خاص بآفاق البيئة والتنمية
ليس هناك بلدة في فلسطين إلا زَرعت الزيتون وتفاخرت بزيتها، مصداقًا للمثل الشعبي "ما حدا بقول عن زيته عكر" فكيف نعرف أين يكون أفضل زيت زيتون في فلسطين؟ لا شك أن هذا السؤال حسّاس، بل حسّاس جدًا، ولهذا سوف نستعين في هذه الرحلة بمرشدٍ من طرازٍ خاص، سنتعرّف عليه وعلى تجربته مع أبرز "القرى الزيتونية" في فلسطين، حيث زرع الزيتون بنفسه، وحيث تعرّف على أصناف الزيتون المختلفة، من النبالي والمليصي إلى الجلطي و"بزّ الحمار". وقد أجرى بنفسه العديد من التجارب للحصول على زيتٍ فلسطيني فاخر، حتى حصل في عام 1945 على زيت بدرجة حموضة 0.3% كما أخبرنا في كتابه بكل فخر، إضافة إلى كمٍ مُدهش من التفاصيل التي سنبحر فيها عبر هذه الرحلة.
|
رحلتنا مع الزيتون لن تكون كأي رحلة، كيف لا ونحن نتحدث عن فلسطين والزيتون وليس هناك بلدة فيها لم تَزرع الزيتون وتتفاخر بزيتها، وهو ما يُخبرنا به المثل الشعبي "ما حدا بقول عن زيته عكر"، فكيف نعرف أين يكون أفضل زيت زيتون في فلسطين؟
لا شك أن هذا السؤال حسّاس، بل حسّاس جدًا، ولهذا سوف نستعين في هذه الرحلة بمرشدٍ من طراز خاص، سنتعرّف عليه وعلى تجربته مع أبرز "القرى الزيتونية" في فلسطين، حيث زرع الزيتون بنفسه، وحيث تعرّف على أصناف الزيتون المختلفة، من النبالي والمليصي إلى الجلطي و"بز الحمار"، وقد أجرى العديد من التجارب للحصول على زيت فلسطيني فاخر، حتى حصل في عام 1945 على زيت بدرجة حموضة 0.3% كما يخبرنا في كتابه بكل فخر، إضافة إلى كمٍ مُدهش من التفاصيل التي سنبحر فيها عبر هذه الرحلة.
مرشدنا هو علي نصوح الطاهر، الباحث والخبير الزراعي. وُلد في يافا عام 1906 ثم سافر إلى فرنسا ليدرس دبلوم الزراعة العالي في جامعة نانسي، ثم التحق بكلية العلوم في جامعة السوربون للحصول على الدكتوراه، إيمانًا منه بأن الزراعة مُقاومة، وما إن تخرّج حتى عاد إلى فلسطين ليبدأ مسيرته مع الزيتون مُنذ عام 1932 وحتى عام 1946 قبل أن ينتقل إلى الأردن ويؤلف كتابه "شجرة الزيتون" الذي طُبع في مطبعة "الطاهر إخوان" في يافا عام 1947، وفيه يسرد كُل تجاربه ومعارفه مع هذه الشجرة المباركة، الذي سيكون مرجعنا الأساسي في هذه الرحلة الزيتونيّة "المُتخيّلة" وكأننا نتجول مع هذا الكاتب الذي توفي عام 1982.
قبل انطلاقنا، لا بُد أن نستمع عن سرّ مُرشدنا علي نصوح الطاهر مع شجرة الزيتون كما يرويه بنفسه في المقدمة:
"أتاحت لي طبيعة عملي حين كنت مفتشًا في قسم البساتين في حكومة فلسطين منذ سنة 1932 ومسؤولًا عن المناطق الجبلية في فلسطين كافة، أن أزور أغلب المناطق الجبلية، فتبيّن لي منذ البدء أن شجرة الزيتون هي شجرة فلسطين الأولى من حيث المساحة التي تشغلها والثانية من حيث دخلها، وتحقَقْتُ ما لها من الفضل على سكان المناطق الجبلية خاصة، وبتُ أتصور حالة الجبل لو لم يكن قد غرس فيه الأجداد والآباء تلك المساحات العظيمة التي نتمتع نحن الأحفاد بخيراتها التي تُعيننا في مقاومة ضائقةٍ نازلة ومحنة عابرة، فشعرتُ في قرارة نفسي بميلٍ مُلّح لأن أخص شجرة زيتون بكل عنايتي واتخذّها رفيق فني".
بعد هذه المقدمة، لا بد لنا أن ننطلق معه من مقر عمله في "مستنبت فراضية" الواقع بين صفد وعكا، حيث كان يُجري العديد من التجارب على أشجار الزيتون وغيرها من الأشجار مثل التين والتفاح والعنب واللوز والمشمش، وحيث لاحظ أن عناية أهالي صفد بالزيتون لم تكن مثل جيرانهم في قضاء عكا أو طبريا، ومع ذلك ساهم عمله في مستنبت فراضية في إشعال غرامه بالزيتون.
يخبرنا: "اتفقّ أن عهدتُ الي دائرة الزراعة بتأسيس مستنبت فراضية ( بين صفد وعكا ) وهو واقع في منطقة تُعد من أهم مناطق فلسطين في زراعة الزيتون، فالرامة ملكة الزيت تقع على بعد خمسة كيلومترات منه وكرومها الزيتونية تتاخمه، أما قرية مغار حزور فتقع على بعد سبعة كيلومترات منه، وكانت القريتان تُعدان في رأس القرى الزيتونية من حيث إنتاجهما الزيتي، ولقد أدى انتقالي هذا إلى سكناي في هذه المنطقة الزيتونية العظيمة واحتكاكي بغارسي الزيتون؛ احتكاكٌ قام على الصداقة البريئة والإخلاص فتوثّقت بيننا عُرى المحبة واشتدت أواصر الإخاء، فكم تزاورنا وتباحثنا وتناقشنا".
قصيدة عن زيتون الرامة من تأليف علي نصوح الطاهر
الرامة: ملكة الزيت الفلسطيني
محطتنا الأولى في الرامة، التي تعلّق بها مُرشدنا "علي نصوح الطاهر"، وظل يذكرها علمًا بأنه عمل في مدينتيّ نابلس وبيسان سنة 1937، ثم انتقل للعمل في منطقة الناصرة سنة 1939، إلا أن الرامة بقيت وفق رأيه "ملكة الزيت في فلسطين".
ولكن لماذا كُل هذا الحب لــ الرامة، ومن بعدها لبلدة مغار حزور؟.. الجواب عند مرشدنا الطاهر: "كنت كلما طال بي المقام في هاتيك الربوع الجميلة ازداد حبي لشجرة الزيتون وإعجابي بها وبأهلها، فقويت في نفسي الرغبة أن أدرس هذه الشجرة دراسة علمية عملية، وقضيت في تلك المنطقة ثلاثة وثلاثين شهرًا نفذّت في أثنائها تجارب عملية في التقليم والزبل (التسميد)".
وقد أوصت دائرة الزراعة باستخدام الأمشاط القاطفة المعقوفة التي أدخلها لفلسطين بعد أن رآها في معرض في باريس عام 1930"، مضيفاً: "نظّمت في الوقت نفسه المحاضرات عن زراعة الزيتون في أوساطه، وتبادلتُ مع مزارعي الزيتون كثيرًا من الآراء الفنية، وكانت ملاحظات المزارعين دقيقة أحيانًا، وتدل على خبرة كبيرة فوجدت فيها أثمن المعرفة، ثم عملت بعد ذلك على توسيع مكتبتي العلمية لزيادة اطلاعي في موضوعي هذا، فاقتنيتُ أحسن المؤلفات الفرنسية والأميركية والإيطالية، وتزودّتُ بعدد كبير من المجلات والنشرات التي تعنى بزراعة الزيتون في العالم".
لم تكن الرامة ملكة الزيت الفلسطينية ببساطة، وصحيح أن خبرة أهلها كانت تبهر مرشدنا، إلا أن الطبيعة وعواملها ساهمت في تميّز هذه القرية وزيتونها.. فكيف حدث ذلك؟
حديث مرشدنا يطول في هذا السياق، ذلك أن "الشاغور وهو الوادي الممتد من حدود قرية مجد الكروم قضاء عكا، والمنتهي عند فراضية في أوائل سلسلة الجرمق وجبل الأربعين هو من أكثر مناطق فلسطين الزيتونية رياحًا، وهي تهبّ في الصيف بقوة عظيمة يُسمع للريح خلالها صفير وهدير كهدير الأمواج، لدرجة أنها ذات يوم قلعت سقفًا مساحته 30 مترًا مربعًا مكونًا من ألواح الزنك المثبتة في أعمدة خشبية وبراغٍ حديدية قوية وفصالات متينة، ولكن ما علاقة كل هذا بالزيتون؟
يقول أستاذنا إن لهذه الرياح حسنة في الوادي المذكور، لأنها تقلّل من فتك ذبابة الزيتون التي لا يُشعر بوجودها إلا في شهر تشرين الأول، أما بعد ذلك يقل خطرها ويصبح عديم الأثر كلما اقترب فصل الشتاء وأصبح الطقس بارداً، وبما أن أهالي الرامة يقطفونه ابتداء من مطلع يناير/ كانون الثاني، نعم في شهر يناير، وذلك بعد سقوط أمطار الخريف التي تعوّض جفاف الصيف بسبب الرياح، ولتوفر تربة غير ثقيلة مثل الأراضي الرملية والطباشيرية، ومع زراعة تُعد نوعًا مقاومًا للرياح مثل "المليصي" (وهو نفس السماري في منطقة اللد والرملة) فإن الطبيعة تساعد الرامة على أن تحظى بزيت فاخر، وتجعل منها "ملكة الزيت الفلسطينية".
وإضافة إلى عوامل الطبيعة كالرياح، رغم كل أهميتها، إلا أنها ليست وحدها المهمة، فالجد والنشاط لا يقلان أهمية، ولا سيما خبرتهم في تأخير قطف الزيتون وإقامتهم للمعاصر الميكانيكية الحديثة الفاخرة.
وكانت معامل "فؤاد بك سعد" من أشهر معامل الزيتون في فلسطين، كما أن أهالي الرامة أبدعوا في مجال الزيتون قبل نكبة فلسطين إبداعًا فريدًا، ويُخبرنا بأنهم كانوا يتفنّنون في حشي الزيتون بالجوز والصنوبر بعد نزع عجمه ويكبسونه بالزيت والليمون.
واهتم أهالي الرامة بصنف "الصوري الأسود" الذي حظي بشهرة خاصة في أسواق بيروت، حتى أنه نافس أفخر الأصناف الإيطالية واليونانية والتركية لرقة قشرته.
جدول مواعيد قطف الزيتون للأصناف الفلسطينية (من أوائل أكتوبر حتى 15 فبراير) حسب علي نصوح الطاهر من كتاب "شجرة الزيتون" (صنف مانزانيللو الأسباني يُقطف ابتداءً من مطلع سبتمبر).
بحر من الزيتون بين الرامة والمغار - معظم الأراضي الخضراء مزروعة بالزيتون: موقع Palestine Open Maps
مغار حروز: مدرسة في انتقاء أراضي الزيتون
إذا كانت هناك قرية تنافس الرامة على لقب "ملكة الزيت الفلسطينية" فهي قرية مغار حزور الواقعة جنوبي الرامة، ونقول "حزور" كي نميّزها عن قرية فلسطينية أخرى اسمها "المغار" بين الرملة ويافا، هُجّرت عام 1948.
أما مغار حزّور الواقع على سفوح جبل حزور، قضاء طبريا، تاريخيًا، فهي لا تزال باقية حتى يومنا هذا، مثلها مثل الرامة.
حكاية المغار مع الزيتون
خبرة أهل المغار في انتقاء الأراضي الصالحة لزراعة أصناف الزيتون المختلفة من أكثر ما يميز حكايتهم مع الزيتون.
وهنا يذكر مُرشدنا بأن الكروم الغربية المتاخمة للرامة زرعها أهالي المغار بصنف الزيتون الصوري، أما في الأراضي القبلية والشرقية المتاخمة لــ عيلبون يسيطر فيها الصنف المليصي.
ولاحظ مرشدنا عندما كان يعمل في ثلاثينيات القرن الماضي أن المزارعين يُقبلون على زراعة الصنف الصوري أكثر من المليصي وذلك لأن ثمره أكبر، كما أنه أغزر زيتًا، وقلَّ من يعمل على تكثير المليصي رغم أهميته فمع قلّة زيت المليصي إلا أن زيته يعد أحسن زيت للأكل في فلسطين.
ما يهم مُرشدنا، وما يشدد عليه في كُل حديث عن المغار، وحتى الرامة والبصة وكفر ياسيف وصفورية، أن مزارعيهم من أكثر مزارعي الزيتون عنايةً بانتقاء أراضيهم وتخصيص الصالحة منها لزراعة الزيتون، ولهذا فإن ناتج الزيتون في هذه القرى كان أعلى من بقية فلسطين ويُعتمد عليه في السنين المُجدبة.
وعلى سيرة انتقاء الأراضي ومواقع الزراعة، يخبرنا بأن مواقع في المغار ممتازة من وجهة فنية لنجاح شجرة الزيتون، فأغلبها واقعة على ارتفاع 200 متر فوق سطح البحر، وهي مكفولة لوقوعها على سفح تلال شمالية متجهة للجنوب أو الجنوب الغربي، وتلّطف بحيرة طبريا من حدّة حرارة الرياح الخماسينية الربيعية، وسقوط الأمطار فيها كافٍ، وتربة الكروم عميقة متفككة وخصبة مكونة من بقايا فتات الصخور الجانبية والأتربة العالية التي جرفتها الأمطار منذ قديم الأزمان، ما جعل هذه الروابي خصبة.
كل ما سبق أبهرَ مرشدنا أمام هذه المعرفة الزراعية المتوارثة في المغار، إذ يؤكد أن الاعتناء بشجرة الزيتون في المغار قديم جدًا، حيث يحوي أشجارًا ضخمة قد يزيد محيط جذع بعضها على 35 قدمًا، وقد بذل المغاريون جهودًا كبيرة مشكورة لتكثير شجرة الزيتون في أراضيهم الخصبة والوعرة على حدٍ سواء، فأصبحت هذه القرية الآن ثالث قرى فلسطين مساحة في الزيتون.
واعتنى أهل القرية بأغراسهم وزيوتهم، وأصبحوا يضاربون قرية الرامة "القرية الفلسطينية الأشهر زيتًا وزيتونًا"، وباتوا يملكون أربع معاصر ميكانيكية كبيرة، منها واحدة مُزودة بآلة فرّازة وهي معصرة الشيخ عبده العايدة.
واشتهر زيت المغار بجودته وقلة حموضته، بالأخص بسبب توفر معاصر ميكانيكية حديثة تمكنهم من تطبيق القاعدة الشعبية "العلمية" التي يفضلها مرشدنا وهي "من الشجر للحجر"، بحيث يُعصر الزيتون بعد قطفه بفترة وجيزة.
قبل أن نغادر قرية المغار، لا بُد أن نذكر ارتباطها بصنف "مرهافيا/مرحافيا" الذي لا يزال حاضرًا في الأسواق الإسرائيلية وقد يظنه بعضٌ "إسرائيليًا"، لكن علي نصوح الطاهر يقول إن هذا الصنف انتقل كما يبدو من كروم المغار ويُسمى "الجلطي" إلى مستعمرة مرهافيا من أعمال العفولة، ومنها نُقل إلى مستعمرات وادي الأردن وهكذا انتشر باسم مستعمرة مرهافيا، علمًا أن هذا الصنف كان معروفًا في قرى أخرى باسم "الشامي" أو "التلياني" كما هو الحال في الرامة، نسبة إلى أحد الأديرة الإيطالية التي كانت سببًا في انتشاره، وهو شبيه بصنف إيطالي يُدعى "رافيز".
زيت فاخر ومعاصر حديثة
من المغار ننطلق في رحلتنا إلى قضاء الناصرة، وفيه صفورية التي كان لها الحظ الأوفر من المساحة الزيتونية في قرى القضاء، لكن مرشدنا لم يرق له مستوى عناية أهالي صفورية بهذه الشجرة، ويبدو أنهم انشغلوا عن العناية بالزيتون بزراعة الملوخية التي اشتهروا بها حتى قبل النكبة، وكذلك بزراعة الرُمان، فيما بالقرب كانت زراعة الزيتون مزدهرة في عين ماهل وكُفر كنا، ورأى الطاهر أن وضع الزيتون كان من الممكن أن يكون أفضل في هذه القرى لو أن أهلها وجهوا عنايتهم إلى الأراضي الغربية من جبل سيخ.
وحسب تقييم مرشدنا فإن زيت بلدة كفر كنا هو الأفخر في قضاء الناصرة، والسبب أن قسمًا كبيرًا من أشجارها من النوع المعروف بالمليصي، ومنه يُستخرج أحسن زيت للطعام، وكان فيها ثلاث معاصر ميكانيكية مع أن مساحة الزيتون قليلة، ما يدل على اهتمام أهلها الكبير بصناعة استخراج الزيت على نحو متقدم.
وشرح الطاهر كيف حلّل نماذج من زيوتهم سنة 1944، فوجدها تحتوي على أقل من 1% من الحموضة، وبالتالي كانت زيوتهم ممتازة لونًا ونكهة ونوعًا.
من النقاط المثيرة التي يذكرها مرشدنا عن مزارعي قضاء الناصرة أن عملية القطف بالأيدي "الفرط" أو "الخرط" كما تُسمى في معظم فلسطين، ويطلق مزارعو قضاء الناصرة على هذه العملية مصطلح "التحليب" تشبيهًا لها بحلب الحيوانات، قائلاً في هذا الصدد: "هذه الطريقة من أكثر طرق الجني رفقًا بالشجرة ولو أنها تتطلب وقتًا طويلاً، وقد لاحظتُ التزام أهالي القرى النشيطة في زراعة الزيتون بتلك الطريقة، مثل بيت جالا وعين كارم ويعبد والرامة والمغار والبصة وبديا".
أنشط قرى حيفا وأكثرها عناية بالزيتون
في رحلتنا هذه لن نتوقف كثيرًا في قضاء حيفا، الذي وصفه مرشدنا بــ "الفقير" في مساحته الزيتونية بالنسبة لمساحته العامة، وليس لشجرة الزيتون مكانة خاصة عند مزارعيه، كما يقول، إلا في قرى قليلة وعلى رأسها قرى الطيرة التي هُجرّ سكانها عام 1948، وقد هُجّر بقية من صمد فيها عام 1970 والآن لم يبقَ من زيتونها إلا ما يوجد في "وادي العين" بعد أن كانت المساحة المغروسة بالزيتون فيها نحو 4000 دونم، بينما تقل عن 2000 دونم في بقية القرى مثل أم الزينات وشفا عمرو وإجزم.
والطاهر نفسه لا يعرف السبب الذي قد يكون بسبب انشغال مزارعي هذا القضاء بزراعة الحبوب أو انشغالهم بالعمل في حيفا ومعاملها، أو لعله بسبب "قطع الأتراك لأشجار الزيتون" حسب رأيه.
ومن الجدير بالذكر أن أفخر الزيوت التي كانت تُباع هو زيت كفر كنا، بَيد أنه يرى بأن أكثر القرى نشاطًا وعناية بالزيتون آنذاك في كل قضاء حيفا هي قرية إعبلين.
40% نسبة سيل الزيتون
عند قضاء جنين، لا بد أن نتوقف، إنه أشهر المناطق الزيتونية في فلسطين، "مزارعوه شديدو المراس، عظيمو النشاط، محبون للغرس، مقبلون على التجديد، وهم من وجهة عامة ذوو خبرة وعناية كبيرة" تبعاً لقول مُرشدنا.
قرى كثيرة كانت تزرع الزيتون في هذا القضاء وتفوقت في زراعته، لكن أكثر قرى القضاء زيتونًا إلا أنها ليست أكثر القرى عناية به.
وعلى ما يبدو أن قرية يعبد فَتنته باهتمامها الفائق بالزيتون، وهي أنشط قرية في زراعته، وقد حازت شهرة كبيرة لشديد عناية أهلها بزيتونهم وإقبالهم على الفن الحديث، وإصغائهم للإرشاد، ولقد بذلوا جهودًا كبيرة في تحسين زيتهم وأفلحوا في ذلك، فأصبح زيت يعبد يضارب في الأسواق أحسن زيتون الشمال، وتقدمت فيها صناعة المكابيس فصاروا يموّنون أسواق المدن الكبيرة بالزيتون المكبوس والزيت المؤوني الفاخر الذي يحتوي على 0.6% من الحموضة وهي نتيجة باهرة جدًا.
ومن الحقائق المثيرة التي يلفت إليها مرشدنا أن زيتون سهول يعبد يحتوي على كمية من الزيت تتفاوت من 33 % إلى 40 % باعتبار القرية منطقة حارة، بينما يحتوي على 25% من الزيت في المناطق الباردة مثل رام الله أو صفد (المعدل العام في فلسطين هو 25%).
دير الغصون: زراعة الزيتون في الصخر
لم تكن عناية أهل دير الغصون بالزيتون مثل غيرهم، فقد انشغلوا بالحمضيات واللوزيات مثل المشمش لارتفاع أسعاره إبّان الاحتلال الإنجليزي.
ومع ذلك فقد كانت هناك قرى مثل كفر اللبد تشتهر بحسن زيتها، لكن دير الغصون وبلعا وزيتا وعتيل نافسنّها في هذه الشهرة، فيما بذلت الطيبة "طيبة بني صعب" جهودًا كبيرة لتحسين إنتاج زيت الطعام فيها، واعتنى أهالي هذه القرى بزراعة الصنف المليصي، وهو ما يُسمى عندهم بــ "الصُري"، وهو معروف بحسن زيته وقلة إصابته بذبابة الزيتون.
إلا أن ما يثير اهتمامه في قرى طولكرم، هي قرية دير الغصون التي عُرف عن أهلها أنهم أكثر أهالي فلسطين غرسًا في الأراضي الصخرية، فهم ينقرون الصخر باتساعٍ كافٍ ويعبؤون الحفرة بتراب يُسمى "جلبا".
زيتون مغروس في أراضٍ صخرية في قرية دير الغصون قضاء طولكرم
تميّزت بكثرة تنوع أصناف الزيتون فيها، مثل المستخدم للكبس لكبر حجمه وهو لا يشبه شامي الرامة، كما أن لديهم صنفاً يُسمى "بز الحمار" وهو صنف قليل الأهمية، و"آخر الذكاري" الذي يمتاز بكبر حجم ثماره، وهو يشبه الصنف المُسمى "الأسباني"، وينضج وإياه باكرًا، وهناك صنف يُسمى "بري صغير" ينمو في أراضٍ صخرية قليلة التراب.
بديا: زيت فاخر بحموضة 0.3%
لا يُمكن الحديث عن زيتون فلسطين دون المرور عن قضاء نابلس، التي اشتهرت بالزيتون مُنذ مئات السنين، والغريب أن مرشدنا لم يكن منبهرًا بزيتون نابلس، قائلاً إن زيت قضاء نابلس لم يحرز شهرة خاصة، ولو أن بعض قراه أحرزت شهرة لم تتجاوز أسواق نابلس قط.
معلومة صادمة لا تتفق مع مصادر تاريخية أخرى، وعزا مرشدنا السبب إلى قلة عدد المعاصر في القضاء مقارنة بالمساحة المغروسة بالزيتون، وكذلك لأن أغلب زيتهم يوّجه لمعامل الصابون، وزيت نابلس صناعي أكثر مما هو للاستهلاك البيتي.
أغرب زيوت نابلس، هو زيت "الأحمر" الذي يرغب فيه فئة من المستهلكين في نابلس ويحصلون عليه من درس العلم ويسمى عنّاب الزيتون أحيانًا ( Viscum cruciatum ) وهو ذو ثمر أحمر مع الزيتون فينتج منه زيت أحمر اللون.
وبواسطة تجارب لتحسين إنتاج الزيت من الزيتون المليصي أجراها الطاهر عام 1945 في معصرة السيد محمود عودة في بديا، فقد حقق نتيجة مبهرة في قرية بديا خلاصتها زيت يحتوي على 0.3% حموضة، علمًا بأن مزارعي القرية يحصلون عمومًا على زيت 2-3% حموضة بحسب الدراسات التي أجراها بنفسه.
وللعلم فإن زيت الأكل يعد ممتازًا إذا كانت نسبة الحموضة فيه أقل من 1%، وفي كتابه "شجرة الزيتون" يورد السر بأن الزيت الذي يكون "من الشجر للحجر" تكون حموضته أقل وبقية التفاصيل تمكن في الجدول التالي:
إن مرشدنا كان يرى بأن بعض قرى نابلس، حيث المساحة المغروسة بالزيتون من أكبر القرى في فلسطين وتصل إلى أكثر من 9000 دونم، كان يُمكن أن تحقق شهرة أفضل لو اهتمت بالمعاصر، تمامًا كما يؤكد بأن صناعة الصابون في نابلس يمكن أن تكون أفضل لو انشغل منتجو الصابون بالأخذ بأسباب النهوض بهذه الصناعة بدلًا من انشغالهم بتسمية أبنائهم "حسن" حتى يأخذ الصابون اسمه، لأن اسم حسن النابلسي ذاعت شهرته في أسواق مصر بفضل ماركة "حسن الشكعة".
تكرار اسم حسن في الختم المستخدم على ماركات الصابون النابلسي
مدرسة في فن التقليم وبناء الجدران الحجرية
من نابلس، ننطلق إلى رام الله، حيث الجبال الصخرية قليلة التراب، إلا أن سكان هذه المناطق زرعوا الزيتون، حتى أن مرشدنا أطلق عليهم لقب "مستنبتي الصخور" فقد أثار إعجابه هذه القدرة الخارقة على غرس الزيتون في أردأ أنواع التربة الفلسطينية، وهو مشهد يستحق التأمل كثيرًا.
ومما يثير الإعجاب أكثر في قضاء رام الله وأقضية وسط فلسطين هي عناية المزارعين بكروم الزيتون، بإقامة الجدران الاستنادية الضخمة لتحول دون انهيار التربة في موسم السيول، كما أن منظر هذه الكروم مع حُمرة التربة وهي محروثة في الربيع يزيدها جمالًا وأنسًا، بالأخص في منطقة عين سينيا.
أحد الأمور الغريبة، التي انتقدها مُرشدنا في قرية المزرعة القبلية، أن كثيراً من المزارعين يغرسون تينة وزيتونة في حفرةٍ واحدة، فالتينة تُثمر قبل الزيتونة فيأكل تينًا حتى تثمر الزيتونة إثمارًا جيدًا ليَقلع التينة لاحقًا، ويُبقي الزيتونة، ولكن بعملهم هذا لا يأكلون تينًا أو زيتونًا بالمعنى الصحيح وهم فوق ذلك يؤخرون نمو أشجارهم.
وهو ليس ضد "الزراعة المختلطة" بل على العكس نجده يُخصّص لذلك فصلًا في كتابه، داعيًا أهالي قضاء رام الله إلى الاهتمام بزراعة اللوزيات بين الزيتون شريطة اتباع القواعد الصحيحة للزراعة المختلطة.
قبل أن نغادر رام الله، يَشيد مرشدنا بقضاء رام الله، وعدّه "أحسن مناطق فلسطين لنجاح زراعة الزيتون"، وقد استفاد هذا القضاء كثيرًا مما جلبه بعضٌ من المغتربين من أهله في أميركا من الأموال الطائلة، فعمّروا بلادهم أحسن تعمير، وشيّدوا المباني الجميلة وأقاموا الجدران المقاومة لجرف التربة في مرتفعاتهم وهضابهم، ونقروا الصخر واستنبتوه واقتبسوا من العلم الحديث، فأقبلوا على تقليم أشجارهم ببراعةٍ تشهد لهم بتفوقهم على كل جيرانهم من مزارعي نابلس واللد والقدس.
زيتون بيت نبالا زيته سيّال
قبل أن نختم رحلتنا في آخر محطاتنا وهي قضاء القدس، لا بُد أن نذكر أن الزيتون يُزرع في الجبل غالبًا، ولهذا لم يكن للزيتون في السهل الساحلي الفلسطيني أهمية تُذكر، وسواء كنا نتحدث عن قضاء يافا أم غزة أم حتى اللد والرملة فإن هذه الأقضية اعتنت بالحمضيات، ولكن من المثير أن نجد بأن أحد أشهر أصناف الزيتون في فلسطين هو الزيتون النبالي ويشكّل أحيانًا 90% من كروم الزيتون في وسط وجنوب فلسطين، الذي قيل فيه "النبالي زيته سيّال ولقاطه بهدّي البال"، ويعود أصله كما يرّجح مرشدنا إلى قرية بيت نبالا في قضاء اللد، والغالب أنه انتقل من بيت نبالا إلى نابلس، وفي بيت نبالا يُسمى هذا الصنف "البياضي".
كما أن بيت نبالا كان فيها أصناف كثيرة من الزيتون مثل "الخلي الكبير" و"الرومي" و"الخضاري" وفاقت مساحة الزيتون في هذه القرية 2500 دونم.
معصرة زيتون في بلده إزمال /لواء الكورة أيام الخمسينيات
بيت جالا مدرسة في التعاون
ننتقل إلى واحدة من أجمل قرى القدس، وهي عين كارم، وهي اليوم قرية مهجرة يسكنها مستوطنون صهاينة، ويلفت مرشدنا إلى أن هذه القرية قبل عام 1948 زَرعت مثل بقية قرى القدس أصنافاً كثيرة، ومنها صنف يدعى "زميري" صغير الثمر، قليل الزيت، لكنه ممتاز في النكهة واللون، وقليل الإصابة بذبابة الزيتون، هذا الصنف لم يذكره مرشدنا في بقية الأقضية ولعله كان مما يميز قرى القدس.
أكثر ما نال إعجابه في قرية عين كارم، أن فريقًا من الموسرين فيها كانوا حتى عام 1932 يعيرون أبقارهم مجانًا للفقراء من مزارعي قريتهم لحرث كروم زيتونهم خوفًا من بُورها، وهذه عاطفة نبيلة يا حبذا لو تسري في كل أنحاء البلاد، على حد قوله.
إحدى القرى التي كانت تابعة لقضاء القدس هي قرية بيت جالا التي أَولى أهلها للزيتون عناية خاصة، وبلغت المساحة المزروعة بالزيتون فيها أكثر من 3500 دونم، وهي ثاني مساحة في قضاء القدس لعام 1943 وكذلك كان فيها ثلاث معاصر ميكانيكية في حينه.
إضافة إلى ما سبق، كانوا يحرصون عموماً على قطفه بالأيدي لا بالعصي، كما نقل لنا مرشدنا، وأهالي بيت جالا كانوا وما زالوا يعتنون بزيتونهم، الأمر الذي جعل مناطقهم من أجمل مناطق القدس وأغناها وأحسنها زيتًا، فأشجار الزيتون اليانعة تكسو روابيها ووديانها ومرتفعاتها، وهي تظهر بحالة خضرية ممتازة تشهد لهم بالعناية الفائقة والخبرة.
صورة قديمة ملونة لعصر الزيتون بحجر اليد، وهي من أقدم الطرق التي عرفها الإنسان في بلادنا
في الختام، لا بُد من القول إن قضاء الخليل لم يتميّز بالزيتون إلا أنه عُرف بالعنب، وقضاء بئر السبع لم يعرف زراعة الزيتون بشكل يُذكر، وإن كان اشتهر بتموره والنخيل.
إلا أن معظم أقضية فلسطين زرعت الزيتون وتنافست على إنتاج أفضل زيت، وقد تميزت كل قرية بحكايةٍ خاصة مع الزيت.
ولم نجد من يُفصّل هذه الحكايا مثل الباحث والخبير الزراعي علي نصوح الطاهر، الذي سافر وأصدقاؤه إلى فرنسا لدراسة الزراعة في عشرينيات القرن الماضي، إيمانًا منهم بأن مقاومة الزحف الاستعماري الصهيوني على فلسطين يجب أن تتم بنفس الوسيلة التي كانوا يتبّعونها، وهي بإقامة المستعمرات الزراعية، والإبداع في مجال الزراعة، واستعادته أمجاد فلسطين زراعيًا بواسطة أهم مواردها الزراعية وهي "شجرة الزيتون"، وهو عنوان كتابه الموسوعي الذي دوّن لنا فيه كُل ما خبره وجرّبه وسمعه وقرأه بكل ما يعرفه من لغات عن الزيتون، كتابٌ يستحق منا وقفات كثيرة وتسليط الضوء أكثر.