شذرات بيئية وتنموية.. صحافة ومُبادرة ونفايات مدرسية وزيتونة خضراء
خاص بآفاق البيئة والتنمية

سيرة الحياة المهنية للصحفي عبد الباسط خلف
في مثل هذا الصيف قبل 26 عامًا، دخلت عمليًا بلاط "صاحبة الجلالة"، وحصلت على أول أجر من المهنة التي تسكنني وأسكنها.
البداية والمران كانا في جريدتي "الفجر" و"الشعب" المقدسيتين، وواصلت صقل التجارب في تلفزيون آفاق بنابلس وإذاعتي "الأحلام" و"البلد"، ثم "الحياة الجديدة". بعدها في "الفنون" ومجلة "العربي" بالكويت، ثم "حوارات" السعودية، فـ"المنارة" الإماراتية، وعرب 2000 المهاجرة، تلتها مجلة آفاق البيئية والتنمية، الفضاء الأخضر الجميل، وراديو "ألف"، ثم البيئة والتنمية والسفير البيروتيتين، وملاحق: "سنابل"، و"صوت النساء"، و"نداء الطفولة"، و"حق العودة"، ومجلة ينابيع، وموقع ديوان العرب، وقليلاً في "راية إف أم"، وتلفزيون "وطن"، وإذاعة النجاح.
انحزتُ منذ البدايات للبيئة، فتابعت ووّثقت استهداف مرج ابن عامر، وكنت شاهدًا على تدميره بالإسمنت ووأد مساحاته الخصبة، وحاورتُ معظم وزراء الزراعة والمحافظين ورؤساء بلديات جنين عن سبب الاستمرار في تدمير المرج، دون إجابة مقنعة.
بحمد الله، نلت 10 جوائز دولية وعربية ومحلية، وتشرفتُ بمعرفة حارسات الحقيقة وحراسها شرقًا وغربًا، والتحقت بدورات وورش عمل في الوطن، وعمّان، والمنامة، ولشبونة، وجنيف، ونيويورك، وواشنطن، وإسطنبول، ودبي، وقاهرة المعز، وطوكيو بوابة الشمس.
وزرت مقرات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة الصليب الأحمر، وراديو أمريكا، والخارجية الأمريكية، والخارجية البرتغالية، وصحيفة نيويورك تايمز، والجامعة العربية، وشبكة CNN والأونروا، والبيان الإماراتية، ووكالة الأنباء الأردنية، وبعثات مصر وسوريا والجزائر والإمارات في واشنطن.
تعمّقت وما زلت؛ في الشأن البيئي، وخضت تجارب جديدة في الإخراج الوثائقي، وانجرفت للتاريخ الشفوي، وتتبّعت هموم طوباس وأغوارها ست سنوات.
بعد ربع قرن ويزيد في البيت الإعلامي، و24 عامًا في وزارة الإعلام، خلصتُ إلى أن مقتل الصحافة والمعرفة يكمن عمومًا في الانغلاق والعموميات والتوقف عن تطوير الذات، وجمالها في عشقها والالتزام بأخلاقياتها.

رئة برقين
أطلقنا في آذار الماضي مبادرة لمئوية مدرسة برقين وبلديتها لمساعدة مصابي الفايروس المُستجد، بــ اسم (رئة برقين)، جمعنا نحو 25 ألف شيقل، واشترينا 8 أجهزة توليد أكسجين، ورتبنا نقلها إلى المرضى عبر المتطوع قاسم شلاميش، واستفاد من المبادرة 52 مريضًا، بعضهم استخدم الأجهزة فترات طويلة.
الجميل في الفكر التعاوني الاعتماد على الذات، وتوفير المال، ومساعدة غير المقتدرين، ولو أن مرضى البلدة ابتاعوا أجهزة خاصة، لكلفتهم نحو 100 ألف شيقل، وهذا يعني أننا وفرنا قرابة 75 ألف شيقل على أهلنا، وقدمنا أنموذجًا في العمل الجماعي، وامتلكنا 8 أجهزة ستكون متاحة لكل من يعاني أمراض الجهاز التنفسي.

نفايات مدرسية تشوه طرقاتنا وتنقل رسالة محبطة تمس بمكانة المدرسة والمعلم والأسرة والطالب
نهاية العام
حين نقنع طلبتنا بالتوقف عن تمزيق كتبهم ودفاترهم نهاية كل فصل، وعندما نُدخل حب المدرسة إلى قلوب تلاميذنا ومعلمينا، وتبديل أمنيتهم من العطلة وإغلاق صفوفهم إلى انتظار العام الدراسي، عندئذ سيصلح حال التعليم.
استطلعت آراء البعض حول ظاهرة النفايات المدرسية.
راشد الشايب قال إن المشهد نفسه يتكرر منذ خمسين عامًا، وهذا يعني أننا لم نتغير أو نتعلم.
ووصف د.علاء عثامنة نهج التعليم في بلادنا بــ "الفاشل" وبامتياز، لاعتماده على التلقين وحشو المعلومات " التي في معظمها مكررة "، لذا يشعر الطالب بأن الكتب عبء كبير عليه.
ويأسف المربي عائد جعايصة لمشهد نهاية العام، قائلًا إنه مؤلم ويحتاج إلى علاج.
ومن جهة نظر المعلم أسامة خطيب، فبتر الظاهرة يبدأ بإصلاح النظام التربوي، وإيجاد قوانين ترتقي بالتعليم.
وتساءل د. عماد دواس عن مشروع التعليم الذي كان يعدنا بتكرار تجربة فنلندا.
فيما يرى عبد الحميد خلف أن كراهية المدرسة والكتب وبعض المعلمين، لها أسبابها وعلاج ذلك ليس مستحيلًا، رغم صعوبته.
تأخرنا عن طرح مبادرة لتطويق هذا المشهد، لكننا بحول الله سنطبقها العام القادم، وفيها سننسق مع شركة للورق والكرتون لتدوير الدفاتر والكتب بدل تحويلها لنفايات تشوّه طرقاتنا وتنقل رسالة محبطة تمس بمكانة المدرسة والمعلم والأسرة والطالب.
نطلب المساعدة من أهلنا ومعلمينا وطلبتنا ومتبرعينا ومتطوعينا، وسنوزع عدة نقاط لشراء الكتب والدفاتر التالفة بمبلغ رمزي، ثم نعيد تدويرها، وننسق مع شركة محلية لاستيعاب ما نجمعه، ونتفق مع إدارة "مكب زهرة الفنجان" على تقديم حاويات لفرز النفايات لخمس مدارس.

مسك
سمعت أول مرة بجامعة بيرزيت في الابتدائية، وما زلت أذكر "مانشيت" جريدة الفجر يوم قتل الاحتلال الطالبين جواد أبو سلمية وصائب ذهب على أرضها خريف 1988.
كنت أشاهد زيتونة الجامعة الخضراء بكامل وقارها، وأظن أن حرمها تحرسه أشجار السماء الباسقة. صرنا نسمع عن مواجهتها ببراعة لقرار الاحتلال إغلاق أبوابها، وتتبعنا سيرة طلبتها الذين يلمعون في سمائنا ويعطرون أرضنا بمسك الحرية.
دخلت بيرزيت أول مرة عام 1993 لتسجيل رفيق دراسة في كلية العلوم، رأيناها ممتدة باسمة، وشاهدنا "اللوجو" الذي نقل لنا بالصور.
تستلقي الجامعة على ربوة، وتواجه اللد ويافا والساحل، وتجمع الوطن كله في طلبتها وخريجيها وأسرتها.
التحقت بها لإتمام الدراسات العليا صيف 2009، ونفذت دراسة تطبيقية استمرت 6 أشهر سعت إلى الإسهام في تحويل الجامعة إلى حرم صديق للبيئة. أول ما فعلته قبل الوصول إلى دائرة القبول والتسجيل النظر بإمعان في نصب الشـهداء، الذي يستهلّهم شرف الطيبي، والبحث عن اسمي صائب وجواد، وشاءت الأقدار أن ألتقي لاحقًا بالحارس أبو أسعد، الذي حكى لي تفاصيل مجد بيرزيت وعرس دمها.
يحمل البحر نسماته ويهديها لفرسان بيرزيت، الذين يكمل اليوم فادي وشحة سجلّ شرفهم الرفيع، وتطير زهرة برتقال من يافا لتنثر شذاها على رخام شرف، وعيسى، وجواد، وصائب، وموسى، وعبد الله، وإبراهيم، وجمال، وعماد، وعبد المنعم، ويحيى، ومحمد، وفتحي، وياسر، وعبد الله، وخليل، وناصر، وصالح، وضياء، وأيمن، وجمال، وإيهاب، وعبد اللطيف، وعمر، وساجي.
يحق لنا الفخر ببيرزيت، التي منحت فادي ورفاقه الحفاوة والتكريم وأوجعها قلبها على غيابهم، وأقامت عرسًا بهيجًا لفادي، وقادت العمل التطوعي بمبادرات لافتة.

الناصرة
تكامل
عاد شريان الحياة ليربط من جديد بين شطري الفؤاد: الداخل المحتل وجنين.
في الأدب كنا نستعير البرتقال والبحر للدلالة على خسارتنا الفادحة، أما في طفولتنا فكنا نسمع مصطلحات غير لطيفة تصف أهلنا، والتصقت بألسن بعضنا. فلا "عرب لإسرائيـل"، هم الذين يتفوقون علينا بصمودهم وما لحق بهم من ويلات.
لم تُفرق لوحات التسجيل الصفراء والهوية الزرقاء، بين الأصل والفرع، أو بين الجسد والروح.
إنهم أصحاب البيت ونحن الضيوف. كانت جنين تجمع الناصرة وقراها وحيفا والجولان، خسرت جنين بعد نكبة 1948 (14) قرية مساحتها 268,414 دونما هي: المنسي، وزلفة، ومعاوية، ومصمص، ومشيرفة، واللجون، ومقيبلة، والمزار، وصندلة، ونورس، وزرعين، وبرطعة الغربية، وسالم، وأم الفحم، التي تنافس والدتها جنين.
كنا نرى القادمين من الجولان السوري بلهجاتهم الجميلة، ولباسهم التقليدي، وشواربهم المميزة، وصرنا نميز بين لهجات الشمال عن المثلث وحيفا.
حين نراهم نسترد برتقال يافا، وأسوار عكا وجزارها وسمكها، ونعود إلى بشارة الناصرة، ونعتلي إسكندر أم الفحم، ونؤسر بسهول زرعين، ونشمخ بكرمل حيفا، ونعيش كبرياء الجليل، ونلمس رمال النقب البعيد.
"خيتا" و"خيّا"، وتشديد القاف، ومد الكلمات، وقلب الهاء إلى ألف، وتحويل الضمير هم إلى هن، والإطاحة بالميم لصالح النون، وغيرها مزيج جميل من لهجات تشكل لوحة لعُشاق فلـسطين.
يعود الأهل اليوم عبر حاجز الجلمة لا معبرها، ونستقبلهم بالترحاب، فهم ليسوا قوة شرائية بل امتدادات الروح التي تبعث الحياة في الجسد المكلوم الواحد.