خاص بآفاق البيئة والتنمية
دولة الاحتلال ليست الوحيدة التي أنشأت وتشغِّل مختبرات بيولوجية خطرة لتصنيع الأسلحة البيولوجية؛ إذ تشير مصادر عدة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية تدير أو تشارك في نحو 340 معملاً بيولوجياً في 30 دولة حول العالم منها مصر. الملاحظ وبشكل جليٍّ أن كثيرًا من البشر لم يعودوا يأبهون لشيء أبعد من مصالحهم الخاصة ورغباتهم، يكفيك أن تكون عدوًا ليصبح مباحاً لمن يعاديك أن يستخدم كل أساليب الفتك والإبادة ليتخلص منك. لا وجود لأي اعتبارات أخلاقية أو إنسانية أو حتى قانونية، فالقانون وُضع ليقيّد تحركات الضعفاء وحياتهم، أما الأقوياء ومن يمتلكون مصادر المال والسلطة، فكل شيء مباح لهم، فلا وجود لمحرمات أو قيود تحد من إرادتهم ورغباتهم.
|
 |
صورة قديمة لمعهد الأبحاث البيولوجية الإسرائيلي بعد تأسيسه |
يقول الكاتب كرميل ليبمان في تقرير بُثَّ على قناة 12 العبرية: "طُوِّرت في معهد البحوث البيولوجية الإسرائيلي أسلحة كيميائية وبيولوجية، استُخدمت ضد أعدائنا".
في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت الطريق من الرملة إلى النبي روبين، تمر بمنطقة وادي حنين التي اشترت عائلة التاجي الفاروقي أغلبها، وزرعتها بالبرتقال، حتى أصبحت تصدّر مئات الآلاف من صناديق البرتقال إلى أوروبا، وذلك بحسب الباحث الدكتور سلمان أبو ستة.
على الطريق بين يافا والقبيبة فوق تلة صغيرة على أرضٍ مساحتها 134 دونماً و29 متراً مربعاً وقطعة نمرتها 549/32 بسند ملكية رقمه 260/42 E مؤرخ بتاريخ 1932/3/16، بين بيارات البرتقال، بنى شكري التاجي الفاروقي قصراً من طابقين، وعلى طريق الأسفلت من يافا إلى غزة بنى مسجداً، وعلى بُعد كيلومتر واحد إلى الغرب بَنى عبد الرحمن التاجي قصراً آخر من عدة مبانٍ، تحيط به أشجار البرتقال أيضاً.
بعد الاحتلةال، دُمجت قرية وادي حنين مع مستعمرة كفار أهارون، وأُقيمت فوقها مستوطنة أصبحت تُسمى "نيس تسيونا" فيما بعد، وتعني" المعجزة الصهيونية".
استوطن اليهود بيوت الفلسطينيين في القرية، وحُوِّل قصر عبد الرحمن التاجي إلى مستشفى للأمراض العقلية، وهُدمت مئذنة المسجد الذي حُوِّل إلى كنيس يهودي سُمي" غؤلات إسرائيل" وتعني" خلاص إسرائيل".
أما قصر شكري التاجي الـمُكنَّي بالأفندي أبو عمر الفاروقي، فأُحيط بالغموض ومُنع حوله التصوير، واستخدمه الجيش المحتل لمزاولة أنشطة مبهمة، دارت حولها تأويلات وتساؤلات.

قصر التاجي الذي أصبح معهد الأبحاث البيولوجية الإسرائيلي
وبدأت الحكاية
ظهر أول تصريحٍ لــ "بن غوريون" الذي اتَّضحت فيه نيته لاستخدام أسلحة بيولوجية وكيميائية في 2 شباط عام 1948 وقبل إنشاء دولة الاحتلال، إذ أرسل برقية إلى إيهود أفريل أحد أعضاء الوكالة اليهودية، ويعمل على شراء أسلحة للعصابات الصهيونية في فلسطين من أوروبا، يخبره فيها بأن عليه إيجاد علماء يهود من أوروبا الشرقية بمقدورهم قتل العديد من الناس بالضبط مثل شفاء العديد منهم.
وقع الاختيار على" ماركوس كلينبيرغ" الذي أسس نواة فيلق العلوم داخل "الجيش الإسرائيلي" في 1948م، وهي وحدة مخصّصة للحرب البيولوجية معروفة باسم "هيميد بيت".
بعد أربع سنوات من البرقية المذكورة وفي قرية وادي حنين، في قصر عائلة التاجي الفلسطينية المهجرّة إلى غزة وتحديداً في عام 1952 أُسس معهد البحوث البيولوجية رسميًا، وأُعطي الصبغة المدنية رغم الغموض الذي يكتنف نشاطاته.
يتبع المعهد مباشرة لسلطة رئيس وزراء الاحتلال مثل المنشأة النووية في ديمونة، ويعمل لصالح وزارة الدفاع على تطوير أنظمة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، مثل تطوير الجراثيم والمواد الكيميائية القاتلة والأمصال المضادَّة للبكتيريا والسلاح الكيماوي، ويخضع لحراسة أمنية مشددة ويحظى بالسرية التامة.
يعمل في المعهد حوالي 350 شخصًا. 150 منهم حاصلون على درجة الدكتوراه تعرف بـ "العلماء"، والباقي من الفنيين والمهندسين وأصحاب المهن المساعدة.

معهد العلوم البيولوجية ليلاً- ويظهر نمط البناء العربي فيه بوضوح
تاريخ قذر منذ البداية لم تسلم منه مصادر البيئة
منذ العصور القديمة، استخدم البشر إستراتيجية تلويث الآبار ومصادر المياه لإضعاف قوات العدو والقضاء عليها، وهو ما استثمرته دولة الاحتلال، وعدَّلت عليه وطورّته ليخدم أهدافها.
في كتاب التطهير الإثني لفلسطين يقول المؤلف جيف سيمونز: "قبل سقوط عكا في قبضة جيش الاحتلال في 17 أيار/ مايو 1948، نادت عصاباته المهاجمة عبر مكبرات الصوت "استسلموا أو انتحروا".
ويقول أيضاً: "عمدت القوات الإسرائيلية إلى تلويث مصادر المياه التي كانت تغذّي عكا، ما أدى إلى تفشي وباء التيفوئيد، وكانت هذه هي المرة الأولى التي ينتشر فيها الوباء في فلسطين، وكان ذلك جزء من الحرب البيولوجية التي أسماها الاحتلال آنذاك" سلاح لا حميما" وتعني" تبرّع بخبزك"! وهي جزء من قول يهودي:" تبرع بخبزك لأنك سوف تستعيده آجلاً أم عاجلاً" أي كن كريماً، فهذا الكرم سيعود عليك بالنفع!
يقول الدكتور سلمان أبو ستة في مقال بعنوان "إسرائيل أول من استخدم الحرب الجرثومية في فلسطين وأكبر خازن لها" منشور في صحيفة الحياة اللندنية: "في ملفات الصليب الأحمر في جنيف التي أصبحت متاحة للباحثين الآن اتضّح أنه مع بدء مهاجمة حيفا واحتلالها في 22/4/1948، فرَّ أهلها من القذائف والقتل إلى عكا التي كانت تحت الحماية البريطانية".
وكانت مياه الشرب لعكا تأتي من القرى الشمالية عبر قناة الباشا، وتعترض طريق القناة مستعمرات صهيونية، حيث حقنَ الصهاينة المياه بجرثومة التيفوئيد، ما أدى إلى انتشار حمى التيفوئيد بين الفلسطينيين والجنود البريطانيين، وجرّاء ذلك أُخليت المدينة وهَجرها معظم أهلها، ولم يتمكنوا من العودة إليها.
ووفقاً لكتاب "آخر المحرمات" لأفنير كوهين، فإنه في 22 مايو 1948، قبض المصريون على جنديين إسرائيليين ينتميان إلى وحدة هاشقر من وحدات البلماخ، بالقرب من آبار المياه شمال غزة، يرتدون زي العرب ويحملون قارورة فيها ماء من مستويين، أحدهما مياه شرب عادية والآخر سائل مليء بجراثيم التيفوئيد والدوسنتاريا أُنتجت بواسطة الوحدة العلمية للهاغاناه، بهدف تلويث الآبار لإلحاق الأذى بجنود الجيش المصري، وبعد المحاكمة، أُعدم الجنديان.
وذكر كوهين في الكتاب نفسه: "ترّكزت في بداية منتصف الخمسينيات من القرن الماضي أنشطة المعهد على الأمراض المعروفة مثل داء الكلب والطاعون الدبلي والتيفوئيد، لكن لاحقاً، ترّكز عمل المعهد على فحص كيفية نقل الأمراض باستخدام الحشرات مثل الصراصير والبعوض والبراغيث... الخ.
وورد في كتاب "لماذا يكرهوننا" لناصر بن محمد الزمل، أن الهيئة العربية العليا قدّمت لهيئة الأمم المتحدة في 22/7/1948 تقريراً مفصلاً من 13 صفحة نشره الصحفي الأميركي توماس هاملتون بعد عدة أيام في صحيفة "نيويورك تايمز".
يتهم التقرير الاحتلال الإسرائيلي بالتخطيط والتنفيذ وإقامة المختبرات لإبادة العرب باستخدام الجراثيم والبكتيريا، ومما جاء فيه أن "إسرائيل" نشرت الكوليرا في مصر في خريف 1947 وفي سورية في فبراير 1948.
وفي ورقة بحثية لأفنير كوهين بعنوان" الأسلحة الكيميائية والبيولوجية الإسرائيلية، التاريخ، الردع والحد من التسلح" ورد فيها أن المعهد عمد إلى دراسة السموم غير الحية من مصادر نباتية وحيوانية وأنواع من البكتيريا، وبموجبها دُرس أكثر من 15 نوعاً من السموم، اعتُمد بعضها للاستخدام منها سم (staphylococcus enterotoxin B) المُستخرج من بكتيريا ستافيلوكوكس أوريس، وهو سمٌ فعال وقوي استخدمته الولايات المتحدة سلاحًا بيولوجيًا.
ويُستخلص أيضاً أن المعهد منذ إنشائه ارتبط بمجموعة من الأبحاث التي تتضمن برامج أسلحة بيولوجية هجومية، ورغم ذلك، لم تُدرِج الولايات المتحدة "إسرائيل" على قائمة الدول التي تمتلك أسلحة بيولوجية هجومية.

نسخة من سجل تسليم المواد الكيميائية من ولاية بنسلفانيا لمعهد نيس تسيونا
وانكشف المستور
في عام 1992 تحطّمت طائرة شحن تتبع لشركة إلعال في أمستردام عاصمة هولندا قرب مجمع سكني، أدت إلى مقتل 43 شخصاً وتدمير شقق سكنية.
وفي محيط الحادثة، ظهرت حالات مرضية غامضة، من طفح جلدي وصعوبات تنفس واضطرابات عصبية وسرطانات، زعمت "إسرائيل" أن الطائرة كانت تنقل عطوراً وأزهار، لكن محامي شركة الطيران في لاهاي أعلن لاحقاً أن تفاصيل الحمولة الحقيقية لن يُصرّح بها" لأسباب لها صلة بأمن الدولة".
ويضيف مؤلف كتاب" التطهير الإثني لفلسطين: "بعد ست سنوات من حادثة تحطم الطائرة كشفت جريدة هولندية على صفحتها الأولى عن بيان شحن يُظهر أن الطائرة كانت تنقل مواد كيميائية خطرة تستخدم لإنتاج غاز الأعصاب".
لقد استغرق التحقيق الصحفي 6 سنوات لفضح حقيقة أن الطائرة كانت في طريقها إلى "إسرائيل"، وتحمل 190 لتراً من مادة ثنائي ميثيل ميثيل فوسفونات (DMMP) ومادتين كيميائيتين أخريين هما حمض الهيدروفلوريك وإيزوبرو- بانول.
القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وديع حداد، الذي يُعد العقل المدبر لتخطيط عمليات عسكرية فريدة ضد أهداف إسرائيلية، اُغتيل في 28 آذار 1978 بواسطة سمٍ لا تظهر أعراضه على الجسد مباشرة، وطُوّر السُّم في مختبرات معهد البحوث البيولوجية الإسرائيلي.
وأشار الصحفي الإسرائيلي أهارون كلاين في كتابه "حساب مفتوح" إلى أن وديع حداد قد وقع ضحية أول عملية قتل بيولوجية نفذّها الموساد بدسِّ السم له في رزم من الشوكولاتة البلجيكية بواسطة عميل في الجبهة الشعبية بعد عودته من بروكسل إلى العاصمة العراقية.
كما حضَّر المعهد السم الذي استخدمه الموساد لاغتيال زعيم حركة حماس خالد مشعل في الأردن سنة 1997، وهو أيضاً من حضَّر الترياق الذي أنقذ حياته بعد اعتقال عميليّ الموساد في عمان.
تحدّثت الصحيفة البريطانية "بورين ريفورت" عن السم المستخدم لمحاولة اغتيال مشعل، من الموساد الذي جرى تطويره بمعهد بيولوجي.
أما المجلة الأميركية "فورين بوليسي" رأت أن الحديث يدور عن "البينتيال" وهو سم أفيوني المفعول، قوي التأثير ويمكن استخدامه رذاذًا يُصنع منه سموم تناظرية قوية جدًا.
وفي نهاية الأمر بعد اعتقال عميل الموساد من السلطات الأردنية اضطرّت" إسرائيل" إلى الاعتراف بمحاولة الاغتيال، ووفرت لمشعل المضاد وأنقذت حياته.
يقول رونين بيرغمان في كتابه "انهض وقاتل" إن عملية اغتيال محمود المبحوح أحد قادة حماس في 19 ديسمبر 2010 في دبي، نفذّها فريق من الموساد مكوّن من 27 ضابطاً وعنصراً من القتلة المحترفين.
ونجح الفريق في تنفيذ مهمته عبر حقن المسؤول الفلسطيني بحقنة قاتلة في غرفته، في أحد فنادق دبي، وغادر الفريق الإمارات قبل اكتشاف الجثة.
وصرّح المعلّق الأمني لموقع "يديعوت أحرونوت الإلكتروني" روني بن يشاي أن نتائج فحص جثة المبحوح أظهرت وفاته جرّاء تسمم أو مادة تعرض لها، أدت إلى مصاعب في التنفس أو اختناق أو حتى حدوث جلطة.

كتاب انهض وقاتل
مختبرات مشابهة تنشر الموت والدمار في العالم
دولة الاحتلال ليست الوحيدة التي أنشأت وتشغِّل مثل هذا النوع من المختبرات الخطرة، على سبيل المثال، تشير مصادر عدة إلى أن الولايات المتحدة تدير أو تشارك في نحو 340 معملاً بيولوجياً في 30 دولة حول العالم منها مصر.
وفي مايو/ أيار 2020، نقلت العديد من المواقع العربية خبراً عن موقع "الأنباء الأوكرانية" نقله عن وزارة الصحة في أوكرانيا أن الولايات المتحدة أقامت 8 مختبرات لحفظ جراثيم بالغة الخطورة، وذلك بذريعة ضرورة منع تطوير أسلحة بيولوجية.
وقد نشرت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية تقريراً ذُكر فيه أن روسيا أكدت امتلاكها وثائق تكشف محاولة أوكرانيا محو أدلة لبرامج بيولوجية عسكرية تحظى بتمويل البنتاغون، منها إتلاف عينات من الطاعون والكوليرا والجمرة الخبيثة، بهدف التستر على حقيقة انتهاك المادة 1 من اتفاقية الأسلحة البيولوجية، في برنامج يعود تاريخه إلى أوائل التسعينيات، يسمى "التعاون للحد من التهديد"، الذي نتج عن اتفاقية تعاون بين البلدين هدفها تأمين وتفكيك أسلحة الدمار الشامل والبنى التحتية في دول الاتحاد السوفييتي السابق". مع أن الصحيفة في نهاية التقرير خلصت إلى أن هذه المزاعم مجرد اتهامات اختلقتها روسيا لتبرير غزوها لأوكرانيا!
خلاصة: الملحوظ وبشكل جليٍّ أن كثيراً من البشر لم يعودوا يأبهون لشيء أبعد من مصالحهم الخاصة ورغباتهم، يكفيك أن تكون عدوًا ليصبح مباحاً لمن يعاديك أن يستخدم كل أساليب الفتك والإبادة ليتخلص منك، لا وجود لأي اعتبارات أخلاقية أو إنسانية أو حتى قانونية، فالقانون، وُضع ليقيّد تحركات الضعفاء وحياتهم، أما الأقوياء ومن يمتلكون مصادر المال والسلطة، فكل شيء مباح لهم، فلا وجود لمحرمات أو قيود تحدّ من إرادتهم ورغباتهم، يؤسفنا قول ذلك لكنها الحقيقة التي نراها بأعيننا.