"هناء البيدق" ابنة قرية نوبا شمال غربي الخليل، ترعرعت في مزرعة أهلها وتعلمت أصول الزراعة البيئية، وشهدت جمال المذاق البلدي، وفهمت معنى "عذرية الريف الفلسطيني" الذي لم يدنسه التغول الإسمنتي بعد، أو تجتاحه نفايات الاستهلاك البشري، فأصبحت من دعاة الحياة الخضرية وكان عام 2019 بداية الانطلاقة الحقيقية. "أحببت الخضرة وممارسة الزراعة منذ نعومة أظفاري". تقول هناء التي نشأت وترعرعت على حب الأرض في قريتها "نوبا" التي تضم أحراشاً على الجبال وسهولاً خصبة، حيث كانت تشارك والديها فلاحة أرضهم حول المنزل، وأراضٍ أخرى تضمنوها من أصحابها.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
 |
هناء البيدق تلتزم بالتراث الفلسطيني في غذائها ولباسها |
المعارف والتجارب المكتسبة في سني الحياة الأولى هي ما ترسخ بالذاكرة وترتبط بالوجدان، هذا تماماً ما حدث مع ابنة قرية نوبا شمال غربي الخليل "هناء البيدق" التي ترعرعت في مزرعة أهلها وتعلمت أصول الزراعة البيئية، وشهدت جمال المذاق البلدي، وفهمت معنى "عذرية الريف الفلسطيني" الذي لم يدنسه التغول الإسمنتي بعد، أو تجتاحه نفايات الاستهلاك البشري، فأصبحت من دعاة الحياة الخضرية وكان عام 2019 بداية الانطلاقة الحقيقية.
" أحببت الخضرة وممارسة الزراعة منذ نعومة أظفاري". تقول هناء التي نشأت وترعرعت على حب الأرض في قريتها "نوبا" التي تضم أحراشاً على الجبال وسهولاً خصبة، حيث كانت تشارك والديها فلاحة أرضهم حول المنزل، وأراضٍ أخرى تضمنوها من أصحابها.
المفارقة والتشبث بالجذور
كان مشهد النفايات على الأرض يزعج هناء، لذلك كانت تبادر لتنظيف محيط بيتها باستمرار، والجيد أن عائلة هناء كانت تقدر الموروث الزراعي الأصيل، فلم تستخدم يوماً مبيداً أو سماداً كيماوياً، رغم انه كان منتشراً في تلك الفترة بين المزارعين.
"كنا نزرع للاكتفاء الذاتي، فلم يغرينا المُدخل الكيماوي الذي أقنع المزارعين بإنتاج أضخم وأمراضٍ أقل، دون أن يدركوا أنهم يزرعون السم بأيديهم فيؤذون الأرض والإنسان سوياً". تؤكد هناء
درست هناء "مجال الحاسوب" في جامعة البولتيكنك في الخليل، وهناك، كانت النقلة التي لم تتقبلها ابنة الريف المصدومة باكتظاظ وتلوث المدينة.
"كان جو القرية هادئاً ونظيفاً والريفيون يأكلون مما يزرعون، ولكن حين انتقلت إلى مدينة الخليل تفاجأت بكم الاستهلاك للسلع والمنتجات المصنعة، وحجم التلوث بفعل النفايات وانتشار القوارض، الأمر المخالف لما نشأت عليه في نوبا". تقول هناء
نظراً لمجال تخصصها بالبرمجيات، اشتغلت في شركة كهرباء الجنوب ما بين أعوام 2003-2009 وشهدت خلال فترة عملها إيصال الكهرباء إلى الكثير من القرى المهمشة، حيث أضحت تشع بالنور بعد أن عاش أهلها لسنوات طويلة في الظلام.
بعد عام 2009 انتقلت هناء للعيش في رام الله ، حيث بدأت تعمل في مؤسسة UNOPs التابعة للأمم المتحدة، كما عملت بعدها مع مؤسسة GIZ الدولية حيث انخرطت أكثر في مشاريع متعلقة بالبيئة الصحية وحماية المستهلك، ما أتاح لها الاطلاع على حجم الغش في البضائع المعروضة في السوق وضعف الرقابة عليها. لذلك، بدأت هناء تبني لنفسها ولأسرتها نمط غذاء صحي يعتمدُ بشكل أساسي على منتجات الأرض العضوية.

طبق غذائي أخضر أعدته الخضرية هناء البيدق
لا للمنتج الضار والإسرائيلي
تلتزم هناء منذ عام 2000 بمقاطعة كل المنتجات الإسرائيلية من نواحي وطنية، كما تمتنع عن المنتجات المحلية المصنعة كالعصائر والمعلبات والخضراوات والفاكهة المسمدة بالكيماويات.
"لا اشتري إلا البلدي ومباشرة من أرض المزرعة" ، تشير هناء إلى أنها تتسوق من مزارع بعلية وعضوية في الخليل وأريحا ورام الله.
لماذا تفضل هناء البلدي؟ سؤال؛ إجابته يتفق عليها كل محبي الغذاء الصحي، وهو طعمه اللذيذ ونظافته من الكيماويات والتي تظهر آثارها على المدى البعيد على شكل أمراض مستعصية.
نهج حياة
في بيتها تعالج هناء أطفالها إن مرضوا بالطب الشعبي القائم على الأعشاب والنباتات الطبيعية، فكل صباح تطعمهم ملعقة عسل على الريق كبديل عن المضاد الحيوي، وتستخدم زيت السمسم "السيرج" كعلاج للسعال، وآلام الظهر، وكشرب تستخدم الأعشاب الطبية كالزهورات والبابونج والميرمية والينسون. وكل يومين تشتري صندوقاً مليئاً للبرتقال لاستخدامه كعصير طبيعي. ومن المهم ذكره، أن ثقافة "الفاست فود" تكاد تكون معدومة في بيت هناء.
حول تعزيز الوعي البيئي، تشير هناء: "أعزز لدى أبنائي حب البيئة من خلال تشجيعهم على إماطة الأذى عن الطريق وجمع النفايات، ليس في محيط منزلهم فقط، بل الشارع العام والمدرسة".

هناء البيدق في أحد نشاطاتها المجتمعية
المبادرة تجاه المناخ والخضرية
منذ سنين طويلة أخذت هناء -التي تعمل بقسم التخطيط في مؤسسة بلجيكية حالياً (Enable)- في تقليل استهلاكها للحوم، والتركيز على الأكل الخضري النباتي، لدرجة أنها كانت تصوم عن اللحوم مع مسيحيي فلسطين في الطقس الديني "صوم الأربعين" السابق لعيد الفصح المجيد. لكن التخلص النهائي من اللحوم كان بعد إصابتها بآلام ظهر شديدة جعلتها تعجز عن السير وتحريك قدمها، فبحثت عن معالج غير تقليدي نظراً لكونها لا تؤمن بالعقاقير الطبية، فالتقت بمعالج تقويم العظام "شربل بلوطين" ابن مدينة حيفا في الداخل المحتل.
"سمعت كما كثيرون عن بلوطين، وخضعت لجلسات علاج طبيعي في مدينة بيت لحم، مع الالتزام بأكل خضري، ومن أول جلسة بدأت الآلام تزول، كما تخلصتُ من مشاكل الإمساك والقولون المزعجة، وتحسن لدي عمل الغدة الدرقية. وأصبح جسمي أكثر رشاقة ونشاطاً" تخبرنا هناء عن نقطة التحول في حياتها.

هناء البيدق مع طلاب مدرسة سان جورج خلال نشاط لإنقاذ الكوكب من الاحتباس الحراري
خضريون من أجل الإنسانية
بعد أن استطاع النظام الغذائي والعلاج الطبيعي أن يخفف آلام هناء الجسدية، تعرفت أكثر على فلسفة " بلوطين" في الحياة الخضرية، وبدأت تتعاون معه لتعميم هذه الثقافة في السياق الفلسطيني، وكانت البداية أوائل عام 2019 من خلال تأسيس رابطة صغيرة جداً من خضريين من رام الله والخليل وبيت لحم، بدأوا التطبيق العملي بوجبة غذاء نباتية بحتة في مدرسة لليتيمات في الخليل آذار من العام الحالي، شهدت في حينه حضوراً كبيراً تعدى الـ 200 شخص، ونظمت إفطارين رمضانيين في رام الله والخليل في أيار الماضي.
وحول تعارض فكرة الخضرية مع الأديان التي حللت أكل اللحوم، تقول هناء أن الدين سمح بأكلها من مواشٍ عوملت بطريقة إنسانية وأكلت عُشباً طبيعياً، وذُبحت بأقل طريقة تعذيب ممكنة، والأهم أن أكل اللحوم كان في الماضي باعتدال شديد وليس بإسراف وشراهة كهذه الأيام، ما يسبب أمراضاً كالنقرص والسكري والسرطان.
خضريون من أجل الإنسانية، نقلاً عن هناء، تهدف إلى تعزيز قيم الرفق بالحيوان عبر الابتعاد عن قتله بغرض التغذية، واستبدال غذائنا بالمنتج النباتي الخضري، فيقلّ الاستهلاك مقابل تشجيع الإنسان على الأكل من الأرض مباشرة، وبالتالي تعزيز الانتماء للطبيعة والحفاظ على البيئة، ترتبط المبادرة بالحفاظ على الصحة ومقاومة أمراض القرن الـ21 كهشاشة العظام والسكري والسرطان، عدا المشاعر السلبية التي تنتاب الإنسان نتيجة أكل اللحوم.
تستشهد هناء بآية من القران الكريم تعبّر عن فكرتها: "لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" فالجسم أمانة وهبها الله للإنسان، ويجب أن يحافظ عليها باختيار الأكل الصحي والمفيد"

وجبة غذاء لليتيمات في الخليل
ولائم خضرية
في أنشطة الطعام التي تعدها هناء، لا تستخدم أي مواد بلاستيكية بل تحضر أطباقا فخارية وزجاجية من منزلها، لأنها تؤمن بالتكامل.
تعد هناء من الأطباق في ولائهما الخضرية: سلطات متنوعة من عدس وذرة وبصل وبندورة وخيار وخضار ورقية، وتعدّ شوربة عدس مع جزر وبصل، وفريكة كوجبة رئيسية، وتصنع شاورما نباتية من بروتين القمح، وكباباً من الفاصوليا والطحين، وخبز قمح بقشره، وقطائف بالجوز.
أتى لفعالية الطعام الخضري مواطنون عاديون وآخرون يمثلون مؤسسات مجتمع مدني، وآخرون مهتمون بتجربة الطعام الخضري.
“قال لي احدهم: جئت لأثبت لنفسي أن الغذاء الخضري غير لذيذ لكنني تفاجأت بالعكس تماماً". وهذا ما تؤكده هناء من الإقبال على كل الأطباق واستطابتها من الصغار قبل الكبار.
لقاء مصور مع هناء تتحدث فيه عن تنظيم وجبة طعام خضرية في محافظة الخليل

هناء البيدق من قرية نوبا قضاء الخليل
إنقاذ المناخ
تمثل هناء أيضاً حركة "إنقاذ المناخ العالمية" وقد بدأت بتطبيق نشاطات تمهيدية في شهري شباط وآذار الماضيين، نفذّها طلبة إحدى مدارس رام الله "سان جورج" من خلال حمل يافطات تعزز الوعي بالمناخ وتنقل رسائل إنسانية حول انتهاك الاحتلال للبيئة والحرية.
" أوصلنا رسائل سلمية على مستوى العالم، تجسدت في تأكيد احترام الفلسطيني لبيئته والتي تعاني بفعل الاحتلال وممارساته، وقد لقت هذه الفعالية صدىً واهتماماً على مستوى العالم.
تسعى هناء إلى إعداد نشرة عن المبادرة "خضريون من أجل الإنسانية"، وأهميتها كموضوع متكامل يشمل الصحة والبيئة والأخلاقيات العامة، بهدف تعميمها على نطاق واسع، وبالنسبة لحركة إنقاذ المناخ فتستعد للتعاون مع وزارة التربية والتعليم لإدخال هذه الثقافة إلى طلبة المدارس لتعزيز المفاهيم البيئية المتعلقة بالحفاظ على المناخ، وإيصال رسائل سياسية في ذات الوقت حول المعاناة الفلسطينية في ظل الاحتلال.