مناخ مدمر يفتك بسكان الأرض.. هل دخلنا مرحلة اللا عودة؟
خاص بآفاق البيئة والتنمية
يتسبب الجفاف والقحط بخسائر زراعية كبيرة وتعطيل لإنتاج الطاقة والنقل النهري، موجات حرٍّ لاهبة تجرُّ الغابات لحرائق مرعبة، يتلوها أمطار غزيرة غير مسبوقة، والأهم أنها تأتي غالباً في غير مواسمها فتتسبب بفيضانات مخيفة تقتلع الأشجار وتجرف بشراسة كل ما يقف في وجهها وتحمل هذه المحتويات الرهيبة وتسير بها مسافات طويلة. تدَّمر كل شيء، طرق، جسور، أسواق، مساكن، ولا شيء يَسلم منها، أعاصير مدمرة تأكل الأخضر واليابس، ومياه بحار تزحف إلى المدن الساحلية فتغرقها وتقتل ساكنيها أو تضطرهم للهجرة واللجوء إلى أماكن أخرى، وكل عام يأتي أسوأ من سابقه، فإلى أين تسير الأرض؟
|
|
جفاف يضرب مناطق ساشعة من الأرض |
يتسبب الجفاف والقحط بخسائر زراعية كبيرة وتعطيل لإنتاج الطاقة والنقل النهري، موجات حرٍّ لاهبة تجرُّ الغابات لحرائق مرعبة، يتلوها أمطار غزيرة غير مسبوقة، والأهم أنها تأتي غالباً في غير مواسمها فتتسبّب بفيضانات مخيفة تقتلع الأشجار وتجرف بشراسة كل ما يقف في وجهها وتحمل هذه المحتويات الرهيبة وتسير بها مسافات طويلة.
تدّمر كل شيء، طرق، جسور، أسواق، مساكن، ولا شيء يَسلم منها، أعاصير مدمرة تأكل الأخضر واليابس، ومياه بحار تزحف إلى المدن الساحلية فتغرقها وتقتل ساكنيها أو تضطرهم للهجرة واللجوء إلى أماكن أخرى، وكل عام يأتي أسوأ من سابقه، فإلى أين تسير الأرض؟
في مطلع عام 2021 نُشرت أكثر من 350 دراسة محكَّمة تتناول المنطقة الاقتصادية الأوروبية تحت عنوان "موجز الكربون 2021"، قدَّمت أدلة متزايدة على أن النشاط البشري يزيد من مخاطر بعض أنواع الطقس المدمر، خاصة تلك المرتبطة بالحرارة.
|
|
-رسم بياني يوضح التغير في درجات حرارة سطح الأرض بالنسبة إلى متوسط درجات الحرارة 1951-1980 ، مع ارتباط عام 2020 بعام 2016 لأعلى درجة حرارة مسجلة- معهد جودارد لدراسات الفضاء التابع لناسا |
خارطة للأرض توضح ارتفاع حرارة الأرض عام 2021- ازدياد اللون الأحمر يدل على ارتفاع درجات الحرارة (المصدر-وكالة ناسا) |
الأرض حارة منذ البدء فما الذي تغير إذن؟
تلعب الشمس دوراً مهماً في تدفئة الأرض، تصل أشعتها الأرض التي يمتص سطحها بعضاً منها، ويعيد ما تبّقى على شكل أمواج من الأشعة تحت الحمراء التي تنتقل إلى الغلاف الجوي ثم تهرب مرة أخرى إلى الفضاء، إذا لم يعترض طريقها ما يحتجزها ويبقيها في الغلاف الجوي.
الغازات الدفيئة من ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروجين والأوزون، تتواجد طبيعيًا في الغلاف الجوي لتجعل الأرض صالحة للحياة، ومن دونها تصبح درجة حرارة الكوكب أقل من درجة التجمد.
السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه الآن، ما دامت هذه الغازات موجودة طبيعيًا منذ البداية، ما الذي تغيّر إذن وجعل الأرض تكاد تحترق من شدة الحرارة؟
بحسب وكالة ناسا، لوحظت تغيُّيرات في مناخ الأرض منذ منتصف القرن العشرين، عُزيت إلى أنشطة بشرية محفزة لذلك، خاصة حرق الوقود الأحفوري الذي يُستخدم لغالبية الأنشطة العصرية لإنتاج الكهرباء والتدفئة والمواصلات وغيرها، نتج عنه زيادة نسب الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي.
بدأت معدلات غاز ثاني أكسيد الكربون في الارتفاع منذ بداية العصر الصناعي في القرن الثامن عشر، لكن مع تزايد الأنشطة البشرية التي تطلق غاز ثاني أكسيد الكربون، وصلت كميته الآن إلى 150% مقارنة بالماضي.
وبات حرق الوقود الأحفوري الآن يتسبب في إطلاق ما يزيد على عشرين مليار طنٍّ من ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض سنوياً؛ ما أدى إلى وجود الكثير من جزيئات ثاني أكسيد الكربون التي تعمل على تشكيل ما يشبه الغطاء الذي يحبس الحرارة داخل الغلاف الجوي الأرضي، وهو ما يُسمى "الاحتباس الحراري"، حيث يمتص غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي الأشعة المنعكسة من سطح الأرض ليعيدها مرة أخرى إلى سطح الأرض على شكل طاقة حرارية، بدلاً من إطلاقها للفضاء.
|
|
الغازات الدفيئة وهي (ثاني أكسيد الكربون- الميثان-أكسيد النيتروجين- الكلوروفلوروكاربون -الأوزون) |
غازات تنطلق ليل نهار وتلوث غلافنا الجوي بلا أدنى شعور بالمسؤولية.. لأن الأهم هو مصالح الرأسمال العالمي على حساب بقية البشر |
هل ثاني أكسيد الكربون هو القاتل الصامت؟
ثاني أُكسيد الكربون من أهم الغازات المكونة للغلاف الجوي، وهو جزء لا يتجزأ من دورة الكربون الجيوكيميائية الحيوية الطبيعية التي يتنقَّلُ فيها الكربون بين المحيطات والتربة والصخور والغلاف الحيوي.
ويسهم هذا الغاز في التأثير الإشعاعي بنحو في 66 المائة ( والتأثير الإشعاعي هو الفرق بين طاقة أشعة الشمس القادمة عبر الغلاف الجوي وطاقة الحرارة والأشعة المنعكسة منه).
وبحسب تقرير لمعهد علوم المحيطات في جامعة كاليفورنيا فإن مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض ارتفعت في شهر مايو/ أيار من العام الجاري لأعلى مستوى سُجّل على الإطلاق في تاريخ الأرض.
ويعد ثاني أكسيد الكربون أحد أهم غازات الدفيئة المرتبطة بتغير المناخ؛ لأنه أطولها عمراً، إذ يستمر في الغلاف الجوي للأرض لعدة قرون دون تحلل، مثلاً، غاز الميثان هو أيضاً أحد غازات الدفيئة ولكنه يبقى في الغلاف الجوي لمدة تقل عن عشر سنوات إذا قورِن بثاني أكسيد الكربون.
الاحتباس الحراري يُدخل الأرض في حلقة مفرغة، حيث يقلِّل من درجة امتصاص المحيطات والغلاف الحيوي الأرضي لثاني أكسيد الكربون، ما ينتج عنه بقاء المزيد من ثاني أكسيد الكربون ذي المنشأ البشري في الغلاف الجوي، ما يزيد من حدة الاحتباس الحراري، وهذا يعني حدوث تأثير كربوني متضخم على المناخ.
هناك عمليات طبيعية أثَّرت أيضاً في المناخ وأسهمت في تغيره، منها الأنماط الدورية للمحيطات (ظاهرة النينيو وظاهرة النينيا)، إضافة إلى النشاط البركاني، والتغيرات في ناتج طاقة الشمس، والتغيرات في مدار الأرض.
|
|
ذوبان الأنهار الجليدية في المنطقة القطبية الشمالية بسبب الاحترار العالمي |
خارطة توضح مناطق احترار الأرض ا-لأزرق يدل على البرودة والأصفر على الحرارة عام 1984 (المصدر- وكالة ناسا) |
مؤشرات تؤكد أن تغير المناخ يرتبط بالنشاطات البشرية
هل تغيّر مناخ الأرض حقاً سيدوم؟ أم أن التغيير الذي نشهده بأعيننا من مظاهر للطقس المتطرف والمدمر هي مجرد عاصفة في فنجان سرعان ما تهدأ، ليعود كل شيء إلى سابق عهده؟
سؤال يتردد في الأذهان ويُلّح على خبراء البيئة والعلماء كلما شهد العالم مظهراً من مظاهر الطقس المدمِّر، الذي لا يكاد يغيب ذيله بكارثة بيئية حتى تطل علينا أذناه بمصيبة أكبر من سابقتها.
في عام 2022 لم تكد حرائق الغابات الشرسة تخمد ويخفت أوارها مع اقتراب نهاية فصل الصيف حتى شرعت الفيضانات تُغرق مناطق كبيرة من العالم، وتقبض معها آلاف بل ملايين الأرواح، شاهدنا جميعاً قبل فترة وجيزة فيضانات الباكستان العاتية التي أعادت إلى أذهاننا طوفان نوح، وأغرقت ثلث مساحة الدولة، ليعود السؤال نفسه بقوة: ماذا يجري؟ ولماذا؟ وهل وصلنا إلى نقطة اللا عودة حقاً؟ وماذا بعد؟ هل هو الهلاك وتدمير الزراعة والمزارع السمكية وظهور آفات زراعية جديدة؟
وثَّقت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية WMOفي تقرير لها أربعة مؤشرات رئيسة لتغير المناخ.
أعاصير مدمرة تضرب الأرض وتدمر مدن بأكملها
وأكد التقرير أن السنوات السبع الماضية كانت أحرّ سبع سنوات مسجلة، وأدى الطقس القاسي وهو "الشكل اليومي لتغير المناخ" إلى خسائر اقتصادية تُقدّر بمئات المليارات من الدولارات وتسبّب بخسائر فادحة في أرواح البشر ورفاههم، وأحدث صدماتٍ للأمن الغذائي والمائي والنزوح خاصة في عام 2022، وبحسب التقرير، فإن المؤشرات هي:
1- ارتفاع نسب تركيز غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي، فعلى سبيل المثال وصل تركيز ثاني أكسيد الكربون في عام 2020 إلى 413.2 جزء في المليون على مستوى العالم.
2- زيادة حرارة المحيطات، وتتفق البيانات على أن معدلات درجات حرارة مياه المحيطات تُظهر زيادة قوية خصوصاً في العقدين الماضيين، وأن الدفء يتغلغل إلى مستويات أعمق من أي وقت مضى.
3- تحمُّض البحار والمحيطات، ويمتص المحيط حوالي 23% من الانبعاثات السنوية لثاني أكسيد الكربون، الذي يُطلقه البشر في الغلاف الجوي نتيجة نشاطاتهم اليومية، والذي يتفاعل مع مياه البحار والمحيطات ويؤدي إلى تحمُّضها، الأمر الذي يُهدد الكائنات الحية من محار وشعب مرجانية على وجه الخصوص والنظم البيئية عموماً، ويُشكِّل خطراً أيضاً على الأمن الغذائي والسياحة وسلامة السواحل.
4- ارتفاع مستوى سطح البحر، فقد وصل المتوسط العالمي لمستوى سطح البحر إلى مستوى قياسي جديد في عام 2021 ، بعد أن ارتفع بمتوسط 4.5 ملم سنوياً في الفترة ( 2013-2021)، وهو أكثر من ضعف المعدل بين عامي 1993 و2002 ويُعزى إلى الذوبان المتسارع للصفائح الجليدية وثلوج المنطقة القطبية الشمالية، ليُنذر بأخطار كبيرة على مئات الملايين من سكان المناطق الساحلية ومناطق الدلتا، ويزيد من العرضة للأعاصير المدارية، عدا عن تسلل مياه البحر إلى طبقات المياه الجوفية.
وبمراجعة العديد من المواقع العلمية المختصة بالبيئة، استطعنا حصر مؤشرات أُخرى تؤكد أن ما يحدث هو تغيُّرٌ في المناخ، وليس مجرد تغيير مؤقت سيعود إلى وضعه الطبيعي بعد فترة، منها:
*ازدادت حرارة الهواء فوق سطح الأرض: تؤكد بيانات الأرصاد الجوية بحسب تقرير للأمم المتحدة أن متوسط درجات حرارة الهواء قد ارتفع عن السابق، فقد بلغ متوسط درجة الحرارة العالمية في عام 2020 حوالي 1.2 درجة مئوية فوق مستوى ما قبل الصناعة، ما نتج عنه موجات حرارة غير مسبوقة وجفاف شديد ساعد على اشتعال الغابات، وتدمير الزراعة والمزارع السمكية وظهور آفات زراعية جديدة، وكان عام 2020 واحدًا من أكثر الأعوام الثلاثة دفئًا على الإطلاق.
|
|
نيران عظيمة تلتهم الأشجار في مناطق كثيرة في العالم |
المياه غمرت ثلث الباكستان وقتلت المئات بعد طوفان دمر البلاد نتيجة هطول أمطار شديدة استمرت لمدة 24 ساعة |
وقد وُثِّق ازدياد حرارة طبقة التروبوسفير وهي الطبقة الأدنى في الغلاف الجوي التي يحدث فيها الطقس ونعيش فيها، وبحسب البيانات، فإن حرارة التروبوسفير ترتفع مع تراكم الغازات الدفيئة التي تحبس الحرارة في الغلاف الجوي.
* ازدياد درجات حرارة الهواء فوق المحيطات: وجميعنا يعلم أن 70% من مساحة الأرض مسطحات مائية غالبيتها محيطات ضخمة، فإذا ارتفعت درجة حرارة الهواء فوق المحيطات فإنها تؤدي إلى زيادة تبخر الماء الذي يُحدث فرقاً كبيراً في المناخ، ما يعني أن العواصف الاستوائية يمكن أن تلتقط المزيد من الطاقة، متسبّبة بالمزيد من الفيضانات والأعاصير والأمطار شديدة القوة.
* تناقص المنطقة القطبية الشمالية:
تُظهر نتائج الدراسات أن المنطقة القطبية الشمالية آخذة في الانكماش بعد أن فقدت ما يقرب من أربعة تريليونات طن متري من الجليد منذ التسعينيات وحتى الآن.
وتُقدِّر وكالة ناسا أن جليد القطب الشمالي يتقلص بمعدل 135% لكل عقد زمني، ما دفع خبراء وباحثين إلى توقع ذوبان الغلاف الجليدي الصيفي للقطب الشمالي تماماً بعد 80 عامًا تقريبًا من الآن، وهناك من يجزم بذوبانه قبل ذلك بكثير إذا واصلنا حرق الوقود الأحفوري بالوتيرة الحالية.
وتكمن أهمية الثلوج في أنها تساعد في التحكم في مقدار الطاقة الشمسية التي تمتصها الأرض، حيث تعكس هذه الطاقة مرة أخرى في الفضاء، وتُبقي الكوكب بارداً، والثلوج الذائبة تصبح جزءاً من المحيطات التي تمتص الطاقة. وكمية الثلوج المفقودة في الثلاثين عاماً الماضية أعلى من المتوقع، ما يعني أن الأرض تمتص طاقة شمسية أكثر.
* تسارع ذوبان الصفائح (أو الأنهار) الجليدية: في الوضع الطبيعي فإن الثلج الذي يذوب في الصيف يُستبدل في الشتاء بتساقط الثلوج، ولكن، عندما تذوب كمية من الثلوج أكبر من الكمية التي تُستبدل شتاءً فإن الأجزاء المفقودة من الصفائح الجليدية تتسع لدرجة تصل إلى موت وانتهاء النهر الجليدي.
مخطط يوضح كيف يحول ثاني أكسيد الكربون أشعة الشمس إلى أشعة تحت حمراء تسبب ارتفاع حرارة الأرض
الخلاصة
باتت آثار الاحتباس الحراري واضحة، ففي كل عام تظهر المزيد من الأدلة على تأثيراته على البشر والكوكب عموماً بكل ما يحويه من نُظم بيئية، مظاهر الطقس أصبحت أكثر قسوة وتدميراً وتظهر بوتيرة أكبر من ذي قبل، وتؤدي إلى معاناة المجتمعات، وارتفاع في عدد المفقودين والقتلى.
فإذا لم تُخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، يتوقع العلماء أنه بحلول عام 2030 ستقتل مظاهر الطقس المدمر ما يقارب ربع مليون إنسان حول العالم سنوياً، وستدفع بنحو 100 مليون شخص إلى الفقر المدقع.
تكمن المشكلة في الدول والشركات الأكثر نفوذاً في العالم والتي تطلق كميات هائلة من الانبعاثات، ولكن هل ستُتَّخذ خطوات رشيدة للحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، لعلنا ننقذ أنفسنا الآن والأجيال القادمة في المستقبل؟