
حبيب معلوف
أكثر من ثمانية أشهر مرّت على انفجار الفساد في مرفأ بيروت، ولا يزال كثير من المواد الخطرة في المرفأ ومحيطه لم يخضع لمعالجة سليمة! لا وزارة البيئة حاضرة ولا أحد ينسّق بين المتدخلين الكثر في ما يجري في ساحة الانفجار ومحيطه، والتخبط سيد الموقف، في المرفأ وخارجه، بشأن كيفية معالجة الردميات والمستوعبات والمواد الخطرة والنفايات.
كثيرون كتبوا عن انفجار المرفأ ونيترات الأمونيوم وكيفية وصولها وسبب تخزينها، فيما لم يحظَ التعامل مع المخاطر البيئية المتولدة عن الانفجار (والتي لا تقلّ خطورة عنه) بالاهتمام اللازم.
ورغم أن لوزارة البيئة، بحسب قانون إنشائها، مهام محددة تتعلق بالأمن البيئي والصحي، ما كان يفترض التدخل السريع وتشكيل لجنة خاصة تهتم بالآثار البيئية للانفجار داخل حرم المرفأ ومحيطه، إلا أن الوزير "دميانوس" قطار تأخر كثيرًا. نحو أربعة أشهر مرّت على الانفجار، تلقّى خلالها قطار كتباً من الأمانة العامة للمجلس الأعلى للدفاع ومن المدعي العام التمييزي والنيابة العامة التمييزية والمحقق العدلي والأمانة العامة لمجلس الوزراء ووزارة الدفاع، قبل أن يصدر في 26/11/2020 قراراً (229/1) بتشكيل لجنة برئاسة مدير عام البيئة برج هتجيان لمتابعة الأعمال الميدانية وتقديم الاقتراحات اللازمة.
إلا أن المدير العام للوزارة، رغم وجوده في منصبه منذ نحو ربع قرن، ومع خبرته المفترضة وكل ما كُتب حول الموضوع، حصر مهمة اللجنة في متابعة الأعمال الميدانية ذات الصلة بسلامة البيئة داخل حرم المرفأ، وكأن محيط المرفأ من أحياء سكنية تحوّلت أكواماً من الردميات التي تتضمن مواد خطرة، خارج لبنان، وخارج المخاطر البيئية والصحية! فضلاً عن الفوضى الناجمة عن كثرة المتدخلين في هذا الملف (البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والاتحاد الأوروبي وجمعيات NGO تتلقى تبرعات... ) طالما أن هناك لجنة رسمية يفترض أن تنسّق بين كل هذه الجهات.
كان على اللجنة التي يمكنها، وفق قرار الوزير، أن تستعين بمن تشاء من الموظفين والخبراء من خارج الملاك لإنجاز مهمتها، أن تقدم تقريراً موجزاً بعد عشرة أيام من تشكيلها، وآخرًا مفصلاً في 40 يوماً.
وكان منتظراً أن يخرج الوزير أو المدير العام، ولو متأخراً، بمؤتمر أو بيانٍ يوضح حقيقة الوضع البيئي في المرفأ ومحيطه، بعد الأخذ بملاحظات الخبراء والإجابة عن أسئلتهم بشأن مخاطر المواد الخطرة التي اختلطت بالردميات (كالأسبستوس وغيرها)، والتي تحتاج إلى إدارة خاصة. كما كان منتظراً إصدار توجيهات حول إدارة الأزمة، ووضع خطة طارئة للمعالجة تتضمن طرق التدخل والوقاية وطرق الفرز وأماكن التجميع ووجهة المعالجة، إلا أن أياً من هذا كله لم يحصل، ولا يزال التخبط سائداً، في المرفأ وخارجه، حول كيفية معالجة الردميات والمستوعبات والمواد الخطرة والنفايات بشكل عام.
المدير العام لا يجيب عن الأسئلة متذرعاً بحاجته إلى إذن من الوزير للتصريح، والأخير لا يرد على الاتصالات ولا يصرّح ولا يصدر بيانات توضيحية. وما من شيء يفسر هذا التكتم وقلة الشفافية في مقاربة هذا الملف (وغيره من الملفات البيئية الحساسة) سوى قلة المسؤولية، أو للتغطية على ارتكاباتٍ ما، أو لعدم التعرض لأسئلة محرجة تفضح الفشل… ولـ"يكتمل النُقُل بالزعرور"، جاء تورط معظم المنظمات البيئية، إما في اصطياد مشاريع إعادة الترميم التي تستجلب تمويلاً، أو في مشاريع "مدعومة" لتنفيذ مشاريع سخيفة، كمشروع "بحر بلا بلاستيك" (مليون يورو من الاتحاد الأوروبي) الذي انشغل في البحث عن البلاستيك في البحر، في وقت كانت، ولا تزال، المواد الخطرة في المرفأ ومحيطه تقتل ببطء، وبالمباشر، سكان المناطق المجاورة.
في هذا السياق، لم يُفهم من كلّف شركة ألمانية بنقل نفايات خطرة وُجدت في المرفأ (من دون مناقصة ولا قواعد ودفتر شروط)؟ وإذا ما كان أي تواصل قد جرى مع الأمانة العامة لاتفاقية بازل التي تعنى بنقل النفايات الخطرة عبر الحدود؟ وهل طلب من القضاء ضمّ ملف هذه النفايات الخطرة الى الملف الأساسي لمعرفة من أدخلها ومن يتحمل مسؤولية تخزينها ومن يفترض أن يتحمل مسؤولية معالجتها؟
من يتحمل مسؤولية سوء إدارة هذا الملف الذي ضاع بين رئاسة الحكومة التي تشكل كثيراً من اللجان "غب الطلب"، وبين وزارة البيئة مع وزير مستقيل سلّم الملف لمدير عام لم يستطع تاريخياً أن ينجز أي إستراتيجية ولا أي ملف في الوزارة بشكل منتظم؟ ومن كان من هذه اللجان مسؤولاً عن معالجة كمية كبيرة من ألواح الأسبستوس المسرطنة المرمية مع الردميات قرب الاماكن السكنية، ولا سيما في منطقة الأشرفية؟ وكيف يُعِد المدير العام للبيئة أن هذه المواضيع خارج مهماته أو تكليفه؟
وليس موضوع الأسبستوس جديداً؛ إذ تعرف وزارة البيئة مخاطره جيداً منذ منتصف التسعينيات، وبعد إقفال معمل الأمينت في شكا عام 2000 واستقدام وزارة البيئة خبراء ومساعدات لمسح الأضرار على كل الأراضي اللبنانية، والتخلص من هذه المادة التي ثبت علمياً وعالمياً أنها خطرة ومسرطنة. لذلك، كان يفترض، منذ تلك الفترة، أن تكون لدى وزارة البيئة سجلات بأماكن وجود هذه المادة، مع طرائق الإزالة والمعالجة، إضافة الى خطط مستدامة للتعامل مع كل النفايات الخطرة.
ولعل الأكثر غرابة في ملف المواد الخطرة داخل حرم المرفأ وخارجه ادّعاء مسؤولين رسميين أن لا قدرة للبنان على التقييم وأخذ العيّنات والإدارة والمعالجة، إن عبر إيجاد خيارات مستدامة، أو عبر الترحيل وفق شروط الاتفاقيات الدولية، وكأن هذه المواضيع مفاجئة وتطرح للمرة الأولى، علماً أن لبنان تسلّم أكثر من هبة ومساعدة دولية لإدارة النفايات على أنواعها. لكن الإدارة العامة والوزراء المتعاقبين أهدروا الفرص والآمال من دون أن ينجزوا إستراتيجية متكاملة لكيفية التعامل مع هذه المواد، لا سيما المصنّفة بالخَطِرة منها!
ليست كارثة المرفأ فريدة من نوعها من ناحية المخاطر التي خلّفتها. أمور كهذه قد تحصل في أي دولة حول العالم. لكن وظيفة الوزارات والإدارات المعنية أن تُراكم خبرات وتجتهد في إيجاد الآليات لتجنّب المخاطر أولاً، وإدارتها ومعالجتها عندما تحصل، وتعديل القوانين والخطط وتطويرها كلما تطورت المعطيات. أما في لبنان، فإن الشعور، بعد كل كارثة، هو أننا نبدأ من جديد، وأن لا دولة تحمي المواطن ولا مؤسسات، وأن الأموال التي تُنفق على الرؤساء والوزراء والمدراء تذهب هباءً من دون أن يتراكم ما يحمي مصالح الناس وصحتهم وسلامة الموارد وديمومتها.
الأسبستوس يقتل 107 آلاف شخص سنوياً
مادة الأسبستوس أو الأمينت من المواد المعدنية غير العضوية التي تشبه الألياف وتدخل فيها عدة مركّبات ومواد كيميائية. صناعتها قديمة منذ بداية الثورة الصناعية (يقال إن أول معمل أُفتتح في المانيا عام 1870). استخدمت هذه المادة على نطاق واسع في قطاع البناء، ولا سيما في أسقف المنازل والمعامل وكمادة عازلة داخلياً وخارجياً وفي أنابيب صرف المياه والأدخنة والتهوية، وكذلك في صناعة السيارات (في البطانة والمكابح والقوابض).
وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية للعام 2018 إلى أن أكثر من 107000 شخص يموتون سنوياً بسبب سرطان الرئة وورم المتوسطة وداء مادة الأسبستوس نتيجة التعرض لهذه المادة في أماكن العمل أو في أماكن يحصل فيها تنّشق متكرر لغبار ألياف الأسبستوس.
فيما أوصت منظمة الصحة العالمية بأن أنجع طريقة للتخلص من الأمراض ذات الصلة بالأسبستوس هي التوقف عن استخدام هذه المادة بجميع أشكالها، ونبّهت إلى اتخاذ كل التدابير للحيلولة دون التعرض لهذه المادة أثناء إزالتها.