يغادر مع أهله، ولن يلومه أحد، وقد كتب الله له النجاة مع زملاء له في مرات متكررة لاستهداف مرافق البلدية، وكان منهم من استُشهد، وآخرون أصيبوا.
جدير بالذكر، أن هذا الشاب حاصل على درجة البكالوريوس في نظم المعلومات الجغرافية، والماجستير في إدارة الأزمات والكوارث.
نزحت عائلة رشدي إلى جنوب وادي غزة، بينما سافرت زوجته وابنتاه إلى أوروبا، حيث تحملّن الجنسية الأوكرانية، يحكي لنا بنبرة لا يخالجها الندم: "كان من السهل أن أختار السفر مع أسرتي، لكن آثرت البقاء هنا، أبيت وأصحو وأنام وآكل وأشرب في مقر عملي، وحتى هذه اللحظة لا يمكنني الوصول إلى منزلي، لقربها من منطقة عسكرية".
وعادة، لا يخبر عائلته بالمواقف الخطرة التي تمر به حتى لا يثير قلقهم، مكتفيًا بطمئنتهم أن عمله لا يؤثر على سلامته. ويضيف: "أحيانًا تصلهم أخبار عن استهداف مقرات البلدية وإصابة موظفين، وبدوري أسارع إلى نفي الخبر إذا ما سألني أبي أو أمي، أو أخبرهم أني لم أكن متواجدًا في المكان ساعة القصف، أو أنه تم تحذيرنا مسبقًا".
يعود إلى بداية الحرب، وتحديداً إلى آخر شهر أكتوبر، وقتها، كان يضطر للمبيت في الكراج التابع للبلدية مع زملائه، وذات يوم بعد منتصف الليل استهدفت الطائرات الحربية المكان بصاروخ وهم بداخله، كانوا نياماً، مرت خمس دقائق وأُطلق الصاروخ الثاني بعد انتقالهم إلى مكان مجاور في حالة من الارتباك، وبفضل الله لم يُصب أيٌ منهم بأذى، وفقط طال التدمير السيارات والآليات.
يقول خلف: "خرجتُ من "الكراج" على الفور أقود سيارتي، متجهًا إلى مستشفى الشفاء مع زميلي، كان يتوجب أن أتخذ قراراً سريعاً وإلا كنت سأموت، وبينما أنا أسوق فإذ بالمبنى المجاور للمكان الذي مررت منه أيضاً يُستهدف، وإحدى الشظايا أصابت العجل الخلفي للسيارة مباشرة، ومع ذلك واصلت المسير حتى مستشفى الشفاء، وبتُ عند بابها مع زملائي".
 |
|
رشدي ومن خلفه الآليات المدمرة جراء استهداف الاحتلال لمرافق البلدية |
|
ويؤكد أن الإبقاء على روح معنوية عالية في وقت عصيب لم يسبق لأحد أن اختبره، كان من أهم أسباب صمود لجنة الطوارئ في البلدية حتى اللحظة، واستمرار أعضائها في تقديم الخدمات للمواطنين، وهذا لا يناقض اعترافه أنه ومن معه فاض بهم الشعور بالاستنزاف، في مرحلة ما.
يبدو صريحًا بقوله: "وصلنا إلى وضع لا نطيق فيه النظر إلى وجوه بعضنا من شدة الضغط، لكن شعورنا أننا نفدي روحًا ونبعث الأمل في نفوس المواطنين الباقين في شمال القطاع، دفعنا لأن نقاتل بصمودنا ما استطعنا، حتى نخفف قليلاً عن المواطن الذي يعيش أياماً لا تُحتمل، بحصوله على الخدمات الملّحة، لا سيما في مراكز الإيواء، سواء كانت مياه أم نظافة أم صرف صحي، أم إمداد طواقم الدفاع المدني بالمياه، كل هذا، كفيل بالاستمرار رغم كل الأشلاء والدماء وما نراه".
عندما انقطعت الاتصالات لأيام متتالية وفُقد التواصل، كادت عائلة رشدي أن تجنّ من قلقها على ابنها، خاصة أن معظم الاستهدافات، في ذلك الوقت، كانت تقع في غزة.
ألحّ والداه عليه مراراً بضرورة التوجه لجنوب القطاع، ومع ذلك ظل مصراً على البقاء في غزة، ويمكن للمرء أن يتعلم الصبر والتماسك من قصة رشدي، يواصل كلامه: "ذات مرة سألتُ أبي: "لو كنت مكاني وترى أن الناس بحاجة لك ماذا ستفعل؟"، قال لي: "سأقدم الخدمة مهما كلفني الأمر، مع حرصي على السلامة الشخصية".
هذا الشاب الخدوم لم يستهن برغبة والده المحمومة في أن يكون معهم، لكنه قرر العمل بالجواب الذي أعطاه إياه، ولم يملك من أمره شيئاً إلا أن يهدّأ من روعه: "الي بصير على أولاد الناس يــا بــا هيصير علي، ولنا لقاء إن شاء الله".
 |
 |
رئيس البلدية يحيى السراج يطلع الأمين العام لمنظمة المدن المتحدة على الأوضاع في غزة |
عامل في لجنة الطوارئ يملأ خزانات المياه في الشوارع |
رجل الميدان هو صاحب القرار
جزء من الجهود التي يقوم بها رشدي مع الفريق، يذهب نحو تأمين أملاك البلدية، انطلاقاً من أنه وزملاءه يرون البلدية "بيتهم الثاني" حسبما قال.
يحاول أن يشرح فكرته: "شعوري أن بيتي قد يُسرق أو يداهمه الخطر يحرّكني للحفاظ على مقدراته، دون التفكير حتى في العواقب، البلدية مؤسسة عريقة، قدّمت وما زالت وستظل تقدم خدماتها للمواطن الغزي، ومن أهمها خدمات المياه والنظافة والصرف الصحي، ومن شأن تأمين المرافق أن يضمن استمرارية عملنا وتقديمنا لتلك الخدمات".
"في الحروب السابقة تشكّل لديكم "قدراً محترماً" من الخبرة في إدارة الأزمات.. هذه الحرب الضروس ماذا فعلت بخبرتكم؟".. يشرد قليلاً وكأنه يحاول عقد مقارنة "لا مقارنة فيها"، ثم يجيبني: "اخترت أن أكمل الدراسات العليا في إدارة الأزمات، إضافة إلى حصولي على دورات عدة في المجال ذاته، دعيني أقول إن هذه الحرب كسرت كل الحواجز وفاقت كل الأزمات وأنماط الإدارة التي يمكن أن تخطر ببال أي مختص، وتعدّت الدورات المهنية والعلمية والتدريبية، إنها حرب إبادة وتطهير عرقي، وليس كأي حرب أخرى".
وأشار إلى أن الحروب السابقة راكمت خبرة مهمة، لا شك، لكن "خبرتنا هذه المرة باتت أضعاف مضاعفة" ويوضح ما يقصده بتلك العبارة: "نحن نستفيد من خبرات هذه الحرب أكثر من أننا نضعف، نحاول قدر الإمكان أن نحسن التصرف في المواقف الحرجة، ولا أبالغ، أن الحرب جعلت خطط الطوارئ والجهوزية لا قيمة لها، وصار رجل الميدان هو صاحب القرار، وهو المتصرف الذي يتخذ القرار الأول والأخير وفقًا لتقييمه للوضع أو الحدث في أثناء الاستهداف أو تقديم الخدمة".
ولا يتذكر يومًا أن "حديث النفس" راوده، والذي من المتوقع أن يصارع أيًا كان مكانه، من قبيل: "لماذا بقيت، لماذا اتجهت للعمل في لجنة العمل والطوارئ.. يمكنني التوقف، لماذا لم أسافر مع زوجتي وبناتي إلى أوروبا"، مستدركاً حديثه: "إلا أني بعد انتهاء كل مهمة نواجه فيها أعلى درجات الخطر، أراجع نفسي وأسألها "ماذا لو مت أو أصابني مكروه ماذا سيحدث لأهلي وزوجتي"، وما ألبث أن أستجمع شتاتي، وأربتُ على قلبي متمتمًا: "خليها ع الله، وقل لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا، كلنا نعيش برحمة الله ولن يأتي رب الخير إلا بالخير".
 |
 |
المواطنون ينظفون الركام في شوارع الوحدة مع طواقم بلدية غزة |
طواقم لجنة الطوارئ منهمكة في أعمال إزالة الركام والكشف عن محابس المياه |
"أبطال".. أقل ما يقال في حقهم
يبيت رشدي لياليه مع زملائه في أي مرفق من مرافق البلدية، وقد ينامون في السيارات، أو الشوارع، أو على أبواب المشافي أو على الأرصفة، المهم أن يشعروا بالأمان.
ويصف علاقته بهم: "هم إخوتي، وأقل ما يقال في حقهم أنهم أبطال، نحن 217 عضوا، وقد مرّ حتى الآن أزيد من 235 يومًا نعيش فيه معًا، من أجل أن نفي بالوعد، بألا نترك أهل غزة وحدهم، ولن نبخل بأرواحنا، فنحن منهم وهم منا".
ولا يستطيع أن يحصي أسماء جميع من على المركب بصحبته، لكنه يذكر عددًا منهم، زاهر الحداد، بشير غبن، أدهم درابيه، وائل الخطيب، محمد شمالي، م. جمال عناية، "وعلى رأسهم رئيس البلدية د. يحيى السراج الذي لم يتغيب لحظة عن الحضور للجنة الطوارئ، حتى أنه في بداية الحرب كان مسافرًا، ثم عاد كي يدير معركتنا مع الحياة اليومية" يقول.
ويحكي عن مواقف هؤلاء: "زاهر وأدهم كانا يوزعان المياه على بيوت الناس ومراكز الإيواء، ويصلان إلى أخطر الأماكن في سبيل إغاثة الناس، لا يُباليا بحياتهما بقدر حرصهما على حياة الآخرين، وعندما يكون الدفاع المدني بحاجة لمدد، فإنهما يسارعان إلى التحرك بسيارة المياه التابعة للبلدية".
أما بشير الذي هو بمثابة "الأب الحاني"، حسب تعبيره، ومعه وائل، فقد حرصا دائمًا على حياة الشباب العاملين في اللجنة، موضحًا: "كانا، لا سيما في بداية الحرب، يخرجان ليجلبا كل ما يلزمنا رغم خطورة الوضع، وإذا ما تأخر واحد منا، فإن الأستاذ بشير يقرّعنا لخوفه علينا".
ولا ينسى زميله محمد شمالي، قائلاً عنه: "هذا الشاب إلى جواري حتى اللحظة، عمل على تأمين الوقود اللازم لتشغيل آبار المياه وسيارات النظافة، وكان عرضة للقصف المباشر في تل الهوى ومناطق القتال عمومًا، من أجل تأمين ولو لتر واحد من الوقود".
 |
 |
ارتفاع درجات الحرارة يفاقم من الكارثة الصحية والبيئية |
أضرار بالغة تصيب خزان المياه في منطقة تل الهوى بعد قصف الاحتلال |
يحزن كثيراً، مسؤول ملف المتابعة في لجنة الطوارئ، كلما تذكّر الذين استُشهدوا وهم على رأس عملهم، ومنهم سائق الشاحنة راغب أبو سيف الذي خاطر بحياته بينما كان يرفع القمامة ويزيلها من مركز الإيواء، وهناك أيضًا موظف الأمن الشهيد أحمد العف، إذ يخبرنا عنه: "في عملية الدخول الأولى لجيش الاحتلال لمجمع الشفاء الطبي، حوصر أحمد في مركز رشاد الشوا، واستطاع أن يلوذ بالفرار، أخبرنا حينها عن صوت الدبابة المرعب، وأنه كان معه كيس أرز، ألقى به هارباً".
بعد استشهاده بفترة، وبينما كان رشدي يقلّب في هاتفه المحمول تعثرّ برسالة من أحمد، ما هي إلا كلمة واحدة "لا تنساني"، وفي تلك اللحظة بكى رشدي، ومجدداً يهزم الشجن صوته بقوله: " تدمع عيني الآن وأنا أتحدث عنه".
|
 |
|
رفع العلم الفلسطيني أمام مقر بلدية ترومسو النرويجية تعبيراً عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة |
المؤسسات الدولية مطالبة بحمايتنا
يعيش رشدي، كل يوم، أحداث فيلم لا تنتهي من المغامرات، وهذه إحداها، ذات مرة كان يسير في شارع الوحدة، وإذ بمبنى الأوعية الدموية في مشفى الحكمة يستهدفه الطيران الحربي، ما أدى إلى إصابات في الطاقم الطبي، يقول: "هؤلاء أيضاً زملاؤنا في تقديم الخدمة للناس، حينها لم تتوفر أي سيارة إسعاف لنقلهم، ومن جهة أخرى الدبابات تحاصر "الشفاء"، وبالتالي لا مجال لنقلهم إليه، ورغم خطورة الموقف سارعتُ الى الالتفاف من شارع آخر، ونقلتُ من تمكنتُ من نقله، إلى مشفى المعمداني، رغم الاستهداف المتكرر لمكان مجاور".
وفي شوارع غزة تهاجمه الذكريات، حيث فيها عاش طفولته وشبابه على مدار 31 عامًا، "كلما تجولت، شعرت أن سكّينة تطعن خاصرتي، أسأل نفسي ماذا حدث.. ما ذنب المشفى ليحرقوه؟ لماذا دمروا كل شيء، المباني والمساجد والمنتزه، لماذا هذا الدمار الهائل لحياة كاملة، الأبراج والبيوت والمؤسسات".
أبكته مَشاهد عدة، منها ما شاهده في أحد أيام الهدنة، تحديدًا في أواخر نوفمبر الماضي، جثث متحللة في الشوارع، شهداء ملقون ولا أحد ينظر لهم، أُعدموا في الشوارع ولا ملامح لهم، يُدفنون دون التعرف عليهم، فقط من باب إكرامهم.
موقف آخر، في جولة له من أجل إجراء معاينة لبعض الشوارع، رأى سيارة سُويّت بالأرض تمامًا، بحيث لا يمكن إزالتها، ما اضطره إلى الصعود فوقها بـ"سيارة الجيب" حتى يستمر في طريقه، وإذ بالمارة يوقفونه محذرين من أن تحت السيارة شهيد، يعقّب: "هذا أقسى موقف مر بي.. أن أمشي فوق شهيد، تمامًا كما سرت وتحتي جثث مدفونة دون أن أعرف، عندما ذهبت إلى "الشفاء" بعد انسحاب الاحتلال منه، كانت رائحة الدم والحرق تنتشر في كل الأروقة".
ويرى أن الحرب بهذه البشاعة "لا تبدو مسألة انتقام من المقاومة، بقدر ما هي انتقام عقائدي"، مؤكداً أن "غزة ستعود ساحرة كما كانت دائماً، وستصبح أجمل بسواعد المخلصين من أبنائها".
حديث إنساني عميق، ختمه رشدي بمطالبة الجهات والمؤسسات الدولية ببذل قصارى جهدها، لإجراء ما يلزم من تنسيق للجان طوارئ البلديات كافة، ومحاولة تأمين سلامتها، حتى يتسنّى لها العمل في المناطق الخطرة التي يتوجب الوصول لها.
 |
 |
تدمير الواجهة البحرية لشاطئ غزة |
تدمير قصر الباشا الأثري |
كارثة صحية وبيئية
"(غزة ترحب بكم).. لم تكن مجرد لافتة على مدخل غزة، كانت باب بيت، حضن أم، رأس شارع الحارة" هذا ما يقوله محمد العكشية الذي أتعبه الحنين.
تنتقل "آفاق البيئة والتنمية" إلى محمد السرساوي رئيس قسم الإعلام في بلدية غزة، الذي قال بدوره إن البلدية قبل السابع من أكتوبر كانت هي الجهة المسؤولة عن تقديم الخدمات في المدينة، ولطالما عانت كما سائر مؤسسات قطاع غزة جراء الحصار الخانق منذ نحو 17 عاماً، إضافة إلى شحّ الموارد المالية، ومع هذا، والحديث للسرساوي، اجتهدت البلدية، بما يتوفر لها من دعم لتنفيذ مشاريع ترمي إلى تحسين مستوى الخدمات، خاصة النظافة والمياه والصرف الصحي وزراعة الأشجار، وتعزيز التعاون والشراكة مع المجتمع المحلي، وخطت بثبات نحو النهوض بغزة واقتصادها المحلي، مضيفًا: "كانت الأمور تسير ببطء لكن على نحو أفضل".
إلا أن مرافق البلدية، بعد الحرب الإسرائيلية الراهنة، تضررت إلى حد كبير، ومن وجوه الضرر الفادح، تدمير نحو مليون متر مربع من الطرق والشوارع، ولحقت أضرار مختلفة نحو 40 بئرًا للمياه، والحال نفسه لــ 42 ألف متر طولي من شبكات المياه، و30 ألف متر طولي من شبكات الصرف الصحي، وتضررت 9 محطات للصرف الصحي، وجُرّفت 55 ألف شجرة و 8 حدائق، فضلاً عن تدمير 125 آلية من آليات البلدية بأحجام مختلفة، وتراكم نحو 100 ألف طن من النفايات في الشوارع، وزد على ذلك، تدمير كامل للمرافق التعليمية والاقتصادية والتجارية والحرفية، وكذلك تدمير كثير من المباني السكنية واستهداف المنشآت المدنية والخدماتية ، كل ذلك تسبّب في كارثة صحية وبيئية غير مسبوقة تعيشها المدينة نجم عنها انتشار الأمراض، هكذا يسرد رئيس قسم الإعلام مجمل الخسائر.
وفي سؤاله عن عمل لجنة الطوارئ في البلدية، أفاد أنها لجنة دائمة تعمل في أوقات الطوارئ سواء في المنخفضات الجوية أم في أوقات العدوان المتكرر على قطاع غزة.
وتبعًا لكلامه، يحرص رئيس البلدية والمجلس البلدي سنويًا على إعادة تشكيل اللجنة، ورفدها بالطاقات والكفاءات من موظفي البلدية، قائلاً: "لم تتوقف بلديتنا برئاسة د. يحيى السراج عن عملها طيلة أيام العدوان، ما زلنا نعمل في حالة الطوارئ رغم حالة الشلل التام والدمار الواسع، إضافة إلى ما تعانيه المدينة حاليًا من أزمات صحية وبيئية، وحالة العطش الكبير جراء النقص الحاد في المياه، بسبب نفاد الوقود وعدم توفر الكهرباء اللازمة لتشغيل مرافق البلدية".
ويقدّر السرساوي عدد موظفي البلدية الذين نزحوا إلى جنوب القطاع بنحو "النصف"، فيما يستمر العمل حاليًا تحت النار لتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين في غزة وتعزيز صمودهم، رغم المخاطر الجسيمة، ضمن فريق واحد كان لا يزيد على 120 موظفاً فقط حتى شهر نيسان/ أبريل الماضي، وفي شهر أيار/ مايو ازداد العدد ليبلغ نحو 207 موظفا يعملون حاليا.
ومن أهم الصعوبات التي يتكبد السكان الصامدون عناءها، قطع الاحتلال الإسرائيلي الكهرباء والمياه، وتسرب مياه الصرف الصحي إلى الشوارع، وتكدس النفايات داخل المدينة، وفقًا لحديثه.
ويوضح أن أهم المشكلات الصحية والبيئية المترتبة على الحرب الإجرامية، تكدّس قرابة 100 ألف طن من النفايات داخل المدينة، وتسرب كميات كبيرة من المياه العادمة للشوارع، وبِرك تجميع مياه الأمطار، كما تضرّر الخزان الجوفي نتيجة تسرب هذه المياه للبرك، وكذلك لشاطئ البحر، ما فاقم الكارثة الصحية والبيئية.
 |
 |
تشغيل مضخة متنقلة في حي الزيتون بدعم سلطة المياه في معالجة جزئية للمشكلة البيئية والصحية |
حتى الأشجار لم تسلم من العدوان |
استجابة لا ترقى لحجم الكارثة
وبخصوص حملة "نداء الحياة لغزة" التي أطلقتها البلدية في منتصف إبريل/ نيسان الفائت، يشير رئيس قسم الإعلام إلى أن الهدف منها جمع التبرعات من مختلف مناطق ودول العالم، لتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين والمدينة، حيث تعاني البلدية انعدام الإمكانات والموارد المالية، بسبب توقف المواطنين عن سداد فاتورة الخدمات الشهرية.
الحملة ما زالت في بدايتها، كما يقول، والتجاوب ليس كما المتوقع، فيما يتعلق بالمتبرعين أفرادًا ومؤسسات، معربًا عن أمله في أن تتحسن الاستجابة لهذا النداء، داعيًا المتضامنين مع الشعب الفلسطيني إلى المساهمة في تعزيز الحملة والمشاركة فيها، بغية تنفيذ المشاريع الخدماتية التي تلبي حاجات الغزيين، وإعادة إعمار مدينتهم.
مؤكدًا، أن البلدية مؤسسة عريقة تخضع للرقابة، ولديها شفافية موثوقة في إدارة مواردها، ما يعني أن التبرعات ستُنفق لصالح مشاريع خدماتية.
وربما ظهر بريق أمل بمد مؤسسات يدها لتحسين الوضع المزري الذي آلت إليه غزة، خاصة بعد المجاعة التي حدثت بمنع وصول المساعدات الإنسانية لشمال القطاع، فعلى سبيل المثال تعاونت "العربية لحماية الطبيعة" مع البلدية في زراعة بذور وأشتال الخضراوات في أرض المشتل التابع لها، والذي دمرّته إسرائيل، بهدف توفير الخضار للمواطنين والعاملين في الطوارئ، ويُذكر أن الاحتلال تعمّد تجريف المشتل كاملًا، وأعدمَ نحو 100 ألف شتلة.
 |
 |
غزة الساحرة هل تعود يوما كما كانت |
مشتل بلدية غزة بعد زراعته بأشتال الخضروات ضمن مشروع تنفذه البلدية بالتعاون مع الجمعية العربية لحماية الطبيعة |
كان مشهد مهندسي وعمال البلدية وهم يغوصون في المياه العادمة من أجل إجراء إصلاح أولي ومؤقت لمحطة الصرف الصحي في حي الزيتون، يستدعي ابتسامة شاحبة، إذ يحتار السرساوي في الوصف الأنسب للعاملين في الطوارئ الذين لم يأبهوا للخطر، سوى أنهم "جنود مجهولون يستحقون من كل أبناء المدينة الشكر والثناء".
وفي سياق آخر، يشيد بروح التطوع التي تحلّى بها كثيرون ممن أبدوا رغبة صادقة في مساعدة البلدية، التي استعانت بمن لديهم مؤهلات فنية.
وتوجهت البلدية، بعد الدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية، والكارثة التي ألمّت بمختلف مناحي الحياة، بنداءات عاجلة للمنظمات الدولية للوقوف عند مسؤولياتها، والمساعدة في توفير الاحتياجات للحد من الأزمة، معبراً عن أسفه: "استجاب جزء منهم، لكن عمومًا، مستوى التعاون كان دون المطلوب، ولا يرتقي للكارثة الإنسانية التي تعيشها المدينة".
وعن التصريحات التي تقدّر أن غزة تحتاج إلى 80 عاماً لتعود كما كانت قبل 7 أكتوبر، لم يتشاءم السرساوي إلى هذا الحد، آملاً في أن تبدأ عملية "إعادة إعمار غزة" بعد انتهاء العدوان واحتواء الكارثة، ما يتطلب استنفار كل الطاقات، حسبما رأى.
ويقول أخيراً: "نحن على ثقة، أن لدينا القدرة على إعادة الإعمار في أسرع وقت ممكن".
 |
 |
مواطن يجمع المطر في خضم أزمة المياه |
دعوة للتبرع لــ نداء الحياة لغزة |