خاص بآفاق البيئة والتنمية
احتمى الشاب أيمن يحيى من الشمس بقبعة، وراح يقطف ثمار الخيار الربيعي من حقل وسط بقايا مرج ابن عامر، فيما كان رفاقه يرتبون الأكياس، ويفصلون الثمار الكبيرة عن الصغيرة.
يشير إلى أن العمل في هذا الصنف "يقصم الظهر"، ويتسبب بالتعب، لكن الخيارات الأخرى ليست أسهل منه، وخاصة في ظل موجات الغلاء.
والتحق يحيى، الموظف الحكومي، بالعمل في أيار الماضي في الزراعة، ودفعه عجز السلطة عن دفع كامل راتبه إلى البحث عن بديل، وجده في الحقول.
ويملك أيمن عائلة من 5 أطفال، وتحيط به التزامات عديدة، ضاعفها شهر رمضان وعيد الفطر، وأضطر للعمل بعد السحور، هربًا من موجات الحر الشديدة، التي ضربت المنطقة، خلال أيار الفائت.
وأشار إلى أنه "غيّر نمط حياته"، فعليه أن يكون في أيام الدوام المعتادة وراء مكتبه، ليأتي بعد الظهر إلى المزرعة، فيما يستغل العطل والإجازات لعمل صباحي، يطول أحيانًا حتى 6 ساعات.
وأيمن ليس الوحيد، الذي يعمل في الحقول، بل هناك عائلات أحضرت أطفالها، وأعدت غرفًا من الخيش والصفيح لإيواء نفسها.
حقول الخيار في جنين
ظروف قاسية
وتدبر فاطمة راشد، شؤون أسرتها ومنزلها في الليل، وتبدأ مع حلول النهار بالعمل في القطاف، رفقة زوجها وبناتها وولدها، أما الطفل الأصغر، ابن الثامنة، فتحميه الأم من الشمس بمظلة من القماش على أطراف الحقل، صنعها الزوج.
وتشعر فاطمة بأن العيش في هذا المنزل أفضل بكل الأحوال من انتظار المساعدات، ومد "اليد للناس".
وقالت إن أمهاتنا وجداتنا عشن ظروفًا أصعب مما نحن عليه اليوم، وساعدن أزواجهن، وأقمن فترات طويلة في السهول، ونحن اليوم نعاون أزواجنا، ونعلم أطفالنا بأن الحياة فيها العرق، والشمس، والتعب.
وباح إبراهيم أحمد، القادم من إحدى قرى الخليل: نأتي هنا "لنلتقط أرزاقنا"، وهذه السنة الثانية التي نقيم فيها هنا، صحيح أن الأمر ليس سهلًا، لكن ظهورنا وأيدينا اعتادت عليه.
وتابع، وهو يفرغ حمولة وعاء بلاستيكي في كيس أبيض، إن الأصعب في جمع المحصول، الانحناء الدائم، ومواجهة الشمس، والتخلص من الذباب والحشرات التي تجتمع حول الوجه.
وبحسابات أيمن وإبراهيم، فإن العامل النشيط يمكنه قطف 15 صندوقًا في اليوم، وبوسعه أن يحصل على 20 شيقلًا بدل كل ساعة.
وينشط شبان في نقل المحصول إلى محطة فرز تسبق نقله إلى الداخل المحتل، فيتحلقون حول أوعية بلاستيكية كبيرة بانتظار تفريغ الأكياس، وتتسابق أيديهم على التقاط الثمار الكبيرة وإبعادها في وعاء مستقل.
زراعة الخيار في الضفة الغربية عشوائية وخاسرة
أزمة قطف
وقال أحمد مساد "العمل هنا صعب، ونكتشف مع كل حمولة غياب الإتقان، فمعظم القاطفين لا يتعاملون مع الخيار بشكل جيد، ويتركون الثمار لتكبر، لترمى في المحطة، أو الحقل".
وتنتشر في حقول مرج ابن عامر، وسهول: عرابة، وقباطية، وفق تقديرات المزارعين قرابة 5500 دونم، لكن مصادر وزارة الزراعة تشير إلى 2800 دونم، فيما يحضر القاطفون من الخليل، وطوباس، وبلدات جنين وقراها.
وبالنسبة للمزارع حسان السبع، فإن خيار هذا العام يواجه مشكلة "عويصة"، فالعمال يتركون قرابة نصف المحصول دون قطاف، وهذا يعني إتلاف الثمار الكبيرة، التي ترفض المصانع استلامها.
وجاور السبع صندوقُا كبيراً، وبيّن أنه يتسع لـ 400-450 كيلو، واليوم كان نصف ما قُطف "برارة" ولا يصلح للتسويق، والسبب عدم الجدية من القاطفين.
ويرى المزارع محمد الأسمر، أن الدونم الناجح ينتج قرابة 5 أطنان في الوضع الطبيعي، لكن بسوء القطف يتراجع إلى النصف.
ويُباع الطن الواحد بـ 2500 شيقل للمصانع الإسرائيلية، فيما تصل التكلفة بحسب الأسمر إلى 1500 شيقل لكل دونم.
وبحسب الأسمر، فإن معظم المزارعين لا يقطفون الثمار بشكل جيد، وتتحكم المصانع بالتسويق، وتجبر أصحاب الحقول على إتلاف الثمار كبيرة الحجم، أو بيعها بسعر زهيد جدًا.
"تصدير مياه"
وحلّل مدير دائرة الإرشاد في وزارة الزراعة م. منذر صلاح أسباب أزمة الخيار، بأنها ناجمة عن مشاكل في التسويق، وعدم إبرام المزارعين عقودًا مع الشركات الإسرائيلية، وغياب شركات الصناعات الزراعية.
وأضاف إن دونم الخيار يحتاج كميات كبيرة من الماء، وهناك وجه نظر ترى بأننا "نصدر الماء" في وقت نعاني العطش، لكن عدم توفر بدائل مناسبة تجبر المزارعين على الاستمرار في هذه النمط.
وبحسب مرشد الخضار في مديرية زراعة جنين، م. جواد زكارنة، فإن إنتاج الدونم الناجح 3 أطنان بالمعدل، ويتطلب يومياً 5 أمتار مكعبة لشهرين، ويحتاج إلى عامل لقطفه، وينتج 6000 شيقل، 200 منها تكاليف، و2000 للقاطفين، ومثلها للمزارعين إذا سارت الأمور على ما يُرام.
وأكد زكارنة أن عمل المديرية يتضمن إرشادات، وتوزيع نشرات على المزارعين، ولا تتدخل مديريته في فحص متبقيات المواد الكيماوية في الثمار، التي تتولاها الشركات الإسرائيلية نفسها، وحتى لو أجرت الوزارة الفحوصات، فإن نتائجها لن يتم اعتمادها، والأمر مرتبط بالشراكات المستوردة.
عمالة ضعيفة في حقول الخيار
فوضى وغياب
وذهب المهندس في الإغاثة الزراعية، خالد داوود، إلى الاعتقاد بأن الخيار زراعة خاسرة وعشوائية، وتعني عمليًا" بيع المياه الشحيحة للاحتلال"؛ فهذا الصنف يحتاج لكميات كبيرة من المياه، وتجري عمليات الري بطريقة غير منظمة، وتصرف كميات كبيرة عليه، فيما يعاني المواطنون العطش، وتلجأ الكثير من البلديات لجدول توزيع للمياه.
ويؤكد أن المحصول يترافق باستخدام مفرط للكيماويات، ولا يجري الالتزام بـ"فترات الأمان" بعد الرش، وهذا يؤدي إلى تداعيات خطيرة على البيئة والصحة، كما يتطلب إنفاق مبالغ كبيرة.
وانتقد داوود غياب التنميط الزراعي، وعدم تدخل وزارة الزراعة الكبير لتنظيم هذا القطاع، كما فعلت في محصول الدخان، حين قيدت المساحات. وقال "الحسبة الاقتصادية للخيار خاسرة"، فالكيلو غرام يباع للمصانع بشيقلين ونصف، ويعاد بيعه بعد تخليله بنحو عشرة أضعاف في السوق المحلي".
وقال أن الإغاثة الزراعية" ليست جهة قادرة على التدخل المباشر في تنظيم القطاع الزراعي، لكنها توصي بإيجاد بدائل، واتخاذ إجراءات تجعل الزراعة عملية ذات جدوى.
وأشار داوود إلى أن العمل في الخيار يجري بـظروف "غير إنسانية"، إذ تقيم عائلات تحت الشمس الحارقة، ولا تتوفر أدنى المعايير المقبولة، وهناك عمالة للأطفال، وهي مسائل بحاجة إلى دراسة وتوفير حلول، مثلما يتطلب التسويق المحلي "إعادة هيكلة"، فهناك "سلسلة طويلة" تمر بها السلع حتى تصل إلى المستهلك بتكلفة عالية جدًا، فيما يبيعها المزارع بأسعار متدنية.
وأشار الخبير والمستشار التنموي مازن غنام إلى أن معضلة الخيار ليست الوحيدة، فالقطاع الزراعي كله يحتاج إلى هيكلة، والتي تعني توزيع الأدوار بين القطاعات المختلفة فيه، وإنهاء "حالة الارتجال" والعمل بأسلوب ردود الأفعال، ووضع خططٍ على مستويات قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى.
ووفق غنام، فإن قطاع الزراعة لا يتضمن بوضعه الراهن أي تحليل مالي، أو تخطيط، في وقت تتراجع مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير، وبالكاد تصل إلى 4%.
aabdkh@yahoo.com