خاص بآفاق البيئة والتنمية
ككثير من حكايات هذا البلد، حكاية فلسطين مع القمح حكاية مؤلمة، فبينما علم الآثار يأخذنا إلى مناجل الصوّان الأولى وتطوّر فن الحصاد في جبال الكرمل وفي وادي الناطوف منذ فجر التاريخ، أو حتى كتب التاريخ تسرد تفاصيل الإبداع الزراعي في زراعة القمح القاسي المقاوم للجفاف قبل ألف عام فقط وحكايا أجدادنا حول ليالي البيادر والحصاد ومسميات القمح كالقمح النورسي والحوراني والهيتي وغيرها، نجد أن كل هذا الموروث اختفى تقريبًا من معظم مناطق فلسطين لسبب بسيط، أننا لم نأبه لنصيحة الأجداد القائلة "شعير بلدك ولا قمح الغريب" أو حتى "شعيرنا ولا قمح غيرنا". وقد وجدنا مقالة توثق لهذه التغييرات في جريدة فلسطين من عام 1930، سنسرد تفاصيلها هي وغيرها في المقالة التالية، التي نختمها مع بصيص أمل لقرى فلسطينية لا تزال تُصرّ على زراعة القمح لإنتاج القمح الذي يُشكل موردًا اقتصاديًا مهمًا فيها، حتى يومنا هذا.
|
حكاية فلسطين مع القمح مؤلمة ككثير من حكايات هذا البلد، فبينما علم الآثار يأخذنا إلى مناجل الصوّان الأولى وتطور فن الحصاد في جبال الكرمل، ووادي الناطوف مُنذ فجر التاريخ، أو حتى ما تسرده كتب التاريخ من تفاصيل الإبداع الزراعي في زراعة القمح القاسي المقاوم للجفاف قبل ألف عام فقط، وحكايا أجدادنا حول ليالي البيادر والحصاد ومسميات القمح كالقمح النورسي والحوراني والهيتي وغيرها، نجد أن كل هذا الموروث اختفى تقريبًا من معظم مناطق فلسطين لسبب بسيط، أننا لم نعمل بنصيحة الأجداد القائلة: "شعير بلدك ولا قمح الغريب" أو حتى "شعيرنا ولا قمح غيرنا".
وقد وجدنا مقالة توثّق لهذه التغييرات في جريدة فلسطين من عام 1930، سنسرد تفاصيلها هي وغيرها في المقالة التالية، التي نختمها مع بصيص أمل لقرى فلسطينية لا تزال تُصرّ على زراعة القمح لإنتاج القمح الذي يشكّل موردًا اقتصاديًا مهمًا فيها، حتى يومنا هذا.
مناجل الصوان في الكرمل
لفلسطين مع القمح علاقة قديمة جدًا، ويُظن أن سكانها أول من مارس زراعة الحنطة بينما كان غيرهم يعيش على الصيد والمرعى - كما يقول الدبّاغ في كتابه الفريد "المملكتان النباتية والحيوانية في بلادنا فلسطين".
ويُنقل عن خبراء الزراعة بأن فلسطين وبلاد الشام عرفت زراعة القمح والحنطة مُنذ العصر الحجري الوسيط وهو العصر الذي امتد نحو 6000 سنة ابتداءً من حوالي 12000 ق. م.
شواهد كثير تؤكد عراقة القمح في فلسطين، نجد عالم الآثار الهولندي هنري فرانكفورت يذكر في كتابه "فجر الحضارات في الشرق الأدنى" أن الأصول البرية الأولى للقمح والشعير لا تزال موجود في سوريا وفلسطين، وأن فن الحصاد تطور في هذه المنطقة منذ القدم.
فمثلًا، في كهوف جبال الكرمل اُكتشفت بقايا أقدم الناس الذين استخدموا المناجل وقد يكونوا استخدموها لحصاد نباتات برية وليس بالضرورة للحبوب.
ولكن المثير بأن هؤلاء وهم يُدعون بــ "النطوفيين" نسبة إلى وادي ناطوف (شمال غرب رام الله) كانوا البادئين لفن الحصاد بفضل مناجلهم الغربية (والبديع) والتي كانت مكوّنة من مقبض عظمي مشقّق فيه قطع قصيرة من الصوّان كالأسنان.
"القمح القاسي" والمطبخ الشامي
لعل أكثر ما يُميز القمح الذي زُرع في فلسطين وبلاد الشام عبر التاريخ أنه ينتمي إلى ما يُعرف بالقمح القاسي (أو الصلب).
وقد أشار إلى ذلك الباحث "واطسون" في دراسته حول الإبداع الزراعي في بدايات العالم الإسلامي، لافتًا إلى أن القمح القاسي يتميز بارتفاع نسبة ما يحتوي عليه من البروتين ولقساوة حبوبه، فإن للقمح القاسي استخدامات خاصة، مثل استخدامها في تحضير البرغل والفريكة وغيرها من الأطباق المعروفة في بلاد الشام وفلسطين.
وعن مُحاولة واطسون للبحث في تاريخ هذه الأصناف، يقول: "عندما كتب ابن وحشية في مطلع القرن العاشر يصف طرازًا لامعًا من القمح ذي الدقيق الدبق يصلح لعمل المعجنات فإنه كان يصف القمح الصلب الذي يحتوي على نسبة عالية من الدابوق (الغلوتين)، وما يزيد من احتمال أن يكون المقصود بذلك نبات القمح القاسي، أن ابن وحشية يشير إلى قدرة أكبر لهذا النبات على النمو في التربة الجافة من طُرز القمح الأخرى".
وبشكلٍ مشابه فإن الهمداني في القرن نفسه يصف كما يبدو القمح القاسي اليمني في النص الآتي: (البر ليس هو نفسه الحنطة. ذلك أنه إذا صنعت منه العجين، وأردت بعد ذلك أن تقتطع قطعة من ذلك العجين فإن الجزء المجاور سينجرّ مع الجزء الذي تود اقتطاعه).
وربما كان البكري في القرن الحادي عشر يصف القمح الصلب عندما تعرّض خاصة لذكر نوع جاف من حبوب القمح الذي يزرع في إقليم سجلماسة، ولقد كان ذلك القمح يؤمن البذار لنفسه في التربة لمدة ثلاث سنوات تباعًا"[1].

فلاحات فلسطينيات أثناء طحن القمح
أرض الشام "أرض القمح"
ازدهرت زراعة القمح والحنطة والحبوب عمومًا في معظم بلاد الشام، فالبلقاء وبالأخص منطقة عمّان عُرفت تاريخيًا بأنها معدن الحبوب والأنعام، أي أصل الحبوب ومكانها.
وكذلك زُرعت الحبوب بوفرة على ضفاف بُحيرة الحولة (قبل تجفيفها)، إضافة إلى المنطقة الواقعة بين روافد نهر اليرموك ونهر الزرقاء، التي تميزت بأنواع من تربة جعلتها تنتج الحبوب بوفرة ونجد كذلك غوطة دمشق وسهل حلب والسهل الساحلي اللبناني.
منطقة حوران كانت من أبرز المناطق التي اشتهرت بالقمح وارتبط باسمها القمح الحوراني، فقد كانت تُصدّر الحبوب مثل القمح والشعير إلى بلاد الامبراطورية البيزنطية عبر ميناء صور[2]، وكذلك صُدّر القمح الحوراني إلى الجزيرة العربية وبلاد الشام عبر مدينة بُصرى التي تحتوي على مخازن الحبوب.
في كتابه خُطط الشام[3]، يذكر محمد كُرد علي أصناف الحنطة التي عرفتها بلاد الشام، باعتبارها "أعظم الزروع شأنًا وأغزرها محصولًا وأعمها انتشارًا" فيقول: "وأشهر أصنافها الحورانية والبياضية واليبرودية و البقاعية والحمارية والنورسية وحنطة عين غرة والدوشانية والشلمونية والهيتية".
ثم يصف الحورانية: "فالحورانية تُعرف بساق متوسطة الطول وسنبلة غليظة كثيفة مربعة ذات سفا لونها إلى سمرة وحب سمين قاس إلى حمرة".
وهي أجود الأصناف وأعمّها، تُزرع في حوران ووادي العجم وفلسطين والبلقاء وحلب، وباختصار في كل أنحاء الشام على درجات متفاوتة، أما موطنها الأصلي فحوران.

القمح الفلسطيني "الخارق" - من موسوعة غوستاف دالمان
القمح النورسي في مرج بن عامر
في فلسطين، وصف الدبّاغ مرج ابن عامر بأنه "سلّة خبز فلسطين" لكثرة زراعة القمح والحبوب فيه.
ارتبط الكثير من الأصناف بأرض فلسطين ولكن أشهر هذه الأصناف هو النورسي.
يؤكد صاحب "خُطط الشام" محمد كرد هذه الحقيقة قائلًا عن القمح النورسي" فيقول: "وأما النورسي فيُزرع في فلسطين وهو يعرف بسنبلة مستطيلة ذات سفا، وحبات مستطيلة حنطية إلى حمرة". في "الموسوعة الفلسطينية"[4] فإن أكثر ما يُميز القمح النورسي أنه قليل التبن.
من الجدير بالذكر، أن بُطرس البستاني صاحب معجم محيط المحيط[5] يشير إلى أن القمح النورسي سُمي بهذا نسبة إلى بلد في آسيا الصغرى، ومن الجدير أن "راينهارد" في كتابه "تكملة المعاجم" ينقل ذلك دون تعليق. بيد أن الرحالة والخبير الزراعي وصفي زكريا صاحب كتاب "المحاصيل الحقلية" يذكر في حديثه عن القمح النورسي بأنه "دخل فلسطين قبيل الحرب العالمية الأولى عن طريق المستعمرات الألمانية فهو مرغوب لمقاومته الضجعان (ويعني استلقاء الزَّرع من كثرة العناصر الغذائيَّة في التُّراب) ولفحة الحر والصدأ".
ويضيف بأنه "يُزرع في مرج ابن عامر، وغور بيسان وهو ذو ساق متوسطة الطول وسنابل مستطيلة صلبة ضاربة إلى الحمرة، ويتأخر في النضج ويتحمل الرطوبة الزائدة في التربة ويغل جيداً في سني الأمطار، ولعله أكثر الأصناف المحلية غلة".
يذكر المؤرخ مُصطفى كبها، بأن القمح النورسي ارتبط ذكره بقرية نورس، والتي اشتهرت بزراعة القمح وكانت تُنافس قرية قومية (قوميا) التي عُرف قمحها بالقمح القوماني وكذلك قرية لوبيا التي اشتهرت بالقمح اللوباني الذي كان يُزرع في سهل الحمى وحول عين الدامية[6].
في كتاب "المحاصيل الحقلية" الذي ألّفه وصفي زكريا عام 1951، يسرد أشهر الأصناف القديمة التي زُرعت في فلسطين تحديدًا، كما يسرد كل الأصناف التي عرفها في أبحاثه الزراعية ويصنّفها حسب البلاد العربية.
ويذكر إضافة إلى النورسي الذي ذكرناه سابقًا أن فلسطين أيضًا زرعت القمح الحوراني في منطقة الجليل الأعلى والجلجلولي، الذي يُزرع في السهول الساحلية وهو ذو ساق متوسطة، وسفاً أبيض وأحمر وحبوبه ثقيلة ذات لون عنبري وغلته متوسطة، وكذلك الأبوفاشي، يُزرع في قضاء طولكرم وهو ذو حبوب صغيرة لونها عنبري مبكر النضج كثير الغلة، لكنه عرضة للصدأ.
تذكر مصادر أخرى، أصنافًا أخرى من القمح، على سبيل المثال كان هناك قمح يُدعى "حرباوي" في بيت جرجا، وكذلك هناك القمح "القصري" و"الهيتي" و"دبيّة" و"ناب الجمل" وغير ذلك من الأصناف.

أصناف من القمح الفلسطيني في "الخضر" في فلسطين.
"قمح الغريب" من أستراليا إلى فلسطين
يذكر "وصفي زكريا" أن العديد من الأصناف الجديدة من القمح الليّن دخلت إلى فلسطين (قبل 1951)، مثل صنف " السى سي سى" وهو هجين من القمح الأسترالي الليّن الذي يستخدم لصنع الخبز الأبيض، وعلى الأكثر مخلوطاً مع القمح البلدي وكذلك صنف "بي، آي، أم، بي" BAMB وهو أيضاً هجين من القمح الأسترالي، ويستعمل لصنع الخبز الأبيض مخلوطاً مع القمح البلدي يشبه السى سي سى في الأوصاف.
وأيضًا صنف فلورنس 386 وهو من القمح الليّن الصالح للخبز، ساقه وسنابله طويلة، عديمة السفا، حبوبه ثقيلة صفراء تغل جيداً إذا زُرع مبكراً في الأرض الثقيلة.
يبدو أن دخول هذه الأصناف من القمح إلى بيوت الفلاحين، لم يكن بتوسع في البداية، بيد أنها انتشرت كثيرًا في الثلاثينيات. ففي يوم الأربعاء 19 شباط من سنة 1930 نشرت جريدة فلسطين مقالة للدكتور مجدي الشوا يقول في مطلعها:
"ساقني لهذا البحث الحيوي الذي يتصل بالكيمياء الغذائية في هذا الوقت العصيب، الذي لم يترك لنا دقيقة واحدة نلتفت فيها لشؤون صحتنا وصحة أولادنا، ما رأيت من كثرة انتشار الطحين "المسكوبي" أي "الأسترالي" الأجنبي في البيوت العربية في فلسطين.
وقد سألت مرارًا عن سبب إقبال كثير من العائلات العربية على شراء الخبز الأبيض "فينو" مثلًا وخلافه، وإهمال خبز الطحين الوطني، فكان الجواب أن الطحين "المسكوبي" لا يحتاج لتعب التنخيل بخلاف الطحين الوطني".
ثم يكمل ردًا على من ترك الطحين الوطني: "لقد ثبت كيماويًا وبتجارب عديدة أُجريت في كثير من الحيوانات أن الطحين الأبيض المنخّل لا قيمة غذائية له، وهو يضر بصحة من يداوم على أكله، لأنه لا يحتوي على نخالته التي تجمع بين ذراتها مواد الفيتامين الضرورية للحياة….
وأكثرها يكون في نخالة الطحين أي طحين جميع الحبوب، فلو أكل الإنسان خبزًا أبيضًا دون نخالة مدة شهر واحد، لأصبح عرضة لأمراض ذات خطر…".
ويذكر أسماء الأمراض مثل السكوربوت ومرض الرخيتس، وداء الفالج، ثم يعود إلى ما بدأ به ليدعو العائلات الفلسطينية لتجنب شراء وأكل خبز الطحين الأسترالي، وأن لا يأكلوا غير خبز بلادهم بنخالته - لأن كل الفائدة في النخالة - حفظًا لصحتهم.
بعد مرور حوالي 100 عام على مقالة الدكتور مجدي الشوا، تغيّرت أحوال القمح في فلسطين كثيرًا، فأصبح حوالي 90% من القمح فيها يستورد من الخارج، وأصبحت معظم الأصناف القليلة المزروعة هي أصناف هجينة مستوردة، كما أن معظم المصطلحات المتصلة بزراعة القمح غريبة عن الأجيال المعاصرة.
وقد كتب "جميل ضبابات" عام 2018 مقالة بعنوان "مأساة حبة قمح في فلسطين" يصف فيها ما آلت إليه أحوال القمح الهيتي التي أصبحت "نادرة" وقد وجدها الكاتب تُزرع في "قرية الساوية" ويصنع منها رغيف الطابون البلدي اللذيذ[7].
أبرز ما تبقّى من القمح في فلسطين اليوم، هو "موسم الفريكة" في سهول قرية عجة ودير غزالة في جنين وبلدة عرابة في مرج البطوف في الجليل وكذلك قرى رام الله مثل سنجل وترمسعيا وحتى يطا في الخليل وهذه القرى وغيرها تستحق أن يُقدم لها كل الدعم، لأنها تحفظ لنا موروثًا ثقافيًا زراعيًا بل وبيئيًا عُمره آلاف السنين.

جمال مُحمّلة بالقمح والحبوب عند باب العامود في مدينة القدس
[1] الإبداع الزراعي في بدايات العالم الإسلامي : انتشار المحاصيل والتقنيات الزراعية ما بين عامي 700-1100 م. / تأليف أندريو واطسون؛ ترجمة أحمد الأشقر 1985
[2] انظر: الخرابشة، ممدوح عبدالحليم، والنعيمات، سلامة صالح. (2010). الحياة الاقتصادية في بلاد الشام في العصر البيزنطي القرن السادس الميلادي (رسالة دكتوراه غير منشورة). الجامعة الاردنية، عمان.
[3] محمد كرد علي، محمد بن عبدالرزاق بن محمد. (1924). خطط الشام. مجلة المجمع العلمي العربي، مج 4, ج 11 ، 493 - 524.
[4] انظر الموسوعة الفلسطينية: الدراسات الخاصة. القسم الثاني
[5] البستاني، بطرس بن بولس، 1870. كتاب محيط المحيط : أي قاموس مطول للغة العربية د. ن., بيروت
[6] اُنظر المنشور في صفحة مصطفى كبها (1.5.2021) حول قومية (قوميا ) المهجرة - قضاء بيسان من سلسلة أطلال قرية وبقايا ذاكرة https://is.gd/SFyaVX