الناشطة باتنغار... أوَقفتها السدود أمام سؤال: أَهي معابد العالم الحديث أم نوائب تؤثر على مستقبلنا؟
خاص بآفاق البيئة والتنمية
ديبيتي باتنغار الهندية، نجمة هذا اللقاء، هَالتها الحروب التدميرية التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية على أفغانستان والعراق، الأمر الذي نمَّى حس العدالة لديها ووضعها على خط الدفاع عن المظلومين، ومن ثمَّ شاركت في عدد من الحراكات وحملات المناصرة، منها حملات مناصرة الشعب الفلسطيني. وفي السنوات الأخيرة تشكلّت حراكات لوضع حد للدمار الذي يُلحقه إنشاء السدود، أهمها "حراك إنقاذ نهر نارمادا" في الهند، والذي تنشط فيه باتنغار. ولدت "ضيفتنا" في مدينة كالكوتا الهندية، ونشطت في مجال الدفاع عن البيئة والمناصرة البيئية في عام 2001. عملت ضمن حراك إنقاذ نهر نارمادا لمكافحة السدود وآثارها المدمرة، إضافة إلى جهودها في العديد من القضايا التي تعنى بحقوق الإنسان والمهاجرين وتوفير مياه صالحة للشرب في كاليفورنيا. تعمل ديبيتي حاليًا في مجال المناصرة البيئية مع أصدقاء الأرض – موزمبيق، حيث تتواجد حاليًا، مستفيدة من خبرتها السابقة في حملات المناصرة والضغط ضد إنشاء السدود والحد من آثارها.
|
|
الناشطة البيئية والاجتماعية العالمية ديبيتي باتنغار |
نالت الكثير من الدول استقلالها بعد أن رزحت تحت نير الاحتلال لسنين عديدة، كما هو الحال مع جمهورية الهند التي نالت استقلالها عن الحكم البريطاني عام 1947.
ومنذ ذلك الوقت، انطلقت فيها المشاريع العملاقة التي ترمي إلى الارتقاء بمكانة الهند الاقتصادية، وكانت من أهمها السدود المائية التي أُنشئت على عددٍ من الأنهار، أشهرها نهر نارمادا، وقد وصف جواهر لال نهرو، رئيس الهند الأسبق، تلك السدود بــ "معابد الهند الحديثة".
بَيد أن السدود ألحقت خسائر جمة بالغابات والمجتمعات الريفية، مع أن الهدف منها في الأساس كان النهوض بالقطاع الزراعي وتوفير الطاقة الكهربية لعدد من قرى ومدن الهند، إلا أنها أدت إلى تشكيل بركٍ صناعية وتدمير سبل العيش لعدد من القبائل الأصلية والقرى الريفية، علاوة على المساهمة في "نحر الشطآن" التي تتأثر بقلة الرواسب والطمي وزيادة غازات الدفيئة وغيرها من الأضرار التي لم تكن في الحسبان.
في حين لم يقف المهتمون متفرجين، وبالتالي تأسست حراكات لوضع حدٍ للدمار بسبب السدود، أهمها حراك "إنقاذ نهر نارمادا" الذي تنشط فيه نجمة هذا الحوار، ديبيتي باتنغار.
وُلدت باتنغار في مدينة كالكوتا الهندية، ونشطت في مجال الدفاع عن البيئة والمناصرة البيئية في عام 2001.
عملت ضمن حراك "إنقاذ نهر نارمادا" لمكافحة السدود وآثارها المدمرة، إضافة إلى جهودها في العديد من القضايا التي تعنى بحقوق الإنسان والمهاجرين وتوفير مياه صالحة للشرب في كاليفورنيا.
وتعمل ديبيتي حاليًا في مجال المناصرة البيئية مع أصدقاء الأرض - موزمبيق، حيث تتواجد حاليًا، مستفيدة من خبرتها السابقة في حملات المناصرة والضغط ضد إنشاء السدود والحد من آثارها.
إليكم تفاصيل الحوار الشائق معها.
نرحب بكِ ديبيتي باسم مجلة "آفاق البيئة والتنمية".. دعينا نبدأ بالحدث الأبرز في حياتك الذي دفعكِ لتصبحي ناشطة بيئية؟
بداية، شكرًا لكم على هذه الفرصة اللطيفة. عندما كان عمري عشرة أعوام، سمعت بالمعاناة التي لحقت بالتجمعات السكانية حول نهر نارمادا وما قاسته تلك التجمعات جراء السدود التي أنشئت عليه. ومن ثم، بعد دخول الجامعة، تلاحقت وتيرة الأحداث وأصبح لحركة "إنقاذ نهر نارمادا" قبولًا واسعًا بين الناس، ما جعلها مصدر إلهام لي ولغيري ممن اتجهوا نحو الدفاع عن البيئة ومساعدة الطبقات المهمشة.
بعدها وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكنت وقتها في الولايات المتحدة. لا أنسى كم الأذى الذي لحق بأصحاب البشرة الملونة، بمن فيهم أنا. لقد هَالني أسلوب الرد الذي اتخذته الولايات المتحدة والحروب التدميرية التي شنتّها على أفغانستان والعراق، الأمر الذي نمَّى حس العدالة لدي ووضعني على خط الدفاع عن المظلومين، وكان لا بد من الانخراط عندئذ في عدد من الحراكات وحملات المناصرة، منها حملات مناصرة الشعب الفلسطيني.
- كما هو معلوم أن العدالة الاجتماعية لا تستقيم دون حماية البيئة. من واقع خبرتك، ما هي أبرز الأمثلة لانتهاك حقوق الإنسان وما نتج عنه من تدمير مباشر للبيئة أو غير مباشر؟
ربما من أهم الأمثلة التي أود ذكرها، ما يحدث حاليًا في موزمبيق بعد اكتشاف حقل غاز طبيعي في الشمال. فبعد اكتشافه، توجهت الحكومة، بدعم من عدد من شركات الغاز والنفط، لتدمير البيئة المحيطة وطرد السكان من بيوتهم وقراهم، فضلًا عن تضرر تجمعات صيادي الأسماك نتيجة أعمال التنقيب واستخراج الغاز.
أود الإشارة إلى أن نفس الشركات التي تنتهك البيئة وتنقّب عن النفط والغاز والفحم الحجري تقوم اليوم بما يسمى بــ "تعويض الكربون"، بحيث تنفذ عددًا من النشاطات التي تؤدي إلى تخفيض كمية الانبعاثات من غازات الكربون؛ تعويضًا عما تسبّبت به جراء استخراج الوقود الأحفوري، وهذا ما يحدث في موزمبيق أيضًا.
لكن أؤكد أن هذه مجرد كذبة كبيرة، فتعويض الكربون لا يعوّض التجمعات الفقيرة والمهمشة عما خسروه بسبب تدمير تلك الشركات للبيئة، كان الأجدر بها وضع حد لإنتاج الغازات الدفيئة بدلاً من تعويضها والتحايل بأكاذيب مضللة.
علاوة على ما سبق، فإن بعض الشركات التي تعوّض الكربون تستعين بالحكومات المحلية للاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي لزراعة الأشجار مقابل طرد سكانها الأصليين، وهو سيناريو يتكرر في البرازيل ودول جنوب شرق آسيا.
لذا، ومن أجل وضع حد للاستيلاء على أراضي السكان الأصليين، لا بد من تفعيل القوانين التي توقف الحكومة عند حدها.
وفي الوقت الراهن، هنالك حرب ضروس تشنها الحكومة مُحاولةً الالتفاف على القانون لشرعنة سرقة أراضي الفقراء، لكن نحن لهم بالمرصاد، ففي "أصدقاء الأرض – موزمبيق" ننظم حملات ضغط ومناصرة وتوعية للناس بحقوقهم، إضافة إلى تنفيذ حملات ضغط ضد عدد من منتجي الوقود الأحفوري مثل شركات شل، توتال، إني، وساسون المتخصصة بالغاز الطبيعي، وفال وغندال المتخصصتين بالفحم الحجري.
كذلك، نضغط على البنوك والصناديق السيادية التي تموّل الانتهاكات البيئية، حتى نجحنا بطرد شركة شل. ولا يزال الطريق طويلاً، لكن الاستمرار في بذل الجهود مهم.
- يروج بعضٌ لفكرة أن السدود مصدر هام للطاقة البديلة والمتجددة، عن طريق استغلال طاقة الوضع التي تولّدها المياه ومن ثم تحريك التوربينات التي تولّد الطاقة للعديد من المدن والقرى، فيما يجهل كثيرون الآثار الضارة لتلك السدود، تُرى ما هي تلك الأضرار؟ وما السبيل لتلافيها أو التخفيف من آثارها؟
قد يبدو للعيان أن السدود حقًا مصدر للطاقة المتجددة، لكنها تساهم إلى حد كبير في انبعاث غازات الدفيئة، أهمها غاز الميثان الذي يؤثر على البيئة تأثيرًا مضاعفًا مقارنة بغاز ثاني أكسيد الكربون، فالبحيرات الصناعية التي تشكلها السدود تغمر مساحات واسعة من الغطاء الطبيعي الذي بدوره يتخمر منتجًا غاز الميثان.
إضافة إلى ذلك، فالعديد من السدود أنشئت في أماكن نائية لا يقطنها أحد سوى تجمعاتٍ بشرية مهمشة من السكان الأصليين والقرى الفقيرة، الذين لا تُلقي لهم الحكومة بالًا، ولا يتلّقون التعويضات التي يستحقونها بسبب التهجير وانتهاك البيئة.
زِد على هذا، فإن السدود تمنع الطمي من السير في مجرى الأنهار والوصول إلى المصبات، ما ينتج عنه "نحر الشواطئ"، وهو ما كان واضحًا بعد إنشاء عددٍ من السدود على "نهر نارمادا" في الهند، ونهر زامبيزي في موزمبيق، تمامًا كمثالك حول سد أسوان العالي وتسبّبه بنحر شواطئ غزة.
من حق الناس معرفة ما يحدث من حولهم، وأن يُطلعوا ويكونوا جزءًا من عملية المشاركة في صنع القرار، ومن وجهة نظري، لا مستقبل تنموي للسدود، ومن الأفضل توليد الطاقة بواسطة مصادر أخرى.
- في عملكِ ناشطة بيئية.. ما التجارب التي مررتِ بها وانطوت على تحديات؟ وكيف تجاوزتِها؟
صراحة، لا أجد في مسيرتي في مجال البيئة أمرًا أكثر تحديًا من أن أرى الناس من حولي يتأذون ويتضررون، سواء بسبب الانتهاكات البيئية أم بسبب المواجهات المتكررة بين الحكومة والأجهزة الأمنية مع المسيرات والحراكات.
العديدون تعرضوا للضرب والسجن والإيذاء والتحقيق، بمن فيهم زوجي، ولم يسلم بيتنا من الاعتداء، وأعلم علم اليقين أن كل تلك الاعتداءات مُسيّسة.
ومع ذلك، لطالما كانت معنوياتنا عالية، فالقضايا التي نكافح من أجلها تستحق التضحية، والأذى الذي لحق بي لا يمكن مقارنته بمعاناة الآخرين.
- ماذا عن أهم إنجاز تفتخرين به؟
أعظم الإنجازات عندي هي المعارف والصداقات التي كسبتها ضمن مجال عملي، والقضايا الهامة التي أشارك في الدفاع عنها.
- ما هي المشاريع التي تعكفين عليها في الوقت الحالي؟
حاليًا، ينصّب تركيزي على إنقاذ نهر زامبيزي من السدود المدمرِة، إضافة إلى تنفيذ حملات المناصرة ضد تدمير البيئة بسبب استخراج الغاز والفحم الحجري في شمال موزمبيق، إذ لا تتوقف تلك النشاطات عند تدمير البيئة فحسب، بل ويتبعها الاستيلاء على الأراضي وتدمير سبل العيش للعديد من القرى.
- أخبرينا عن وجه الشبه بين انتهاك البيئة داخل الدول النامية والدول المتقدمة؟ وما موقف الغرب في كلا الحالين؟
ساذجٌ من يظن أن الاستعمار قد اختفى؛ لقد اتخذ شكلًا آخر يتمثل في تدخل الدول المتقدمة في شؤون الدول الأقل تقدمًا، ومن ثم فرض اتفاقيات مجحفة لا يستفيد منها سوى ثلة من المرتزقة والمتّنفعين الذين وصلوا إلى سدّة الحكم.
لكن في صميم الأمر، تجد أن هذه الانتهاكات التي يمارسها شمال الكرة الأرضية تجاه جنوبها هي في الأصل مصالح شركات تصب ريعها في جيوب طغمة متنفذة من رجال الأعمال، والذين لا يألون جهدًا في تطبيق نفس الانتهاكات بحق مواطنيهم، كما هو الحال في مقاطعة فلينت – ميشيغان، مقاطعة يقطنها مجتمع أميركي فقير لا يجد ماءً آمنًا للشرب بسبب ارتفاع معدلات تلوث المياه بالرصاص. كذلك الأمر في هولندا حيث تكابد بعض القرى الفقيرة انتهاكات ترتكبها شركة "شل" للنفط، بما يشبه إلى حدٍ ما معاناة أولئك القاطنين في دلتا نهر النيجر.
- من الواضح للجميع أن الاحتباس الحراري والتغير المناخي قد أثرّا على كل دول العالم، ما دفع العديد من الدول إلى المشاركة في اتفاقيات كاتفاقية باريس للمناخ من أجل الحد من هاتين الظاهرتين وآثارهما المدمرة.
برأيك هل هذه الجهود كافية؟ وما هي المسئوليات المنوطة بدول العالم للحد منهما؟
بالرغم من أهميتها، تعتري النواقص اتفاقية باريس نظرًا لكونها غير ملزمة بوضوح وقوة لدول العالم كي تلتزم بالحد الأدنى من غازات الدفيئة.
كذلك، فلا تضع الاتفاقية ضوابط على الشركات ذاتها، وتكتفي بوضع أهداف للدول كي تحققها، فلا نجد بين تلك الأهداف ما يحد من انتهاك البيئة أو تطبيق المساءلة أو التعويض وغيرها. كما من الأهمية بمكان أن تركز الاتفاقية على توفير الطاقة النظيفة للجميع، بما في ذلك توفير مصادر طاقة بديلة على مستوى المجتمعات المهمشة والبعيدة عن المدن، ووضع حل بديل لتعويض الكربون، وإلزام الشركات بتخفيض الانبعاثات وصولاً إلى الصفر.
وأشدد أن هنالك مسئولية تقع على عاتق قطاع الترفيه الذي من شأنه أن يزيد من مساعي الضغط على الحكومات والشركات العالمية ومتعددة الجنسيات كي تقف أمام مسؤولياتها أمام الناس وكوكب الأرض.
- من الواضح أن العديد من الشباب اليوم قد تولّد لديهم اهتمام بالغ بالحراكات البيئية..
ما هي أهم الجوانب التي من شأنها دفع المزيد من الشباب نحو المشاركة في النشاط البيئي؟
شباب اليوم مليء بالحماسة، فالعديد من طلاب المدارس والجامعات يشاركون في الحراك البيئي حول العالم، إضافة إلى القضايا المرتبطة بالعدالة المجتمعية. فشباب اليوم همهم الأساسي العيش في بيئة آمنة خالية من التلوث، وهو الدافع الأساسي خلف حملات المناصرة والتوعية التي نشهدها على مستوى العالم.
علينا أن نشارك الحقيقة مع الجميع، مهما بدت مؤلمة؛ فكل المعاناة التي نشهدها اليوم سببها فئة قليلة من أرباب الأموال، وعلينا أن نتحد في سبيل وضع حد لمطامعهم.
لكن، مهما بدا الواقع مخيفًا، يتوجب ألا نستخدم الخوف أداةً للحشد والتأثير، لأنه يدفع الناس لارتكاب ما لا يُحمد عقباه.
كذلك، علينا أن نعيد الديمقراطية إلى نصابها الصحيح، وفق ما تعنيه حقًا "حكم الناس أنفسهم وتمكينهم من السيطرة والوصول إلى مواردهم".
ومن جهة أخرى، على الناس تخفيف أنماط الاستهلاك وشراء ما لا ينفع، والاتجاه نحو التقنين والتركيز على ما هو ضروري ومهم بدلًا من التبذير والتكديس، من أجل رفعة المجتمع وردّ الجميل لكوكب الأرض.
- ما هي رسالتك لمتابعينا والناشطين البيئيين حول العالم؟
كونوا فضوليين وتعلموا المزيد والمزيد.
اطلّعوا على ما يحدث حول العالم واجعلوه الدافع خلف الرغبة في مستقبل أفضل وبيئة أكثر أمانًا، فالكثير من الظلم يُرتكب باسمنا.
حاولوا المشاركة قدر الإمكان في كل ما هو نافع ومفيد، وليكن التضامن نهجًا أساسيًا لكل حراك.
اعتمدوا رواية الضحية بدلًا من ادعاء المجرم الذي إذا ما أظهر "الحِجج" جميلة وجذابة، فعلى الأرجح أن جُرمه كبير.
وأخيرًا؛ على عوام الناس أن ينظروا إلى الصورة الكاملة، وليدركوا أن التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها، بل يتطلب تظافر الجميع من أجل حماية الكوكب.