خاص بآفاق البيئة والتنمية
حيل قانونية ومالية خطيرة تُستخدم لتحقيق الهدف الاستيطاني الإسرائيلي، عدا عن تمويل الحفريات التوراتية في مناطق عدة والسيطرة على أراضي الفلسطينيين ومنازلهم سواء بالمال أم بالتحايل القانوني، فالغاية تبرر الوسيلة! لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل يسعى الاحتلال بحثاثة بواسطة أذرعه من الجمعيات الاستيطانية إلى تغيير معالم مدينة القدس العربية لتبدو كأنها مدينة توراتية نهضت من عمق تاريخ مزوّر وجغرافيا ملّفقة. وليس هنالك ما هو أكثر إقناعاً من حدائق توراتية تؤكد الرواية المزعومة، وتمحو آثار العرب والمسلمين، وتُحكم سيطرتهم على المدينة المقدسة. من الأمثلة الفاضحة على تزييف حكومة الاحتلال لحقيقة اهتمامها بالبيئة، وتغنّيها بسياسات التشجير، وتشجيعها على زيادة المناطق المفتوحة للحد من التلوث البيئي، حمايتها لقطعان المستوطنين الذين يقتلعون أشجار الفلسطينيين ويحرقونها في الجبال، ويدمرون أراضيهم بتجريف مئات الدونمات من الأراضي المزروعة لتوسيع المستوطنات في محيط القدس؛ من أجل زيادة التركيبة السكانية لليهود.
|
 |
القصور الأموية حُولت إلى حديقة توراتية |
"هم يتخيلون تاريخاً ثم يحققونه على أرض الواقع، إستراتيجية تنقص أبناء أمتنا الذين يحتاجون إلى الكثير من البصيرة والتخيل للحفاظ على أرضهم ووجودهم". د. ناجح بكيرات
لا نستطيع تناول قضية الحدائق (التوراتية أو الوطنية أو القومية وجميعها مرادفات تشير إلى المصطلح ذاته) بمعزل عن قضية أخرى وهي مهمة "الأساطير التوراتية المُختلقة".
دعونا نعود قليلاً إلى الوراء، ما يربو عن قرن من الزمان، تحديداً إلى عام 1891 حيث أُسست جمعية الاستعمار اليهودية( JCA) في لندن لمساعدة الاستيطان اليهودي في فلسطين، لتكون نواة للحركة الصهيونية العنصرية بهدف إنشاء دولة يهودية فنَّدَ فكرتها فيما بعد الصحفي اليهودي ثيودور هرتزل" في كتابه «الدولة اليهودية» عام 1896، وروَّج لها في المؤتمر الصهيوني الأول- بازل/ سويسرا في العام نفسه، داعياً لإنشاء «وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين» لتخليصهم من الشتات والاضطهاد الممارس ضدهم في المجتمعات الأوروبية.
فُرضت دولة الاحتلال على الفلسطينيين بقوة النار عام 1948، فتكت بهم، وهجَّرت من بقي حياً منهم من أرضه. وبعد احتلال بقية الأرض الفلسطينية عام 1967 لم تتوان عن تسويق أدلة موهومة لتثبت أحقيتها في الأرض، عبر استنهاض مجموعة من الأساطير اليهودية الموغلة في القِدَم والتي يدَّعي أصحابها أنها حقائق تاريخية يحتاجون للرجوع إليها، وليس هنالك ما هو أفضل من التنقيب داخل التراب عن أدلَّة ثم الادِّعاء زيفاً أنها يهودية تعود لمملكة اليهود وهيكلهم المزعوم في الماضي السحيق.
المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه عرض في كتابه" فكرة إسرائيل" تناقضات فكرة "إسرائيل" مع التاريخ والواقع.

كتاب فكرة اسرائيل- لمؤلفه ايلان بابييه
أسسّت الحركة الصهيونية تاريخًا قديمًا وحديثًا للدولة الإسرائيلية في سبيل إنشاء وطن لهم وتبرير عمليات القتل والتهجير التي شنّتها بحق الفلسطينيين.
وقد استطاعت تطويع المؤسسة الأكاديمية والسينما والدراما والإعلام من أجل ذلك.
ويقول بابيه إن الوثائق الجديدة تثبت أن طرد 730 ألف فلسطيني كان متعمداً ومنهجياً وواسع النطاق، وقد ترجم الفكرة الصهيونية إلى تطهير عرقي لفلسطين.

حدائق توراتية تضيق الخناق على المسجد الأقصى
إلعاد: مشروع تهويدي بذريعة التخضير والبستنة
لننتقل من الماضي القريب إلى الحاضر القاتم، بمثال واحد لا غير، وهو جمعية "إلعاد" الاستيطانية، وتعد من أغنى الجمعيات غير الحكومية في دولة الاحتلال.
رأس حربة الاستيطان وتهويد القدس، تشرف على حوالي 70 بؤرة استيطانية في سلوان، تقع غالبيتها في منطقة وادي حلوة، المنطقة الأقرب للمسجد الأقصى.
حِيل قانونية ومالية ضخمة تُبذل لتحقيق الهدف، عدا عن تمويل للحفريات التوراتية في مناطق عدة والسيطرة على أراضي الفلسطينيين ومنازلهم سواء بالمال أم بالتحايل القانوني، فالغاية تبرر الوسيلة.
تسيطر "إلعاد" على إدارة ثلاث مناطق أثرية على الأقل، أو ما يُسمى لدى الاحتلال بـِ "الحدائق القومية"، وهي: منطقة الآثار فيما يُسمى "مدينة داود"، والقصور الأموية، و"موقف جفعاتي"، وكلها تقع على بُعد أمتار جنوبي المسجد الأقصى.
في عام 2022 كشفت "إلعاد" النقاب عن مشروع تهويدي في سلوان، حمل اسم "مزرعة في الوادي"؛ لاجتذاب آلاف المستوطنين والسياح الأجانب إلى مدينة القدس المحتلة، للمشاركة في فعاليات ونشاطات ما يسمى بـ "الحديقة الوطنية".
وبإيعاز من بلدية الاحتلال وضعت "إلعاد" يدها على أرض تعود ملكيتها للفلسطينيين في سلوان وحوَّلتها إلى مزرعة استيطانية.
اُستخدمت البستنة وزراعة الأشجار لتغيير ملامح الأرض الأصلية، وإنشاء تاريخ جديد ينسجم مع "الرواية الصهيونية التلمودية" حول مدينة القدس.

حدائق توراتية حول أسوار البلدة القديمة في القدس
تعهدّت جمعية "إلعاد" للزائرين في موقعها الإلكتروني بتقديم "تجربة زراعية خاصة، تشبه تجارب المزارعين القدامى، تماماً كما في العصور القديمة".
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل يسعى الاحتلال بحثاثة بواسطة أذرعه من الجمعيات الاستيطانية إلى تغيير معالم مدينة القدس العربية الإسلامية لتبدو كأنها مدينة توراتية نهضت من عمق تاريخ مزوّر وجغرافيا ملفقة.
وليس هنالك ما هو أكثر إقناعاً من حدائق توراتية تؤكد الرواية المزعومة، وتمحو آثار العرب والمسلمين، وتُحكم سيطرة المحتل على المدينة المقدسة.

كنيسة الصعود الروسية في جبل الزيتون تتعرض أراضيها للالتهام ضمن مشروع توسيع حديقة أسوار المدينة ومشروع التلفريك
خلق جيوب استيطانية
تطوِّق الجيوب الاستيطانية مناطق القدس المحتلة عام 1967 من الجنوب والشرق والشمال، قسم منها يقع على مقربة من الطرق الرئيسة للبلدة القديمة.
أُقيمت أيضاً جيوب استيطانية في الحي الإسلامي وحي النصارى داخل البلدة القديمة، وانتقلت بيوت أخرى في جنوب البلدة لأيد يهودية في العقود اللاحقة بمساهمة الجمعيتين الاستيطانيّتين، عطيرت كوهنيم وإلعاد.
وتساعد السلطات" الإسرائيلية" الجمعيات الاستيطانية وتدعمها دعمًا واسع النطاق، فقد اشترت ممتلكات من جهات فلسطينية- أحيانًا بطرق مشكوك بها- وطالبت بإعادة الممتلكات التي تبعت ملكية اليهود قبل عام 1948 لسيطرتهم!
في عام 1974 ابتدعت سلطات الاحتلال قوانين تنظيمية في سبيل تطبيق سياساتها الاستعمارية، ومنها قانون الحدائق الوطنية، الذي حدد مناطق في محيط البلدة القديمة "مناطق خضراء" يُمنع البناء فيها، وحدّد عدداً منها باعتبارها حدائق وطنية تخضع لإدارة الحدائق الوطنية ضمن سلطة الآثار "الاسرائيلية".
تضم الحديقة التوراتية حول أسوار البلدة القديمة للقدس أراضٍ تقع بالقرب من حي الصَّوانة، وحي وادي الجوز، يُحرم أصحابها من حق البناء فوق أراضٍ يملكونها.
وبهذا، تقلِّل من عدد العرب بالقرب من البلدة القديمة. وفي المقابل، تُخصَّص مساحات من هذه الأراضي لصالح بناء مسار سياحي استيطاني يسهل بواسطته جلب السيَّاح من أعالي جبل الزيتون، مروراً بوادي قدرون، وصولاً إلى عين سلوان، في مسار يستمعون فيه حصرياً للرواية الصهيونية التوراتية.
وتصل حدود هذه الحديقة إلى مقبرة باب الرحمة، أقدم مقبرة إسلامية في القدس، والملاصقة تماماً للسور الشرقي للبلدة القديمة المشترك مع المسجد الأقصى، ويعود تاريخ هذه المقبرة إلى ما يقارب 1300 عام، وما زالت تستخدم للدفن حتى اليوم.
وفي عام 2018، سيَّجت سلطة الحدائق والطبيعة المقبرة؛ في محاولة لمنع تمدد المساحة المستخدمة لدفن الموتى.
لم يقتصر الأمر على حدائق خضراء تسيطر على الأرض، بل تمدَّد ليشمل السماء! حيث أقرَّت سلطات الاحتلال إنشاء مشروع تلفريك في سلوان سيمر فوق 60 منزلاً للفلسطينيين على ارتفاع يبلغ 14 متراً فوق بعضها.
وجاءت المصادقة على المخطط بعد تدشين الحدائق التوراتية في القصور الأموية، وتدشين شبكة الأنفاق في ساحة البراق لتتمدد تحت القدس القديمة وعين سلوان، والمصادقة على مخطط لإقامة متنزه في جبل الزيتون المطل على القدس القديمة، يشمل ذلك ربط مشاريع استيطانية تحاصر المسجد الأقصى بواسطة خط التلفريك المزمع إنشاؤه، برغم معارضة مهندسين معماريين وأكاديميين دوليين بارزين للمشروع وبحسب ما ورد في عريضتهم:" التلفريك لا يناسب المدن القديمة التي تتمتع بمشهد خاص منذ مئات أو آلاف السنين".
منذ عام 2010 وحتى الآن، صادرت بلديّة الاحتلال ما نسبته 22% من مساحة القدس الشرقية، لتخصيصها "مناطق خضراء" من أجل بناء حدائق توراتيّة ومتنزَّهات وطنية، ومُنع المقدسيون من البناء فيها، وحين احتاجت إليها المستوطنات كُسرت القاعدة دون تردد.
تنتشر الآن الحدائق الوطنية في مدينة القدس بكثافة، وبين الحين والآخر تُوّسع وتُعدّل مساحاتها على حساب المساحة المتبقية للمقدسيين، ومنها الحديقة المحيطة بأسوار البلدة القديمة بمساحة 1100 دونم، وحديقة وادي الصوانة بمساحة 170 دونمًا، وحديقة جبل المشارف- العيسوية/الطور بمساحة 730 دونمًا، وحديقة الملك– حي البستان/ سلوان بمساحة 50 دونمًا، وحديقة جبل الزيتون بمساحة 470 دونمًا، وحديقة شمعون هتصديق- حي الشيخ جراح بمساحة 120 دونمًا، وحديقة باب الساهرة بمساحة 40 دونمًا.
عملت سلطة الحدائق على خلق مشهد زراعي، وأضيفت أشجار جديدة إلى المساحة، بعضها نُـقِلت إلى هناك بعد خلعها من أراضي قرى فلسطينية مرّ فوقها الجدار الفاصل، وبعضها ما زالت سلطة الحدائق تأتي بها شهريًا ليُزرع ويُضاف إلى المشهد.
وبَنَت مصاطب وطرقاً ومسارات للمشي، ووضعت يافطات إرشادية وتعليمية، وسلاسل حجرية قديمة جدًا كُتب عليها " منطقة عاش فيها يهود من حقبة الهيكل الأول أو الثاني".
ورد في تقرير لمنظمة بتسيلم بعنوان:" الحدائق الوطنية أداة لحصر الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية": "إن الحجم الاستثنائي لعدد الإعلانات عن الحدائق الوطنية في القدس الشرقية، وتمَوضعها أحياناً في مناطق خالية من أي مبررات أثرية وقيم طبيعة هامة، يشيران إلى أن الهدف من هذه الإعلانات يتعدى تعزيز الحفاظ على قيم الطبيعة والتاريخ والمناظر الطبيعية، بل يرمي إلى غايات سياسية مثل الحفاظ على أغلبية يهودية في القدس، وإنشاء تواصل مناطقي من دون سكان فلسطينيين، وتكثيف الوجود اليهودي في شرقي المدينة. وبذلك تكون أداة ناجعة وبالغة القوة لخدمة الأهداف السياسية تعوِّض الأدوات البلدية التي تسعى لحصر التخطيط والبناء وتحديدهما".

مدخل مدينة داود الاستيطانية في سلوان جنوب المسجد الأقصى
الحدائق التوراتية: مدينة داوود أنموذجاً
تنتشر في القدس عشرات الحدائق التوراتية منها قرية لفتا المهجرة غرب القدس، وأراضي قرية الولجة جنوب القدس التي أُعلنت حديقة توراتية تهدد بحرمان أهلها من زراعة أراضيهم أو حتى الوصول إليها.
القانون "الإسرائيلي" يُعرّف الحديقة الوطنية بأنها "مساحة من الأرض تُستخدم اليوم أو مستقبلاً لتلبية احتياجات الناس في الترفيه عن أنفسهم في أحضان الطبيعة.
ويكون الإعلان عن مكانٍ ما، حديقة قومية لأحد الأسباب التالية: أن يحمل المكان أهميةً تاريخية، أو أثرية، أو هندسية، أو طبيعية، أو حتى "مشهدية".
بعد احتلالها، ضُمَّت بلدة سلوان ضمن "القدس الشرقية" إلى "إسرائيل"، وفي عام 1974 أُعلن القسم الشمالي منها حديقة قومية أُطلق عليها اسم مدينة داوود، بعدما كانت تضم عشرات من البيوت يسكنها فلسطينيون.
أورد الأب لويس حزبون في كتابه "القدس.. تاريخها ومعالمها الأثرية" أن مدينة داوود اسم أُطلق على حصن يبوسي يقع على جبل صهيون في حي سلوان، وقد اتخذ الملك داوود (ثاني ملك في مملكة إسرائيل الموحدة، 1011 ق.م. - 971 ق.م. وأحد أنبياء بني إسرائيل بحسب المعتقد الإسلامي) هذا الحصن مقراً لمملكته. ثم أُطلق اسم مدينة داوود على كل التل الجنوبي الشرقي لقبة الصخرة.
وبنى اليبوسيون في ذلك الوقت قلعة حصينة على الرابية الجنوبية الشرقية وسُميت قلعة يبوس وأقاموا فيها قصراً ومعبداً ونفقاً للحصول على المياه في وقت الحصار،ـ وأقاموا حول المدينة الأسوار وبرجاً عالياً لتحصينها.
بنوا "مدينة داوود" أو "عير دافيد" كما يسمونها على أنقاض مدينة يبوس التاريخية، وأحضروا عائلات إسرائيلية وادّعوا بأن جذورها قديمة تمتد لآلاف السنين وأسكنوهم في قلب مدينة داوود للإيحاء بأن الوجود اليهودي استمر في المدينة منذ القدم.
حتى عام 1967 نقّبت عالمة الآثار البريطانية كاثلين كينيون في فلسطين، وكانت مشبعة بأفكار مسبقة مصدرها التوراة، ولكن الآثار المكتَشفة كذَّبت الادِّعاءات التوراتية، ودفعت كاثلين لتُعلن أن نتائج تنقيباتها تدحض الادعاءات التي نشرها علماء آثار تقليديون، وعرَّت في كتابها "التوراة والمكتشفات الأثرية الحديثة" الأوهام التي تحتشد بها معاهد البحث التوراتية والجمهور العريض من الصهاينة الذي نشأ معتمداً على أساطير أوائل المنقبين.
وهكذا قدمت الدليل على أن علم الآثار التوراتي عجز عن إيجاد شواهد تدعم افتراضاته المسبقة؛ ما يعني اهتزاز الصورة الذهنية عند الغرب بشأن أحد مرتكزات الكيان الاستعماري في فلسطين.
في الختام:
من الأمثلة الفاضحة على تزييف حكومة الاحتلال لحقيقة اهتمامها بالبيئة، وتغنِّيها بسياسات التشجير التي تشجع عليها وترصد لها مبالغ كبيرة، وتشجيعها على زيادة المناطق المفتوحة للحد من التلوث البيئي، حمايتها لقطعان المستوطنين الذين يقتلعون أشجار الفلسطينيين ويحرقونها في الجبال، ويدمرون أراضيهم بتجريف مئات الدونمات من الأراضي المزروعة لتوسيع المستوطنات في محيط القدس؛ من أجل زيادة التركيبة السكانية لليهود. وجبل أبو غنيم الذي تغيّرت معالمه، وجُرّد من أشجاره الحرجية في أقل من عشر سنوات (بين عامي 1997 و2007)، لتوسيع مستوطنة «هار حوما» جنوب القدس خير شاهد على هذا التزييف.