ليس كل ما يقال عنه غذاء هو في واقع الأمر غذاء، بل يمكن القول أن هناك نوعين من المواد التي يطلق عليها هذا الاسم: هناك الغذاء الحقيقي وهناك الغذاء المزيف المصنع. تعج محلات البقالة بسلع غذائية مصنعة، تحتوي في غالبها مواد جالبة لمشاكل الإنسان الصحية، بما تحتويه من مواد مُلَّوِّنة ومواد نكهة ومحسنات الطعم ومواد حافظة. ولربما لا نجافي الحقيقة إذا جئنا بالوصف الأدق للمواد الحافظة وهو القول بأنها "مواد حافظة للطعام هادمة للأجسام". وهي بالتالي سلع غير طبيعية وقد تصل نسبتها في كثير من الحالات إلى ما يزيد عن 95% في محلات البقالة والسوبرماركت. غير أن الأمر لا يختلف في مجال إنتاج المحاصيل الزراعية عنه مع السلع الغذائية المصنعة، وبعد ما عرف بالثورة الخضراء، بتبريراتها المضللة والقول أن العالم بحاجة إلى استخدام الكيماويات الزراعية والبذور المهجنة (ولاحقاً المعدلة وراثياً وحديثاً المحصنة أو المدعمة حيوياً/بيولوجياً)، لإطعام الجوعى والقضاء على المجاعة في العالم. المقال التالي يفند مغالطات ومزاعم شركات الصناعات الغذائية والبذور والكيماويات الزراعية.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
التنوع والتداخل في الزراعات البيئية والطبيعية |
نحتاج الغذاء كبشر لتستمر حياتنا ويستمر نشاطنا، لكن ليس كل ما يقال عنه غذاء هو في واقع الأمر غذاء، بل يمكن القول أن هناك نوعين من المواد التي يطلق عليها هذا الاسم: هناك الغذاء الحقيقي وهناك الغذاء المزيف المصنع. تعج محلات البقالة بسلع غذائية مصنعة، تحتوي في غالبها مواد جالبة لمشاكل الإنسان الصحية، بما تحتويه من مواد مُلَّوِّنة ومواد نكهة ومحسنات الطعم ومواد حافظة. ولربما لا نجافي الحقيقة إذا جئنا بالوصف الأدق للمواد الحافظة وهو القول بأنها "مواد حافظة للطعام هادمة للأجسام". وهي بالتالي سلع غير طبيعية وقد تصل نسبتها في كثير من الحالات إلى ما يزيد عن 95% في محلات البقالة والسوبرماركت.
غير أن الأمر لا يختلف في مجال إنتاج المحاصيل الزراعية عنه مع السلع الغذائية المصنعة، وبعد ما عرف بالثورة الخضراء، بتبريراتها المضللة والقول أن العالم بحاجة إلى استخدام الكيماويات الزراعية والبذور المهجنة (ولاحقاً المعدلة وراثياً وحديثاً المحصنة أو المدعمة حيوياً/بيولوجياً)، لإطعام الجوعى والقضاء على المجاعة في العالم، حيث شهدت الزراعة على مستوى العالم تغيرات جوهرية أهمها التحول من الزراعة المتنوعة إلى الزراعة الأحادية، والاعتماد المكثف على الكيماويات الزراعية من الأسمدة والسموم، والاعتماد على الميكنة والميكنة الثقيلة المعقدة وصولاً إلى ما بات يعرف بالزراعة الدقيقة والزراعة "الذكية"، التي ليس فيها ما يدل على الذكاء سوى كلمة "الذكية"، الواردة في الاسم نفسه، فيما هي زراعة تزيد من عبودية المزارع من خلال الارتباط بالشركات المختلفة وطمس الذكاء الفلاحي كله، والذي تطور عبر مئات بل آلاف السنين، لتجعل الفلاح معتمداً في عمله الزراعي على أجهزة تحمل برامج جاهزة، تأتي من شركات تريد فرض مزيد من السيطرة، ليصبح المزارعون عبيداً لتلك التكنولوجيا الغريبة، فاقدين لحرية العمل والإنتاج، لتكريس مزيدٍ من الأحادية، عبر الاعتماد على بذور معدلة وراثياً تنتجها شركات بعينها.
ويقصد بالتحصين الحيوي/البيولوجي (أو التقوية والتدعيم الحيوي) تلك العملية، التي يتم من خلالها تحسين القيمة الغذائية للمحاصيل عن طريق الممارسات الزراعية، تحسين النبات بالطرق التقليدية، أو عن طريق التكنولوجيا الحيوية الحديثة/التعديل الوراثي. وهو يهدف إلى زيادة مستويات المغذيات في المحاصيل أثناء نمو النبات وليس خلال معالجة المحاصيل. ويجري التركيز هنا على عدد محدود من العناصر، فيما يحتاج الإنسان في غذائه إلى طائفة واسعة ومعقدة من العناصر الغذائية، فحل مسألة سوء التغذية أو الجوع لا تقتصر على إنتاج محصول فيه نسبة أعلى من الحديد أو الزنك. ومرة أخرى؛ فإن هدف هذه التقنية هو تكريس سيطرة الشركات المنتجة لبذور المحاصيل المدعمة حيوياً ولتكريس الزراعة الأحادية للمحاصيل، وبالتالي استمرار اعتماد المزارع على ما تقدمه الشركات الاحتكارية بالتعاون مع الحكومات.
المصاطب في الزراعات البيئية المتداخلة- تصوير سعد داغر
شمّاعة الجوع
وبالعودة إلى المبررات التضليلية لاستعمال البذور المعدلة وراثياً والبذور المُدَعمة أو المحصنة واستعمال الكيماويات الزراعية، فهي ترتكز إلى ضرورة إطعام الأعداد المتزايدة لسكان الأرض وإطعام الجوعى والقضاء على المجاعة. لكن الحقائق تبين أن هناك أهداف خفية وراء هذه السياسات، بينما تتستر وراء مسألة إنتاج غذاء كافي، وأوضح دليل على ذلك أن أعداد الجوعى في العالم لم تتناقص، بل على العكس هي في تزايد ليصل عدد من يعانون الجوع إلى نحو مليار إنسان، وعدد من يعانون سوء التغذية إلى حوالي مليارين، بمعنى أن ما يقارب الأربعين بالمائة من سكان العالم إما أنهم جوعى أو يعانون من سوء التغذية، ما يدلل بوضوح على أن تلك التقنيات لم تسهم في الحد من الجوع أو سوء التغذية، بل العكس تماماً هو الصحيح، فهي ساهمت في زيادة أعدادهم.
ومن الأدلة على أن أهداف تلك السياسات ليس ما يتم الإعلان عنه، بل هو الدفع بالعمل الزراعي نحو مزيد من الزراعة الأحادية، التي تعتمد على عدد محدود جداً من المحاصيل، إذ نجد أن التركيز ينصب على التوسع في زراعة فول الصويا، الذرة والأرز، حيث نجد أن أكثر من 90% من الصويا والذرة على سبيل المثال يذهب لإنتاج أعلاف للحيوانات وليس كغذاء مباشر للإنسان. وقد يقول قائل بأن معظم الحيوانات، التي ستتغذى على تلك المحاصيل في النتيجة ستتحول لغذاء بروتيني للإنسان!!! وهذا صحيح، لكن نحتاج لزراعة عشرة أضعاف المساحة كحد أدنى لنحصل على نفس كمية الغذاء من البروتين الحيواني، مقارنة بالمساحة اللازمة لإنتاج غذاء بروتيني من النبات كغذاء مباشر للإنسان بدل أن يذهب كعلف للحيوانات. أي أننا إذا كنا نحتاج لزراعة دونم لإنتاج بروتين نباتي لتغذية الإنسان مباشرة، فإننا نحتاج أكثر من عشرة دونم لإنتاج بروتين لتغذية الحيوانات للحصول على نفس كمية البروتين، لكن بفارق أن أقل من نصف البروتين الحيواني يتم الاستفادة منه عند تناول الإنسان له.
إن ما يحتاجه الإنسان ليس مجموعة صغيرة ومحددة من المحاصيل يتم إنتاجها من خلال الزراعة الكيماوية الأحادية، بل يحتاج إلى التنويع العالي من المحاصيل التي يتم إنتاجها من خلال الزراعة المتنوعة بالأساليب الزراعية الطبيعية المختلفة، لإمداد الناس بالغذاء الجيد. والغذاء الجيد يقصد به الغذاء المتنوع الذي يتم إنتاجه دون استعمال السموم الزراعية، والذي يحتوي على العناصر الغذائية والمعادن والفيتامينات بالكميات والنسب التي يحتاجها جسم الإنسان لأداء وظائفه بالشكل المطلوب. وقد بينت أبحاث جمعية التربة البريطانية أن الزراعة الطبيعية تعطي غذاء يحتوي على ما يحتاجه الإنسان بشكل كامل، بينما الزراعة الكيماوية تقل فيها نسبة العناصر بمعدل 70%.
الاقتصاد المقاوم
على المستوى الفلسطيني نحن كشعب تحت احتلال هدفه النهائي إخراجنا من الأرض- كجهات فاعلة في القطاع الزراعي، بحاجة أكثر لتركيز الجهد على مثل هذا الإنتاج، الهادف لتوفير "الغذاء الجيد" لأبناء شعبنا، قبل التفكير بأي اعتبار آخر، بحاجة إلى ترسيخ الزراعة المتنوعة في إطار المزرعة الواحدة، بحاجة لإبداع العمل بأساليب طبيعية للإنتاج الموجه لاحتياجات الناس الحقيقية، بحاجة لتجنب الركض خلف سياسات تكرس الأحادية في الإنتاج لتكريس الأحادية في التفكير، عبر البرامج المتنوعة، التي تأتي على شكل مشاريع مفروضة، بعناوين خادعة مثل "الزراعة الذكية"، "الزراعة الدقيقة"، "سلسلة القيمة"، "غلوبال غاب"، وغيرها من المسميات، التي تهدف إلى تكريس الزراعة الأحادية واستمرار الاعتماد على السموم الكيماوية وملحقاتها، التي تزيد من الإعتمادية ولا تؤسس لتحرر المزارع والإنتاج الزراعي.
يحاجج البعض بأننا بحاجة لمثل هذه البرامج، بحاجة لهذه الأساليب الزراعية، وبحاجة لهذه السموم من أجل إنتاج زراعي للتصدير!!! لكن أليس الأجدر أن نطرح على أنفسنا الأسئلة التالية: ما حاجتنا لتصدير العنب واستيراد قمح الخبز بالكامل؟ ما حاجتنا لزراعة صنف واحد من الخيار لتصديره للعدو واستيراد العدس والحمص والفول؟ ما حاجتنا لتصدير النعناع والكزبرة واستيراد البصل والثوم والجزر واللوز والجوز والبطيخ والشمام والتفاح والمشمش والشعير والبيكا والذرة والبطاطا والفستق والفستق الحلبي والصنوبر؟؟
نشطاء فلسطينيون في الزراعات البيئية- تصوير سعد داغر
خرافة "الكيماوي أفضل"
فيما يحاجج البعض الآخر بأننا بحاجة لاستخدام السموم الكيماوية في الزراعة من أجل زيادة وتعظيم الإنتاج، وأننا ما عدنا قادرين على إنتاج المحاصيل دون تلك السموم. غير أن التجربة أثبتت على مر التاريخ أن بالإمكان إنتاج المحاصيل بالطرق الطبيعية وما زالت التجربة تثبت ذلك حتى هذا اليوم، إن على مستوى العالم أو على المستوى المحلي. الشيء الوحيد الذي يميز هذه الأساليب الطبيعية أنها بحاجة لمزيد من الإبداع الفردي والجمعي ولا تعتمد على وصفات جاهزة، مفروضة من المتحكمين المسيطرين على وسائل الإنتاج في الزراعة المسممة.
الأمر الجيد، أصبح المؤمنون بهذه الزراعة يتزايدون بشكل متواصل وينتشرون في ربوع البلاد من رابود في الخليل جنوباً مروراً ببني زيد الشرقية وبلعين في الوسط حتى الزبابدة والعقربانية وبيت قاد، ومنهم مجموعات شبابية، ونسوية لم يكن لبعضهم أي علاقة بالزراعة، لكن ما يدفعهم لهذا التوجه هي أسباب فلسفية إيمانية ورغبة في الإنفكاك من قيود الوصفات الجاهزة والمفروضة، وإيمانهم بضرورة إنتاج "الغذاء الحقيقي" الجيد لأنفسهم ومن حولهم، ولبقية الناس في هذا الوطن. وهنا لا نتحدث فقط عن نجاح الزراعات الطبيعية، فهي امتداد لقرونٍ من المعرفة الأصيلة، بل الحديث هنا عن الإنتاجية الأعلى لوحدة المساحة. فالزراعة البيئية على سبيل المثال تنتج غذاء يزيد بمعدل الضعفين عن الغذاء المنتج بالسموم الكيماوية من نفس وحدة المساحة. وهنا التركيز على إنتاج الغذاء، بمعنى قيمة الغذاء المنتج من المحاصيل المتنوعة من وحدة المساحة مقارنة بإنتاج محصول واحد في الزراعة الأحادية الكيماوية. علماً بأن المحصول الواحد يمكن أن ينتج أيضاً في الزراعة البيئية أكثر منه في الزراعة الكيماوية إذا امتلك المزارع المعرفة الكافية بالزراعة البيئية، على الرغم من أن الزراعة البيئية والزراعات الطبيعية الأخرى لا تؤمن ولا تطبق أسلوب الزراعة الأحادية، لأنه يتنافى مع مبادئها الأساسية.
الإنسان أهم أم المال!
لكن ماذا لو أن كل جهود المؤسسات الحكومية والأهلية والفاعلين في القطاع الزراعي والجامعات ومراكز البحث، بما يملكون من موارد مالية وكوادر بشرية توجهت نحو إنتاج "الغذاء الحقيقي الجيد"، ماذا يمكننا أن نحقق بكل تلك الإمكانيات؟ لماذا يجري تركيز معظم الأبحاث العملية التطبيقية في دور العلم على أساليب تكرس الاعتمادية، وتكرس الزراعة الأحادية بالسموم الكيماوية سواء كانت مبيدات أو أسمدة؟ لماذا ترفع كل المؤسسات التنموية شعار "الاستدامة" وفي التطبيق على الأرض تكرس ما هو عكس ذلك تماماً؟ أهو تشويه للمفهوم، أم جهلٌ بجوهره؟
إن أكثر موضوع يتحدث الناس عنه ويعملون لأجله هو موضوع الغذاء، الذي لا يغيب عن أي مجلس، وهناك قاسم مشترك في الحديث في هذا الموضوع، وهو أن الغذاء الحالي، بما يحويه من سموم هو سبب معظم ما يصيب الناس من أمراض الفشل الكلوي والكبد والسرطان والعقم …، وهم محقون في ذلك، ويعلم ذوو العلاقة المباشرة بالعمل الزراعي ما يحتويه غذاؤنا من سموم، لكن الكثير يبقى على موقفه بأن الزراعة "المربحة" غير ممكنة بدون تلك السموم، لأسباب تتعلق بالجهل بالأساليب الزراعية الطبيعية، أو لأسباب تجارية، أو لرغبة في البقاء في منطقة الراحة، فالتغيير والتفكير بأساليب زراعية غير ما اعتاد عليه البعض، يحتاج لمعرفة عميقة، هو لا يرغب في الغوص فيها، ولكن في ميزان الربح والخسارة ومهما كانت مبررات من يدافعون ويدفعون نحو مزيد من استعمال السموم الكيماوية في الزراعة، فإن معاناة طفل وعائلته يصاب بمرض عضال تنسف كل المبررات، لتبقى صحة طفل فوق كل اعتبار.