خاص بآفاق البيئة والتنمية
في سلسلة أفلامٍ وثائقية تحمل اسم Chef's Table عُرضت في موقع "نتفليكس"، ورُشّحت لجائزة إيمي، سنجد قصص طهاة نالوا شهرة عالمية، وأكثر ما يسترعي الاهتمام أنهم "قصّاصون" يجيدون حكاية علاقتهم مع الطعام. في التقرير التالي ترصد "آفاق البيئة والتنمية" حكايا ثلاثة منهم أعادوا تعريف المطبخ المعاصر؛ وسطّروا تاريخًا جديدًا في فن التذوق بأطباق مبتكرة شهية، وعثروا على "مصدر الإلهام" من البيئة ووظّفوه في الطريق الصحيح.
|
 |
مائدة مميزة لأحد الطهاة |
لكل طاهٍ فلسفته الخاصة التي يُعبّر عنها بشكلٍ ما؛ ولعل التنقيب عن ثروات الطعام المجهولة أحد المساعي التي يُعمل عليها بجِد.
في سلسلة أفلامٍ وثائقية تحمل اسم Chef's Table عُرضت في موقع "نتفليكس"، ورُشّحت لجائزة إيمي، سنجد قصص طهاة نالوا شهرة عالمية، وأكثر ما يسترعي الاهتمام أنهم "قصّاصون" يجيدون حكاية علاقتهم مع الطعام.

آسما خان طاهية هندية استضافها chefs table
في التقرير التالي ترصد "آفاق البيئة والتنمية" حكايا ثلاثة منهم أعادوا تعريف المطبخ المعاصر؛ وسطّروا تاريخًا جديدًا في فن التذوق بأطباق مبتكرة شهية، وعثروا على "مصدر الإلهام" من البيئة ووظّفوه في الطريق الصحيح.

المخرج الأميركي ديفيد جيلب
ديفيد جيلب المخرج الأميركي للسلسلة التي تمثّل رحلة بصرية وسمعية ماتعة، ألقى الضوء على السيرة العاطفية في حياة الطهاة الإبداعية، وسبق أن قال في أحاديث صحفية: "حاولنا أن نفهم السبب الذي دفعهم إلى الطهي بعيداً عن طريقة الطبخ، أردنا أن نفهم كيف يرون الأشياء بطريقةٍ لا يراها الآخرون".
مضيفاً: "في مجمل القصص هناك قيمة عظيمة يمكننا التعلم منها، من وجهة نظري أن هؤلاء الطهاة بـطريقةٍ ما يمارسون "فن الأداء".

الطاهية التايلندية بو
حتى لا تختفي الجذور
لنلقِ نظرةً على "بو سونغفيسافا" التي تنهض بالمطبخ التايلندي التقليدي بواسطة مطعمها المستدام في بانكوك، هذه المرأة فطنت إلى أنه يتوجب النضال من أجل إحياء الطعام التقليدي، وأن ذلك يبدأ بالاهتمام بالبيئة.
فبعد أن كان يظن معظم الناس أن المأكولات التايلندية تقتصر على "الكاري" جاءت لتفاجئهم بأنها تتجاوز ذلك بكثير.
"بو" التي تجاهد بلا هوادة من أجل إبراز المأكولات الحقيقية المليئة بالنكهة، في بلادٍ يفتقد سكانها القدرة على تحضير الأطباق من الصفر.
حصلت على جائزة أفضل رئيسة طهاة في آسيا، ولا عجبَ أن توصف أطباقها بــ "مزيج رائع من الثقافة والتقاليد والفوضى والسكينة والذوق والتوابل والارتباك والجاذبية"، مستندةً في مطعمها إلى الأفكار القديمة التي تستمتع بتحضيرها بأسلوب تقليدي مشابه لطريقة الجدات، وبذلك أضفت عليه روح المنزل فصار لائقًا بـمفهوم "بيت الجدة".
وتعطي مثالاً على ذلك بقولها "عجينة الكاري لا نهرسها أو نعصرها، بل ندّقها، إنها الطريقة الصحيحة للحصول على النكهة المطلوبة".
تعمل بو بهذه الحماسة لأنها تخشى من أن تختفي الجذور وتسود بدلاً منها المكونات الصناعية، حينها سيندثر المطبخ التقليدي وتبقى حسرة القلب "تباً ماذا عن هوية مطبخنا"، لقد حزنت حد الصدمة حين اكتشفت أن التايلنديين لم يعودوا يفقهون شيئًا عن طعام الأولين، وارتأت أنه صار لزاماً عليها البحث وتعلم المزيد عن مطبخ بلادها، فليس من الوارد انصياعها لرغبات السياح.
وعلى صعيدٍ آخر تُوسّع دائرة علاقاتها مع المزارعين الصغار في إطار تشجيعها على زراعة منتجات عضوية كاملةً، فهي تتبنى نهجًا في الطهي لا تَحيد عنه يتضح من خلاله تمسكها بأخلاق المهنة، على سبيل المثال تستخدم سكر النخيل الذي يتميز به المطبخ التايلندي والمشتمل على غنى لا تملكه بقية أنواع السكر، في حين أن النزاهة آخِر همّ الكثير من الطهاة بدليل استخدامهم السكر الأبيض لرخص ثمنه، كما تقول.

ويل غولدفارب مع مساعديه في جزيرة بالي الغنية بالمكونات الطازجة
إضافة ساحرة للمعجنات الأندونيسية
ما بين "المارينغ البالي" و "يوم على الشاطئ" و "أحياناً يكون الضحك أفضل علاج" و "حادث مروري" يتنقل "ويل غولدفارب" بين أسماء الحلويات والمعجنات المبتكرة.
هو الذي غيّر مجرى حياته عندما غادر نيويورك بعد أن عاش فيها "منهكًا وتعيسًا" بحسب تعبيره، ليبدأ حياة مختلفة في بالي، إحدى أشهر جزر أندونيسيا الساحرة، والغنية بالمكونات الطازجة؛ حيث الكاكاو والفانيلا والقهوة والسكر وجوزة الطيب والقرفة.
الخلاصة التي وصل إليها ويل "بما أني أحيا في مكان بهذا الثراء فإن الحد الأدنى عندي هو المحاولة لأكون الأفضل في العالم".
ويضيف: "كوني طاهي معجنات أراها واحدة من أفضل أماكن العالم، فكرة صنع صلصة شوكولاتة دافئة من شوكولاتة معلبة كان أمراً عاديًا على مدار 20 عاما، أما الآن أضحت الفكرة سخيفة، إن لم ترغب في شوكولاتة طازجة؛ الأرجح أنه عليك ألا تكون طاهي معجنات".
هكذا، على نحوٍ مدهش راح يبتكر من المكونات المحلية، "جعل الأعشاب الطبية جزءاً من قائمة الحلويات أمرٌ مبتكر، لا سيما أن العلاجات التقليدية أسلوب حياة هنا". يقول ويل.
يتحدث عن طبق يمكن أن يتذوق فيه المرء "أطيافاً من النكهات"، يقولها بنبرة مرح، موضحاً: "حضرّت التيراميسو باستخدام الخل المستخلص من ماء جوز الهند مع القليل من مربّى الحليب وسكر النخيل، إضافة إلى قهوة مطحونة قديمة لصنع البسكويت الرقيق، كان هذا القِسم مملاً وتعيّن علينا تشكيل الجزء المثير بإضافة "الجامو سوهو" المشروب التقليدي الصباحي للأندونيسيين، فقد أخذنا الجامو والتمر هندي والكركم والعسل والزيزفون وطلينا به الطبق".
ويتطرق إلى ابتكاره للبدائل في هذه الحلقة المشوقة: "كما نعلم أن كريمة المارينغ "المكونة من زلال البيض والسكر" هي الأساس في المعجنات، لكن المارينغ غير قابلٍ للأكل نظرًا لحلاوته، ففكرت في سكر النخيل والذي يتميز بطعم عَذب؛ ونجحت في استخدامه لصنع مارينغ أقل حلاوة".
آلاف الاختبارات أجراها "ويل" لمدة عامٍ وكانت النتيجة النهائية دقيقة شهية ومتوازنة في حلاوتها، ويصفها أحد النقاد: "أخبرنا بشكلٍ ما أن المارينغ لم تعد تنتمي إلى التقليد الفرنسي؛ وإنما باتت تنتمي إلى ذلك التقليد الجديد للمعجنات الأندونيسية".
قبل انتقاله إلى هناك؛ عاش الرجل أحداثاً صعبة، حاول جاهدًا حينها التعبير عن نفسه باستخدام التقدم التقني، فنعته رد الفعل النقدي بــ"المتحاذق"؛ حتى أن صحيفة "نيويورك تايمز" كتبت أن "توظيفه كان أسوأ قرار في تلك السنة".
لكنه لم ينهزم، وبعد فترة افتتح مطعم "روم فور ديزيرت" للحلويات فقط، وفيه تلّقى أولَ نقد جيد "الحلويات تتطور ولا تُقاوم" وانهمرت دموعه ساعتها، ثم أخذت الحياة تبتسم له وانهالت عليه الدعوات للسفر حول العالم، وصُنّف مطعمه من أفضل عشرة مطاعم في العالم ورُشّح لجائزة جيمس بيرد، فيما كان قبلها بعامٍ واحد عصيًا على التوظيف.
نجاحٌ باهر أعقبه سقوط مدوٍ؛ فقد أغلق مطعمه بعد أن أصبح شركاؤه في العمل لا مبالين "كانت ضربة تقصم الظهر"، لجأ بعدها للانزواء ثم بدأ بإعادة اكتشاف نفسه، وصار لديه متسع من الوقت ليطوّر من أسلوب تعامله مع المكونات.
يقول بابتسامة راضية: "أعيش سعيداً ومستقراً حتى أني أفكر بأني كنت محظوظًا لمروري بتلك الإخفاقات في الماضي".. وما يلبث أن يأتي اعترافه: "أدركتُ أن الاعتناء بالناس ساحرٌ أكثر من القيام بشيء "فارغ المعنى" لتضخيم الإحساس بالذات، يمكن للإنسان أن يُغفل هذا عندما يَغرق في التفكير بنفسه".

آنا روز تنتقي المكونات المحلية
مكونات ملهمة من الأرض البعيدة
في مطعم "هيشا فرانكو" تشعر أنك ذاهب إلى اثنين "الساحر والجدة"، ولتعلم أنك على الأغلب ستُسأل إن كنت تنوي السفر إلى سلوفينيا: "أذاهبٌ إلى هيشا فرانكو؟".
وإن وقع اختيارك على "حبار مع حنجرة خروف وجوز وجبن" لن يمكنك التنبؤ بمذاقه، لكن "ما أن تضعه في فمك سيتغير العالم" وفقاً للطاهية "آنا روز"، وتخرج الكلمات تِباعاً من أعماقها "في المطبخ الحب مهمٌ للغاية، وحين تحظى المرأة بالحب تصبح الأفكار أكثر جمالاً".
وأمام غزل الذواقة الذي يطال طبق "سمك السالمون المرّقط" الذي يعيش في نهر سوتشا وكادت تنقرض فصيلته، تتباهى: "أكرّم هذا السمك بتحضير أطباق لذيذة منه".
يُبدي المهتمون بعالم الطهي إعجابهم الشديد بمخيلّتها المتمردة في الطبخ، ويأسفون أن سلوفينيا لا يوجد "دليل ميشلان" بها، ما يعني أن آنا لن تحصل على أي نجمة مع أنها تستحقها.

طبق لـ آنا روز
معظم الناس لا يعرفون أين تقع سلوفينيا على الخريطة؛ فماذا فعلت إذن؟ لقد منحت لمسقط رأسها سمعةً في مجال الطبخ، وبات اسما "البلد وابنته" متداولين في أوروبا؛ وذلك بعد أن تناولت وسائل الإعلام أطباقها، وصار الفرنسيون والهولنديون والبريطانيون يتوافدون على مطعمها.
علّمت آنا نفسها بنفسها، إذ لم تلتحق بمدرسةٍ للطبخ مما حرّرها من القيود وساعدها على اكتشاف أسلوبها الخاص، وهذا مدعاة لفخرها بجرأتها، إذ تختار بعنايةٍ فائقة المكونات المحلية من "الأرض البعيدة" وتحضّر منها أطباقًا ملهمة؛ تمامًا كما هو حال الباستا المحشوة بأفضل جبن في العالم من أعالي وادي سوتشا، فــ لائحة الطعام بمجملها تحكي عن "قصةً سلوفينية جديدة بقيت فيها التقاليد حيّة".
أمضت خمس سنوات في التجارب، وآنذاك لجأت إلى المكتبة والطهاة من معارف زوجها، ثم أخذت في البحث عن تركيبات المكونات، ومن هنا أخذ إيمانها بقدراتها يزيد واطمأنّت أنها تسير في الطريق الصحيح.
تتحدث قائلةً: "ثمّة تغيّر ما في داخلي عندما همسَ لي ناقدٌ في الطعام أني أتقدم بشكلٍ جيد، لافتًا انتباهي إلى أني سأصنع شيئًا مهمًا إذا ما بحثتُ في بيئتي الخاصة"، مؤكدةً أن "إدراك التقاليد المحلية هو ما يجب أن يَبني عليه الطاهي جوهر إبداعاته".
