خاص بآفاق البيئة والتنمية

فائض كبير للخس الفلسطيني المتراكم في الضفة الغربية يباع بأبخس الأسعار
كان الفتيان علي وإبراهيم يقطفان الخس في سهل عرابة، المجاور لجنين، ويضعان في كل كيس نحو 10 منها، لكنهما يدركان أن عملهما لن يحقق غير شواقل معدودة في سوق الخضار، ما يعني أن حمولة السيارة الواحدة، ستعجز عن توفير ثمن الوقود وأجرة سائقها، ولن تجمع تكاليف قص الثمار بالأسعار الحالية.
وتلخص الصورة المقتضبة، التي قدمها الفتيان، مأزق القطاع الزراعي، الذي يشهد منذ قرابة شهرين كساداً في غالبية منتجاته، فصندوق الخيار من الدفيئات بيع بين 3-5 شواقل فترة طويلة، ثم بين 5-10 شواقل، وأحوال البصل، والكوسا، والبندورة ليست بالأحسن.
قطاع يتيم
في جهة أخرى، كان محمد مصطفى، وهو صاحب دفيئة في سهل غربي جنين، يقلب كفيه، وهو يحصي خسائر الموسم، إذ أن إنتاج صندوق الخيار يكلف أكثر من 10 شواقل، في ظل ارتفاع مدخلات الإنتاج بشكل كبير، وأجور العمال، ورغم ذلك يباع بنصف التكلفة.
وقال إن "الزراعة يتيمة"، فلا أب ولا أم يهتمان بها، أو يقدمان لها أي مساعدة أو دعم، أو يتدخل في تخطيط المساحات والأصناف المرجوة كل موسم.
وأفاد مصطفى بأن فترات البيع بأسعار جيدة قصيرة، وإن حدثت فإن "القيامة تقوم على المزارعين"، ونسمع عشرات الأصوات التي تطالب بسعر عادل للمستهلك، ولكن في حال الانخفاض الطويل يصمت الجميع.
وخلص إلى القول إن الفلاح "يعيش في دوامة"، ولا يجد من يقدم له أي مساعدة تساهم في تعزيز صموده بأرضه.

أغنام ترعى المحصول الكاسد
رهان من أمل
في المقابل، وصف المزارع محمد عبد الكريم حال المزارعين، فهم "يراهنون على الأمل لسداد دينهم السابق"، ومع أنهم يضعون احتمالات كبيرة لكساد الخضروات، إلا أنهم يكررون دورتهم الزراعية، إذ لا يمكنهم التوقف.
واستند إلى مقولة شائعة بين الفلاحين، تؤكد أن ديون الزراعة لا يمكن سدادها إلا من الزراعة نفسها.
ورأى عبد الكريم، الذي يعمل في سهول جنين الجنوبية، أن الخلل يكمن في غياب التخطيط للمساحات، وللأصناف التي نحتاجها، وللسلع التي نسمح باستيرادها.
وقال: لو يتخلى المزارعون مثلاً عن نصف المساحة التي بين أيديهم، فستقل تكاليفهم، ولن يحتاجوا إلى نصف العمال، وسيسيطرون على ري المحاصيل والعناية بها، وسترتفع نسبة البيع بسعر جيد؛ لأن الاسواق "ستظل متعطشة للأصناف".

أغنام ترعى محصول الخس لكساده
"الخس ببلاش"
فيما نشر عضو الأمانة العامة لنقابة الصحافيين، عمر نزال، على صفحته عبر موقع فيسبوك: "الخس ببلاش في جنين"، وقال إن أحد مزارعي الخس في بلدة قباطية فضل إطعام الغنم غلة 5 دونمات من الخس على بيعها في السوق المركزي، بعد أن وصل سعر كيس الخس ( 8-10 خسات) 2 شيقل فقط، وهو بالطبع لا يغطي تكاليف النقل ولا قص الخس.
والمفارقة، وفق نزال، الإعلامي الذي يعمل في زراعة العنب، فإن "الخسة" الواحدة في أسواق رام الله تباع بـ 5 شواقل، وفي جنين القريبة تباع بـ 3 شواقل على الأقل.
والغريب، وفق مزارعين من بلدة برقين بمحافظة جنين، فأنهم يذهبون بخضرواتهم إلى السوق المركزي (الحسبة)، ثم يعود التجار من بلدتهم لشرائها مرة أخرى!
وقال مزارعون، علينا التفكير سريعاً في تقليص حلقات التسويق، وإيجاد طريقة دائمة للشراء المباشر منهم (بالجملة والمفرق)، لأنه كلما طالت حلقات التسويق زادت كلفة النقل و"الكمسيون" الذي تفرضه الحسبة على حراس الأرض، وارتفع السعر على تاجر الخضار والمستهلك.
معالجات سابقة
فتحت (آفاق) ملف كساد أسعار الخضروات مراراً، وعالجت بإسهاب قبل 3 سنوات أسباب تراجع الأسعار، ووقتها قال الوكيل المساعد للقطاع الاقتصادي في وزارة الزراعة، طاق أبو لبن إن المعضلة على وجه التحديد "عدم تناسب زيادة الاستهلاك المحلي من السلع الزائدة عن الحد في ذروة الإنتاج مع الأسعار التي تنخفض بنسبة أكبر، ذلك أن السوق في هذه الحالة يصبح عاجزاً عن استيعاب المنتجات المختلفة وبالتالي تنخفض الأسعار".
وبين حينها، أن أكثر من 75% من الفواكه نستورده، إلا أن "لوجستيات" ما بعد الحصاد، كالفرز والتعبئة في الحقل، والحفاظ على سلسلة التبريد للمنتج، تعد مكلفة مقارنة مع معظم الخضراوات، وتقابلها قدرة عالية على استيعاب كميات كبيرة من البطاطا لمدة طويلة، حال هبوط أسعارها، في الثلاجات".

بندورة تباع بأقل من تكلفتها
اختناقات تسويقية
ورأى أبو لبن أن الحل يكمن في التخطيط الجيد، لـتقليل "اختناقات الخضراوات التسويقية"، والحفاظ على معدلات أسعار معتدلة طوال العام، وحل مشكلة تأثر المنتجات قصيرة الأجل بالعوامل الجوية، واستيعاب الفائض وسد النقص.
بدوره، حصر عاهد زنابيط، مدير الإغاثة الزراعية في شمال الضفة الغربية حل المشكلة التي باتت متكررة في تنظيم الزراعة، وإنهاء حالة الفوضى التي يعيشها العاملون في هذا القطاع.
وذكر، وقتها، أن الإجراء العملي يتطلب إرشاد الفلاحين وتنظيمهم والتوقع المستقبلي لأحوال السوق، وأن تدرس وزارة الزراعة حالة الأسواق، وانخفاض الأسعار خلال السنوات السابقة.
وبدا زنابيط صريحاً في رأيه عندما قال: "التنظيم مسألة ممكنة بالإجبار، كأن تمنع الجهات المعنية زراعة المساحات بشكل عشوائي وتقيدها بأصناف محددة، وتبني نمط الأسواق المركزية للخضراوات".
وشدد على ضرورة حماية المزارعين والمستهلكين على حدٍ سواء، عبر تحديد أسعار السلع من وزارتي الزراعة والاقتصاد الوطني، بشكل يُنصف المزارع بعدم تدني الأسعار من جهة، ويحمي المستهلك بالمحافظة على أسعار معتدلة من جهة أخرى، مع تشجيع الطرف الأول على الالتزام بالمساحات المحددة، والتوجه نحو "التنميط"، والكف عن مبدأ التوقع والاحتمال والمغامرة.
وحمّل زنابيط، المسؤولية للمزارعين أنفسهم في جزء من المشكلة، وعلى وجه التحديد أولئك الذين تنقصهم الخبرة الكافية، وتتراكم عليهم الديون، فلا يتحولون لزراعة أنماط جديدة لتكلفتها المرتفعة، ويعجزون عن التوجه إلى مهن أخرى.

حقل في جنين
صفوف مبعثرة
من جانبه، رأى الخبير الزراعي والتنموي، المهندس مازن غنام أن مفتاح الحل الإستراتيجي لتدهور الأسعار يبدأ من تنظيم صفوف المزارعين، وما لم يحدث، ستستمر الأزمة التي نضمن حلها بمنع وقوعها لا بمجرد معالجتها.
وقال: "يدرك الفلاحون أن مصدر رزقهم يطاله التهديد فقط عندما تعصف الأزمات بهم، إلا أنهم من دون توحيد صفوفهم في إطار قوي كجمعيات أو نقابات أو جسم قوي، لن يجدوا حلاً لمشكلة تدني أسعار محاصيلهم، وستستمر الأزمات في سحقهم".
ولا يندهش غنام من أن القطاع الزراعي في العالم غني باستثناء فلسطين، فالعاملون فيه فقراء "ليس لسببٍ فني، بل لأنهم غير قادرين على إدارة شؤونهم".
وعزا السر في نجاح التسويق الزراعي في العالم، إلى تمكن الفلاحين من تنظيم أنفسهم، كما في تركيا وإيطاليا وقبرص التي تسنى له زيارتها، فشاهد بأم عينه مدى تنظيمهم وتفاديهم العمل العشوائي.
بينما وصف وقتها، مدير شركة جنات للتسويق الزراعي، علاّم خلوف، معادلة كساد الخضراوات بـ "المعقدة"، فقد لازم انخفاض السعر الحاد للبندورة مدة عامين، ثم ارتفع فجأة إلى 80 شيقلاً للصندوق الواحد، إنه أقرب مثال يستهلّ به.
ووفق خلوف، فإن اللفت، والبندورة، والكوسا، والخيار، والبطاطا، والملفوف لازمها الانخفاض الحاد في الأسعار، في حين أن الخيار الربيعي بقي "الثابت الوحيد" في سعره منذ أكثر من 30 عاماً، إذ لم يشهد في العموم أي هزات، وهو من المحاصيل التي تُصدّر إلى السوق الإسرائيلي.

خيار بأسعار زهيدة