بين التغوّل العمراني وغياب الحواكير..لماذا نحن بحاجة إلى "اللامركزيّة" في إدارة مياه الأمطار؟
خاص بآفاق البيئة والتنمية
باتت مشاهد السيول والأضرار التي تتسبب بها الأمطار في مُدننا وقرانا كأنها حتمية لا بُد منها، ومع كُل حادثة نجد المواطن الذي يُلقي اللوم على البلدية ونجد المُهندس الذي يلوم من قام بتصميم وتنفيذ شبكة تصريف الأمطار وقد نجد البلديّات تلوم الحكومات المركزيّة بسبب قلّة الدعم والميزانيات لتنفيذ مشاريع تصريف ضخمة، وفي كُل هذا نادرًا ما نجد خُطة شموليّة لمُعالجة الموضوع من كُل جوانبه، لا تتمحور حول شبكات تصريف مياه الأمطار التقليدية فقط (ليس لأنها غير مُهمة)، ولكن لأنها تشكل جُزءاً من الحل وليست الحل كُله، فالإدارة المستدامة لمياه الأمطار تستدعي منّا التفكير في حلول محليّة ولا مركزيّة، تُمكننا من مُعالجة مياه الأمطار أقرب ما يكون إلى مكان سقوطها... وهو ما يتحدث عنه هذا المقال.
|
مع كُل شتاء، باتت مشاهد السيول والأضرار التي تتسبب بها الأمطار في مُدننا وقرانا كأنها حتمية لا بُد منها، ومع كُل حادثة نجد المواطن الذي يُلقي اللوم على البلدية ونجد المُهندس الذي يلوم من قام بتصميم وتنفيذ شبكة تصريف الأمطار وقد نجد البلديّات تلوم الحكومات المركزيّة بسبب قلّة الدعم والميزانيات لتنفيذ مشاريع تصريف ضخمة، وفي كُل هذا نادرًا ما نجد خُطة شموليّة لمُعالجة الموضوع من كُل جوانبه، لا تتمحور حول شبكات تصريف مياه الأمطار التقليدية فقط (ليس لأنها غير مُهمة) ولكن لأنها جُزءٌ من الحل وليست الحل كُله، فالإدارة المستدامة لمياه الأمطار تستدعي منّا التفكير في حلول محليّة ولا مركزيّة، تُمكننا من مُعالجة مياه الأمطار أقرب ما يكون إلى مكان سقوطها مثل "آبار الجمع" و"الحواكير" ولكنها لم تعد موجودة في زمن الغابات الاسمنية والتغول العمراني.. وهو ما سنتحدث عنه بتفصيل في الأسطر القادمة.
التغوّل العمراني..وحفلات تزفيت الشوارع!
سواء كُنا نتحدث عن رام الله أو أم الفحم أو حتى يافا وغزّة، فإن المُدن الفلسطينية تشهد توسعًا عمرانيًا بوتيرة لم يسبق لها مثيل، وهذا في الواقع حال الكثير من مُدن العالم. هذا التوسع غالبًا ما يكون على حساب المناطق الخضراء، التي تختفي غالبًا بعد "التعمير"، بكلمات أخرى فإن المساحات المُغطاة بالمباني والشوارع والمصانع تتزايد بوتيرة عالية مما يعني ازدياد المساحات الصماء وهكذا تزداد كميّات مياه الأمطار الجارية (التدفق السطحي) مما قد يؤدي إلى أضرار جسيمة وخسائر فادحة بسبب الفيضانات والكميات الضخمة من المياه المتدفقة.
في دراسة، أعدها صلاح عجور ويونس مغاير حول عُرضة مناطق مُختلفة في قطاع غزّة للفيضانات، يؤكد الباحثان أن استخدامات الأراضي هي أحد أهم العوامل في تحديد عُرضة المناطق للفيضانات، بالأخص عند الحديث عن المناطق "الصماء" وهي تشكل حوالي 35 % من الأراضي في قطاع غزة، بينما في إطار مدينة غزة تبلغ مساحة المناطق العمرانية إلى 44 كيلو متراً مربعاً والتي تشكّل 60% من مساحة مدينة غزة، وهو ما يجعلها أكثر عُرضة للفيضانات مع الوقت.

خريطة توضح مدى التوسع العمراني في غزة – من دراسةعجورومغاير (2020)
مع هذا التوسّع العمراني وتزايد المناطق الصماء، تصبح شبكات تصريف مياه الأمطار مع الوقت عاجزة عن تصريف الكميّات التي صُممت من أجلها، فالمعادلة الأساسيّة التي يتم اعتمادها في حساب كميّات مياه الأمطار تأخذ بعين الاعتبار كميّة الأمطار السنوية مع مساحة المناطق الصماء بالإضافة إلى معامل جريان السطح والذي يكون بين 0.6 إلى 0.85 في المناطق الصمّاء (المبنيّة) بينما في المناطق الخضراء والزراعية يتراوح بين 0.08 إلى 0.3، وهو ما يعني ببساطة، أن تحوّل أي مساحة خضراء نفاذة إلى مساحة صماء يزيد من المياه المتدفقة فوق سطحها بحوالي ضعفين إلى 10 أضعاف.

صورة توضيحية: الفرق بين مناطق مبنية حيث معامل الجريان 0.55 بينما في المناطق الخضراء 0.1
بالإضافة إلى المناطق السكنيّة، نجد تحديدًا في مُدننا الفلسطينية، أن الكثير من "الشوارع المُزفتة" -التي تنتشر صورها في المواقع الإخبارية ضمن أخبار (احتفاليّة) بتعبيد شارع ما في مدينة أو قرية ما- تكون مرصوفة بشكل تام بمواد صماء، وأحيانًا كثيرة لا يكون الميل فيه كما ينبغي، كما أنها لا تحتوي على مناطق نفاذة تستوعب المياه المتدفقة على طول الشارع مثل المساحات الخضراء الصغيرة، هذا إن كان هناك شبكات تصريف في الشارع أصلًا، وكل هذا يتسبب بزيادة العُرضة للفيضانات في مُدننا.
الفيضانات وثقافة البلاط والـ"كراميكا"!
كُل ما سبق، لا يعني بأي حال من الأحوال التوقّف عن العُمران والبناء، ولكنه يعني ضرورة الأخذ بالاعتبارات البيئية في تخطيط المُدن والمناطق العُمرانية. أحد أبرز الأمثلة "البسيطة" على هذا هي التوصية التي يعتمدها بعض خُبراء الإدارة المستدامة لمياه الأمطار في المُدن بأن يُترك 15% من قطعة الأرض المُراد تعميرها لتكون مساحة نفاذة لمياه الأمطار التي تتجمع على السطح عبر المزاريب والمناطق الغير نفاذة في الساحات.
في الواقع، فإن أحد الظواهر التي يُمكن رصدها في العديد من البيوت الفلسطينية المُعاصرة، وبشكل خاص في الداخل، هي رصف و"تبليط" ساحات البيوت حتى لا يكاد يبقى أي مساحة نفاذة، والتي يجب أن تكون بحسب توصيات لجان التخطيط في الداخل بـ15% على أقل تقدير، أي لو كانت مساحة قطعة الأرض الخاصة بالبيت 400 متر مربع، فيجب أن يُترك حوالي 60 متر مربع كمساحة خضراء نفاذة لمياه الأمطار. غالبًا، فإن التوصيات تُقدر النسبة بأكثر من 15% وهو ما يختلف من منطقة لأخرى، ولكن غالبًا فإن النسبة الموصى بها هي الثلث، أي حوالي 33%.
في الواقع، فإننا نجد الكثير من أصحاب المنازل لا يُطبقون الحد الأدنى من التوصيات، ومع ذلك نجد في الكثير من الأحيان أنه يتم توصيل مياه "المزاريب" المتجمعة على الأسطح إلى شبكة الصرف الصحي بشكل غير قانوني، بدلًا من تصريفها إلى منطقة نفاذة في الحديقة. وتعتبر هذه المُخالفة القانونية من المخالفات الشائعة في البلدات الفلسطينية في الداخل، وهي تساهم بشكل كبير بعجز شبكات التصريف عن وظيفتها التقليدية في تصريف "الصرف الصحي" فقط، وبالتالي تؤدي إلى فيضان شبكات الصرف الصحي واختلاطها بمياه الأمطار، وانتشار التلوث في المدن هذا غير الأضرار الجسيمة للممتلكات.
"رسوم الأمطار" وغياب الحواكير
المناطق الخضراء والنفاذة في داخل ساحات المنازل، تُعتبر من العناصر الضرورية في أي منظومة إدارة مستدامة لتصريف مياه الأمطار، ولهذا نجد ألمانيا، وهي من الدول الرائدة اوروبيًا في تشجيع النُظم اللامركزية في تصريف الأمطار تفرض "رسوم أمطار" ( بالألمانيّة: Niederschlagswassergebühr) على المساحات الصمّاء في المناطق العُمرانية.
بحسب الطريقة الألمانية، فإنه يتم احتساب مُجمل المساحات المرصوفة بالأسفلت، الباطون وحتى أسطح المنازل كمساحات صماء ويُجبى حوالي 2.6 دولار مقابل كل متر مربع. وإذا ما أراد المواطن أن يحصل على إعفاء من هذه الرسوم أو على جُزء منها على الأقل فعليه أن يقوم بالاعتماد على الحلول اللامركزية في تصريف والاستفادة من مياه الأمطار، مثل صهاريج جمع مياه الأمطار وغيرها من النُظم التي تسمح برشح (فلترة) المياه وتغلغلها في التربة لتغذية المياه الجوفيّة أو حتى زيادة المساحة الخضراء.
بالعودة إلى فلسطين، فإن غياب المساحات الخضراء من الحيز العُمراني، يتسبب بلا شك في زيادة حدّة تدفق مياه الأمطار والسيول والفيضانات، سواء عند تصميم الطرقات والساحات في القرى والمدن، أو حتى عند تصميم "الحواكير" التي تقلّصت مساحاتها بشكل كبير، وغابت عن الكثير من مُدننا التي تحوّلت مع الوقت إلى "غابات اسمنتية".
نجاعة هذه المساحات الخضراء، في الحد من حدّة تدفق مياه الأمطار تتعلق بشكل أساسي في تصميمها، فمثلًا، فهناك الكثير من التصاميم لحدائق الأمطار (Raingarden) المُخصصة للمساعدة في ادارة مياه الأمطار، وهي ناجعة تمامًا كما حدائق الأسطح المُصممة بعناية، والتي تحظى باهتمام متزايد مؤخرًا وقد نُشرت أبحاث علمية كثيرة عن نجاعة حدائق الأسطح في تخزين ومعالجة مياه الأمطار. أما عندما تكون المساحات الخضراء مُصممه بطريقة لا تسمح بنفاذ المياه إليها (كأن تكون مسوّرة مثلًا)، أو حتى إن كانت التربة المستخدمة غير نفاذة بالشكل المطلوب فإن هذه المساحات الخضراء قد لا تحقق النتائج المرجوّة. وهذا يدعونا للتفكير أكثر في مجال تصميم الحدائق والمساحات الخضراء، باعتباره جُزءاً من منظومة ادارة مياه الأمطار لامركزيًا، وليس باعتباره مُجرد "ترف عُمراني".

https://www.youtube.com/watch?v=iEav7kbbIJw&feature=youtu.be
الدمج بين الحلول اللامركزيّة والشبكات التقليديّة!
لعل فكرة إضافة رسوم لمياه الأمطار مرفوضة تمامًا في فلسطين، ولكن في الواقع فإن الرسوم والضرائب التي يدفعها المواطن يذهب جُزء منها لمد المزيد من شبكات التصريف، بينما نجد هذه الشبكات لا تفي بالحاجة دائمًا وهو ما يؤكد ضرورة دمج حلول "لامركزية" إلى جانب الشبكات التقليدية، وهو ما تؤكده دراسات كثيرة، بالأخص وأن للكثير من هذه الحلول فوائد لا تقتصر على مياه الأمطار، فوجود الحواكير المنزلية يزيد من الأمن الغذاني في الحيّز العمراني، ويساهم في التقليل من المياه المتدفقة إلى الشوارع وفي الشبكات، وكذلك آبار الجمع تضمن ذلك، وفوق هذا يُمكن استغلال المياه كمصدر بديل وطبيعي و(مجاني).. ووجود المساحات الخضراء كالحدائق العامة وبرك تجميع مياه الأمطار يُمكن أن يُستغل لانعاش السياحة وفوق هذا؛ يساهم في زيادة التنوع الحيوي بل وتنقية الأجواء في المدينة، ويساهم في ارتفاع أسعار العقارات في محيطه وغير ذلك من فوائد، غير وظيفته الأساسيّة وهي: الحد من أضرار الفيضانات والسيول!