حبيب معلوف
لم يكن انفجار صوامع القمح والذرة مع انفجار المرفأ هو المؤشر الحاسم على تهديد الأمن الغذائي في لبنان.
معظم المؤشرات الأخرى توحي بأن الوضع على المدى القريب والمتوسط والبعيد أسوأ من أي تخيّل، وأخطر من حالة "المجاعة" التي عرفتها بلادنا تاريخياً.
قادمون على أزمة مربعة الأضلاع بين عدم توفر الغذاء الكافي، وعدم تحمّل كلفته عند عدد كبير من الناس، وعدم سلامته، وعدم وجود الفيتامينات والمعادن الكافية فيه.
أما ما هو أخطر من كل ذلك، وغير المسبوق في حدوثه، وما هو جديد في المُعطى التاريخي للأزمة الأخيرة، أن المشكلة تعدّت انهيار العملة الوطنية وإفلاس الدولة وودائع الناس وانهيار صوامع القمح والتخزين، إلى انهيار النظم الإيكولوجية وتهديد مقومات الحياة في لبنان.
طلائع هذا الانهيار، كما ظهر في سلسلة ورش العمل التي نظمتها وزارة البيئة بالتعاون مع مؤسسة "هانز زايدل"، حول الأمن الغذائي مع الأزمات الاقتصادية والمناخية، ظهرت في تلوث التربة والمياه، وفي تراجع نوعية الغذاء والصحة العامة بشكلٍ لم يسبق له مثيل.
موضوع تلوّث التربة وتملّحها وانجرافها، مشكلات مسكوت عنها في الخطاب الغذائي عادة، ولم يُعلن عن الدراسات التي تحدّد خريطة توزّع التربة وحالتها منذ زمن بعيد، مع أن المجلس الوطني للبحوث العلمية كان قد استعدّ للإعلان عن هذا الموضوع، وأُلغي عام 2006، في إثر عدوان تموز.
لطالما سلّطنا الضوء على تلوّث التربة من جراء الاستخدام العشوائي للكيميائيات من أسمدة ومبيدات والمرتبطة عضوياً بتلوّث المياه السطحية والجوفية، إلا أن ما استجدّ من مظاهر مناخية متطرفة بسبب تغيّر المناخ، ساهم إلى حد كبير في انجراف التربة أيضاً، مع العلم أن كل 3 سنتيمترات من التربة الخصبة النظيفة تحتاج إلى أكثر من ألف سنة لكي تتكوّن، بحسب رأي خبراء التربة.
في العالم، كانت هناك وفرة من الإنتاج ولكن لطالما كانت المشكلة في القدرة على تحمّل الكلفة عند الذين يعيشون بأقل من دولار يومياً.
وكانت أزمة الغذاء تشتدّ مع الحروب أو مع ارتفاع أسعار النفط والأسمدة التي تحتاج إليها الزراعة التصنيعية المكثفة.
إضافة إلى عوامل الطقس وتحويل بعض أنواع النباتات الغذائية كالذرة إلى وقود حيوي (الإيثانول)، والتوسّع في تربية المواشي واستهلاك اللحوم التي تحتاج إلى استهلاك الكثير من الحبوب والمياه، فضلًا عن نَسب الأرقام الصادمة للهدر في الغذاء في الدول الغنية.
ثم كيف يمكن نسيان مسؤولية الأنموذج التنموي الغربي المدمر الذي تبنّاه العالم أجمع بشكلٍ أو بآخر؟
وهكذا كلما أرادت بلدان مثل الصين والهند تبني هذا الأنموذج في حب استهلاك اللحم يومياً والأكل السريع، وحب قيادة السيارات الخاصة، زاد الحديث عن أزمة غذاء ومناخ.
وكلّما زادت الحرارة والمظاهر المناخية المتطرفة، زادت الفيضانات والجفاف وكذلك الهجرات واللجوء والفقر وأزمة الغذاء.
وعندما يتزامن كل ذلك مع زيادة السكان واللجوء والصراعات وانهيار دور الدول لصالح الشركات الكبرى التي لا تبغي غير الربح، يعني ذلك الدخول في نفق مظلم جداً لا أحد يعرف نهايته.
كما يمكن إضافة زراعة التبغ و"الحشيشة" إلى العوامل المؤثرة سلباً على الأمن الغذائي في بلد مثل لبنان، إذ تأخذ هذه الزراعات مكان الزراعات الغذائية وتتسبّب بتلوّث أو تدهور كبير في خصوبة التربة.
لم تجد الآراء المطالبة بالتوسع بزراعة القنّب (التي تُعد أسعارها أعلى بكثير من أسعار الزراعات الغذائية) قبولاً، كونها أيضاً تخالف مبدأ التنوّع في الزراعة، وعدم جواز الذهاب بعيداً في الزراعة الأحادية لنوعٍ واحد، مؤشرًا قديمًا على تهديد الأمن الغذائي.
كما يمكن إضافة مشكلة استجدّت مع فقدان العملة الوطنية قيمتها، إذ لم يعد هناك إمكانية لدفع ثمن البذور (والكيميائيات التي يُستحسن تجنبها)، مع العلم أن لبنان يستورد 80% من حاجاته الغذائية ومن البذور والأسمدة.
كما دفع البحث عن العملة الصعبة إلى التوسع بزراعات بهدف التصدير على حساب الزراعات التقليدية، تماماً كما حصل تاريخياً عندما زُرعت شجرة التوت (بهدف صناعة الحرير في الغرب) بدلاً من الزيتون والكرمة والتين، ما تسبّب لاحقاً في أزمة غذائية.
ولكي تكتمل الصورة الكارثية، عُرضت في الورشة المذكورة دراسة عن الأطباق اللبنانية التقليدية التي تبيّن أنها تفتقر إلى الفيتامينات والمعادن، مقترحةً أن تُدعم بما يسمى "الإثراء الغذائي"، أي إضافات ومتمّمات غذائية لصالح شركات معينة.
وقد أثار هذا الموضوع جدلاً واسعاً بين المشاركين وتشكيكاً بالدراسة والعيّنات، أفضى إلى خلاصة مفادها أن هناك مشكلة جادة في نوعية الغذاء، ولا سيّما في مصادر الغذاء (حبوب كاملة أم مقشورة) وفي طرق الزراعة (خيم أم شمس، وتربة غنية بالمعادن أم لا) وطرق التحضير (الطبخ)، يُفترض تحسينها، ولكن ليس عبر المعالجة بالإضافات والفيتامينات.
موّلت شركات الأغذية العالمية الكثير من الأبحاث التي تتحدث عن "السعرات الحرارية" وكيفية قياسها وتلك التي ركزت على أهمية البروتينات في الخمسينيات والستينيات، إلا أن بعض الأبحاث البعيدة عن مصالح هذه الشركات عادت وأكدت أن كل الوجبات التقليدية توفر البروتين الكافي.
ومع كل هذه الكوارث لا يزال هناك إمكانات ولو محدودة للعودة إلى النظام الغذائي التقليدي المتوسطي الذي يعتمد على الحبوب الكاملة والبقوليات والخضار والفواكه والسمك، مع لحم أقلّ.
وزير البيئة ناصر ياسين اقترح أن تُعرض نتائج هذه الورش على لجنة وزارية للوزارات المعنية بالأمن الغذائي وتغيّر المناخ، ووضع إستراتيجية متكاملة حول كيفية مقاربة كل هذه الإشكاليات التي باتت تصنّف وجودية.
وقد حدث إجماع حول ضرورة العودة إلى الحمية الغذائية المتوسطية القليلة اللحم، الصحية والمتأقلمة مع تغيّر المناخ، ودعم إنتاج وتسويق الغذاء التقليدي وحمايته، وإعداد سياسات إنتاجية طويلة المدى، وإعادة النظر في "الرزنامة الزراعية" التي لا تكون دائماً لصالح الإنتاج المحلي، وتحديث قانون العمل، وإعادة النظر في الموازنات لناحية دعم البيئة والزراعة وخفض الموازنات الأمنية، والتنبّه ممن يدعم البحث العلمي ولمصلحة مَن، وإيجاد بنك لحفظ البذور، وتغيير المناهج التعليمية لصالح إنتاج وتحضير الغذاء السليم، وإعادة الاعتبار إلى وزارة التخطيط، وضبط عمل وتجارة شركات الغذاء الكبرى، ومنح الأولوية لمبدأ الاحتراس على مبدأ الملوّث يدفع.