واجد النوباني شابٌ جذبته منذ سنوات حياة أخرى تختلف تماماً عن علم النفس الذي درسه؛ ليصبح التصوير وتنظيم المسارات الجبلية وبيع الميرمية والزعتر مما يقطفه من الجبال كلُ عالمه، له بصيرةٌ ترى هدايا الطبيعة بمنظور لم نألفه، فقد تكون عنده زهرة ياسمين أو نرجس أو "طِلق زعتر" تعادل مهر عروس. لا يتخيل النوباني نفسه يرتدي ثيابا بخلاف ثياب الجبل حتى لو بدا مُتسّكعاً، قلبه مكتفٍ بالجبال وما تحويه من بساتين وكروم وخرائب عتيقة، ففيها "نِعم الراحة والتوازن" حسب تعبيره. ولا عجب إن سمعنا يوماً أنه أقام عرسه على التلة. "بتخيلش حالي برا فلسطين لدقيقة". يا لها من جملة تحاول عبثاً قياس مدى حبه لهذه البلاد الغنية بالأساطير والحضارات القديمة التي تملأ كيانه لذا لا يتطلع إلى ما يرنو إليه الكثير من المغامرين من بلوغ أعلى قمم في العالم.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
واجد النوباني |
التلال بيته وبعين القلب يرى الغيمة تُسلم على "الكَرمة"؛ يحلو له أن تغيب الشمس وهو وحيد في الجبال مع أصوات البرية؛ وإذا ما حلّ الظلام تملّكه إحساس لا يمكن وصفه.. نعم إنه الخوف؛ كيف لا وهو في غير مأمنٍ من الأفاعي والثعالب والخنازير والكلاب، ويتسع المكان لواوي من هنا أو نمس من هناك، إلا أنه بحكم ما تراكم من الخبرة يتدبر أمره.
واجد النوباني شابٌ جذبته منذ سنوات حياة أخرى تختلف تماماً عن علم النفس الذي درسه؛ ليصبح التصوير وتنظيم المسارات الجبلية وبيع الميرمية والزعتر مما يقطفه من الجبال كلُ عالمه، له بصيرةٌ ترى هدايا الطبيعة بمنظور لم نألفه، فقد تكون عنده زهرة ياسمين أو نرجس أو "طِلق زعتر" تعادل مهر عروس.
يحتسي المتّة مضيفاً إليها نبتة الزعتمانة أثناء قراءته لحسين البرغوثي الذي يقول في كتابه "سأكون بين اللوز" "الجَمال لن ينقذ العالم، ولكن الجمال في العالم يجب إنقاذه".
ولا يتخيل النوباني نفسه يرتدي ثيابا بخلاف ثياب الجبل حتى لو بدا مُتسّكعاً، قلبه مكتفٍ بالجبال وما تحويه من بساتين وكروم وخرائب عتيقة، ففيها "نِعم الراحة والتوازن" حسب تعبيره. ولا عجب إن سمعنا يوماً أنه أقام عرسه على التلة.
"بتخيلش حالي برا فلسطين لدقيقة". يا لها من جملة تحاول عبثاً قياس مدى حبه لهذه البلاد الغنية بالأساطير والحضارات القديمة التي تملأ كيانه، لذا لا يتطلع إلى ما يرنو إليه الكثير من المغامرين من بلوغ أعلى قمم في العالم.
|
|
اللبن الشرقية |
الموقع الأثري المنحوت بالصخر تحت الأرض في قرية اللبّن الشرقية |
ابن القرية سعيد
يروي واجد حكايته مع الجبال لــ "مجلة آفاق البيئة والتنمية" قائلاً: "لقد ارتبطت روحي بالجبال والبرية منذ وقت باكر في حياتي؛ تعلقتُ بالطبيعة والشجر والجبال وكل تفصيلة تمتُ للأرض بصلة، لقد تواصلتُ دائماً معها بشكلٍ جميل مع الأرض وهذا يعود لطبيعة المكان الذي ولدتُ وترعرعت فيه والأجواء العائلية التي تحتفي بالأرض".
حتى اللحظة يحب واجد الوقوف إلى جانب نافذته وإطالة النظر إلى الغيوم حين تغطي قمم الجبال وبعدها يتداخل المطر مع صوت الريح والبرق والرعد؛ ويأسره مشهد الأغنام مع الرعاة أثناء قطعهم الوديان، لا تغفل عينه عنهم للحظة وهم يبتعدون رويداً رويدا فوق التلال؛ أما قطعان الغزلان الكثيرة حين تمر فإنها تخطف قلبه من قفصه الصدري، فيما تحفظ ذاكرته أصوات الحيوانات مع السلاسل الحجرية للكروم العتيقة ورائحة العشب البرّي الذي تحمله النسمات.
يتحدث عن قريته اللبّن الشرقية التي تتوسط الطريق بين محافظتي رام الله ونابلس؛ يعشقها هذا الشاب كما لم يعشق أحدٌ بلدته، ويقول في ذلك: "تشتمل قريتي على الكثير من الآثار والمواقع التاريخية لشعوب وحضارات عتيقة مرّت بفلسطين، وبعذوبة ينساب منها صدى ترتيلة من دير مهدم، وطقوس عبادة تتقدم فيه قرابين على مذبح صخري، في تضاريسها جمال وتناسق: جبالٌ وتلال ومرج واسع وأحراجٌ بريّة وأصناف كثيرة من المزروعات، وخبز طابون يفوح بحب من التنور".
يخبرنا عن سبب إدمانه لطبيعة فلسطين سيما الجبال إلى هذا الحد، يبتسم مجيباً: "حسناً اسمحي لي أن أجيب عن سؤالك نقطة نقطة، خُلق الإنسان من تراب، مما يبقي حنينه إلى الأرض بعشبها وشجرها وحجارتها، لماذا الجبال؟ لأنها المكان الوحيد الذي أشعر فيه بدفء جارف وأمان غريب فاستمد منها طاقة حياة عجيبة، تتداخل فيها العزلة والجمال وعبق التاريخ".
وينتقل إلى النقطة الثالثة أي ما يتعلق بسحر فلسطين، فيقول أن السرَّ يكمن في تمتع بلادنا بإرثٍ حضاري عظيم، ومن المُحزن جهلنا بهذا الكم من العراقة التاريخية التي تقع تحت ترابها وفوقه، وفقاً لتعبيره.
|
|
الموقع الأثري المنحوت في الصخر تحت الأرض بقرية اللبن الشرقية |
بين عمورية وخربة قيس |
ويؤكد واجد أن ما عرفناه عن فلسطين لا يُذكر أمام ما لم يتم اكتشافه. يتدفق منه هذا العشق الذي ننقله على لسانه: "من الرائع أن ندرك قدر الخصوبة والغِنى الذي أكرم الله به فلسطين لتنمو بين أحضانها أنواع لا تحصى من الثمار؛ التين مثلاً الذي كان ينبت بمعدلات أكبر من الزيتون، شجرة التين نفسها لم يكن يتسنى لها أن تُثمر في كثيرٍ من الدول الغربية من بينها أمريكا رغم بعض المحاولات بمدينة كاليفورنيا؛ نِعم عظيمة كفيلة بأن تزيد من قوة انتماءنا وحبنا لأرض الشام وفلسطين".
يخفق قلبه ألف خفقة حين يمر بأشجار اللوز والسرّيس والبُطم والقُتلب والسنديان والخرّوب والسرو والصنوبر والتين والزعرور والسُّوِّيد والمشمش والخوخ، ولكل شجرةٍ جماليتها الخاصة كما يقول، وعلى صعيد الحيوانات فإن الثعالب والضباع تعزّ عليه.
ومع صعوبة قطف العشب سيما الميرمية والزعتر بسبب نموهم بين كم هائل من الأشواك، وفي أماكن منحدرة بها كثافة شجيرات وحشائش، مما يزيد من عناء قطفها والوصول إليها؛ إلا أنه يحب هذا العمل من صميم قلبه مهما تكبد من متاعب أثناء المشي بين الجبال حاملاً حقيبة ألقى فيها زوادّة الطعام إضافة للكاميرا، فيما الكتف الأخرى تحمل رزقه من العشب الذي نجح في التقاطه، لكن التعب لا يهم طالما أنه سعيد.
وللعلم؛ تتطلب هذه المهمة جهداً لا يُستهان به، ويخطر على باله ما حدث معه قبل أسبوع: "في الخامسة عصراً صعدتُ إلى الجبل وانهمكت في تلقيط الميرمية حتى الساعة الثامنة والنصف مساء؛ وعدتُ بطبيعة الحال سيراً على الأقدام ووصلت البيت بعد التاسعة؛ ومن ثمّ بدأت مرحلة فرز الميرمية التي تحتاج إلى بذل جهد ووقت، وتساعدني في ذلك جدتي وعائلتي".
|
|
زعتر بري |
زهرة نجمة بيت لحم في قرية اللبن الشرقية |
المستعمرات شوّهت المشهد
النرجس حبه الأول، فهذه الزهرة موسمها قصير وسرعان ما يمرّ، يقول أنه يُحب كل ما فيها؛ شكلها ورائحتها ونعومتها، وحتى لا يغار الياسمين والزعتمانة والشومر والزعتر والميرمية فجميعها قطع لا تتجزأ من روحه.
ويشعر واجد بالأسف والأسى لما تتعرض له الأرض من هجران؛ موضحاً رأيه: "بدأ هذا الهجر مع دخول السلطة الفلسطينية حينها أخذ الكثيرون يركضون للمدينة طمعاً في وظيفة مستقرة، وما زلنا حتى اليوم نقاسي الأمرّين على إثر هذه التجربة، مرة أخرى استشهد بمثال شجر التين في القرية الذي يمتد على مساحة 1100 دونم مقابل 850 زيتون. وهي مساحة كبيرة، لكن التين والمشمش يبقيان لعقود فقط مما يتطلب من الأجيال أن تعيد زراعتهما؛ إلا أنه في التسعينيات من القرن الماضي توّقف الناس عن الزراعة وبطبيعة الحال الأشجار التي تموت لا تُعوّض بأخرى، وهكذا انحسرت أعداد الأشجار؛ ومع ذلك أرى ثمة بارقة أمل في السنوات الأخيرة، تتجلى في عودة البعض إلى الزراعة خاصة القمح والمقاثي".
"ليس من السهل أن يعود الشباب إلى الأرض والاهتمام بها" حسب رأيه، لكن استمرار الحديث عن ذلك من شأنه أن يرسخ الفكرة في ذهن الأجيال، لن يحدث ذلك بيوم وليلة لكن هناك أمل كبير طالما أن هناك محاولات مستمرة في هذا الاتجاه.. يقول واجد.
ويوثق على صفحته الشخصية عبر فيس بوك بيئة قريته بكل ما تحتويه من أشجار ومواقع تاريخية وآثار؛ حتى أساطير البلاد الدينية والإجتماعية، ولا ينفك عن التواصل مع أشخاص يهتمون بالطبيعة والآثار.
وعن انتهاكات الاحتلال التي تثير حنقه، يحكي لنا: "يسيطر الاحتلال على أجمل الأماكن وأكثرها خصوبة خاصة العيون؛ ويعمد إلى تشويه المشهد الريفي والبيئي من خلال إدخال نماذج هندسية غريبة عن لون الأرض".
|
|
عشق الكاميرا والقرية والجبال |
في التجوال بقرية اللبن الشرقية |
المستعمرات من أشد ما يحزن فؤاده؛ تحديدا تحويطها بطرق تخترق أواسط الجبال، حيث تقبع المستعمرة في قمة الجبل، وعلى الخرائط هذه الطريق تجسد حدود المستعمرة إلا أن الواقع يؤكد أنه حتى ما يجاور السياج ممنوع الاقتراب منه، إذ أن النار تُطلق على أي أحد يقترب لقطف عشب أو حراثة أرض؛ ناهيك عن إنشاء الاحتلال طرقاً التفافية بذريعة ربط المستعمرات ببعضها، وطمعهم المستمر في الاستيلاء على المزيد من الأجمل.
ويضيف أن (إسرائيل) تمعن في سرقة الكثير من عيون المياه وتحويلها لمنتزهات تم إدراجها على خارطة السياحة الإسرائيلية، مثل "عين مخيمر" شرق اللبّن الشرقية فبعد سرقتها تغير إسمها إلى "عين عوز" التي يتوافد إليها السياح بأعدادٍ كبيرة، وحتى من يريد أن يصل إلى أرضه ليعتني بها، فإنه بحاجة إلى استخراج تصريح.
وفي السياق نفسه يبدي استياءه إزاء السلوكيات السلبية التي يقدم عليها بعض المواطنين من تنقيب غير شرعي للآثار وتخريب مواقع أثرية واقتلاع أشجار للبحث تحتها عن كنوز أثرية؛ مشيرا إلى أن الاستخدام المفرط للمبيدات ساهم في القضاء على جودة العسل، لأن النحل لم يعد يجد غذاءً له، محذرا من حرق وتقطيع الأشجار بصورة خاطئة بغرض بيع الحطب.
ويواصل حديثه في النقطة ذاتها، وهذه المرة عن شق الطرق الجبلية بغية البناء، مما يؤثرّ بشكل كبير على مجرى مياه المطر الذي يجري منذ آلاف السنين في مسارات على غرار شعاب الجبال، وبشقِ هذه الطرق يتغير المجرى.
|
|
لعبة ترتبط بشهر آيار- تينة وينغز فيها ريشة |
مقام جبل طروجا غرب اللبّن الشرقية |
خطوة لعدم تمرير "صفقة القرن"
فاصل يستريح فيه ابن الثلاثين، مترنماً بكلمات هطل بها إلهام الجبال عليه:
رح ازرع غيمة وعـغصونا ابني كوخ من الياسمين
ويكون في عندي شباك ع تلال يطُل وبساتين
وجيراني زهور وفراشات ورعيان يعلّوا الصيحات
وبعيدة بعيدة الطرقات مسكونة غناني وحنين
يلتقط واجد الصور لأطفال القرية ويرى أن هناك رابطاً متيناً بين الصغار والطبيعة، ولا يدخر جهداً من أجل أن يحببّ أطفال القرية بالجبال، يقف بصحبة ضحكاتهم على طرف التلة ويصورهم عند شجر اللوز، ومن خلال تنظيمه للمسارات منذ ست سنوات، يلاحظ تزايد الإقبال من المشاركين سواء من الشباب والفتيات والأطفال مع عائلاتهم.
|
|
منعطفات اللبُن الشرقية اللولبية |
واجد النوباني أثناء الرعي |
(ماذا لو ضعت وأنت بمفردك بالجبال؟)، يجيبني بالقول: "أن تضيع ثم تتمالك نفسك وتقرر أن تكمل مسيرك حتى تجد الطريق الصحيح؛ فتلك تجربة جميلة، أما حلول الظلام وأنا في الجبال فهذا عالم آخر لا استطيع وصفه، شعور لا بد وأن يعيشه الإنسان بنفسه، وما أحلى المشي في العتمة".
ومما يستوقف المرء مقترحه الجاد الممتزج بالدعابة – كخطوة أولى- لتحرير فلسطين وعدم تمرير صفقة القرن وصد سياسة ترمب – والكلام لواجد- أن يشتري كل بيت حمارا وخرفان ودجاجات وأن نزرع لوز وتين ومشمش وعنب وصبر وخوخ، وأن يعود القمح للمروج والجبال، ونبني رفوف للحمام، وأن تتوقف الرحلات المدرسية عن التوجه للمسابح لتستبدل بطلعات للجبال والخِرَب العتيقة.
في وقت فراغه يتابع بشغف الأفلام الوثائقية المتعلقة بالحياة البرية وتاريخ وحضارات الشعوب، وخاصة في بلاد الشام والعراق ومصر، وعن كثب يقف على المعلومات التي نقرأها في بطون الكتب عن عالم النباتات والأشجار؛ قائلاً في أحد منشوراته: "لاحظت أن الميرمية في الجبال رائحتها الطيبة أقوى مما تكون عليه إن اجتُثت من جذورها، ونقلت لتزرع أمام البيت، فهي لا تحتاج إلى مياه الخزانات البلاستيكية، إنها تحتاج إلى بقائها في الجبال لتعيش حياتها الإجتماعية في ظلال شجر السنديان والصخور والقُتلب والسرّيس والزعتر واللُبّيد والشومر، وإكليل الجبل والبُطم الفلسطيني والخرّوب والغار، فالنباتات لا تملك روحاً وحياة إجتماعية فقط، بل حتى أن لديها مشاعر تفرح وتحزن".
|
|
واجد النوباني أثناء جولاته الجبلية في فلسطين |
واجد النوباني في أكناف التلال الفلسطينية |
وإليكم بعضا من النصائح يسديها لكم واجد إن كنتم تتوقون إلى صعود الجبال، ومن بينها أكل زِرّين (حبتين) بندورة أو أكثر كونها تمنح طاقة وغذاء.
وينبه أن الجلوس عند أشجار الزيتون لا طائل منه لأن ظلالها خفيفة، أما الثعابين إذا ما استشعرت اقترابكم منها سرعان ما تهرب، وفي حال ساوركم الخوف من الجيد الاستعانة بدرس ثوم وزِر بصل، لأن "الحية بنمّل بدنها من ريحة الثومة والبصل".
وإياكم والشكوى من تعب طول الطريق لأن هذه الطاقة السلبية تزيد من الإعياء وتُعدي الرفاق.
انتعاشة في روح واجد النوباني تسري مجدداً العهد في ختام حديثه: "أُحب أن أبقى هنا وفقط هنا؛ مع الدروب الصاعدة والنازلة وهواء البريّة البارد ورائحة العشب، فلسطين أجمل مما نتخيل، لذا لا حاجة لي أن أفكر بأعلى قمة".
|
|
واجد النوباني يحتسي المتّة مضيفاً إليها نبتة الزعتمانة |
ياسمين الجبل |